الخميس ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠

ألـَـــمٌ يختزلـُــه قــــلم

الدكتور منيــر تومـــــا

قراءة في ديوان «أنا الجاني» للشاعر شفيق حبيب

كان الأستاذ الشاعر شفيق حبيب قد أهداني مشكورا ً ديوانه الاخير الذي يحمل عنوان "أنا الجاني" مع أنني لم اتشرّف بمعرفة الشاعر شخصيا، إلا انني كنت قد قرأت له العديد من القصائد المنشورة في الصحف المحلية حيث برز دائما كشاعر مُجيد متألق في عالم الشعر، لا سيما وانه عريقٌ في نظم الشعر وله الكثير من الدواوين الشعريّة، التي صدرت له في السنوات الماضية.

يبدو من خلال قصائد القسم الاول للديوان أن الشاعر يحملُ همّا ً من الهموم العربية الكبرى التي تقضّ مضجعه، فالشاعر يعاني الألم والمرارة من الواقع العربي الذي يتـَّسِم بالضعف والتخاذل والانحطاط نتيجة لسوء الحال والنيّات السيئة والانقسامات المفتعلة، فالعرب في تصور الشاعر، بحاجة ٍ لمحاسبة الذات، والوقوفِ قليلا مع النفس واستعادة أحداث الماضي بكل أبعاده وتفصيلاته، ومناقشةِ الأمور كلها بحُريّة، ودمقراطية لكي يكون الإنسان حُرّا ً قادرا على استعادة كرامته المهدورة أمام الهجمات الشرسة الكاسحة التي يتعرض لها، منطلِقا من ثقته بنفسه وقدراته.

ويحاولُ الشاعرُ بأسلوبه الشعري الخاص إيقاظ العرب من غفلتهم وتنبيههم الى أخطائهم وتذكيرهم بها، بالسّخرية تارة وبالتقريع واللوم تارة اخرى، فالهزائمُ والانتكاساتُ زرعت اليأسَ في قلوب الناس وكرّست الشعور بالموت، وقطعت كل ما تبقى من أمل وطموح، وهذا ما جعل الشاعر يثورُ غاضبا ً، مُتألـِّما ً من حال العرب الذين أدمنوا الذلّ والهزيمة مسرعين الى إضاعة الوقت في كل ما لا يُـفيد ولا يـُسمن او يـُغني من جوع. وهو يعبِّر عن ذلك قائلا:

أضحى الضَّياعُ مواقفي وعواصفي
والحزنُ اصبحَ مأكلي وشرابي
(ص 14)

ويجلد الشاعر المتخاذلين من الحكام العرب، ويصوِّر مآسي قومه وقتامة واقعهم بعد رحلة حزينة مؤلمة فيقول:

صَمَتَ الزناة ُ.. فأرضُنا محروقة ٌ
والنارُ تأكلُ أحرفي وكتابي
فمزابلُ التاريخ جَوعي للذي
يحيا حياة َ مذلـّة ٍ وكلاب ِ

ويتعرّض الشاعر لقضايا الشعب العربي المصيريّة ويحمِّل المآسي المتعاقبة لمن تسبّبوا بها من العرب الذين نسُوا سنوات الشـُّموخ وتراثَ الأجداد، فغرقوا في وحول ملذاتهم وشهواتهم حيث يقول:

كلاب ُعُروبتي تقعى...
على أعتابهم جوعى..
لعلّ الله يُعطيها...
عظامَ موائدِ الأسيادِ والجان ِ
وتشغـَلـُها حوارات ٌ
عن النسوان ِ .. والفتيان ِ.. والخصيان ِ
عن طاقات شيطان ِ
يضاجعُ ألفَ انثى كل يوم ٍ
يفتحُ الدّنيا...
فهذا الشرقٌُ ماخورٌ
وبحر ُ قذىً وأدران ِ
ننادي
عاش هذا الزير ُ
رافعَ هامة ِ العـُربان ِ
من طرش ٍ وعميان ِ
(ص 28)

لقد عصف الواقعُ العربيُّ بأحلام الشاعر وآماله، وفقد العالم العربي أولى الحتميات وهي الثقة بالنفس، وازداد الشعور بالمرارة واليأس، ولما كان الشعراءُ يمتلكون رهافة الحسِّ والمشاعر، كانوا أسبق الناس تأثرا ً ومعاناة، والشاعر شفيق حبيب يعترف بذلك:

لم يبقَ في حاضري شيءٌ أقدّسهُ
أضحيتُ بين الورى عنوانَ إجرام ِ
الذلّ في الشرق موروثٌ نتيه ُ به ِ
سائلْ فلولَ قيادات ٍ وحكام ِ
يا أمة ً نشرتْ يوما ً حضارتـَها
مالي أراك ِ بإظلام ٍ وإعتام ِ
مالي أرى شمسَكِ الغرّاءَ غاربة ً
كيف المصيرُ إذا ما انهار أقوامي؟
يا أمة َالعُرْب ِ هلا يستفيقُ بنا
عقل ٌيقودُ إلى الميناء أعلامي؟
لا كان شعري ولا كانت قلائدُه ُ
إني سأكسِرُ بعدَ اليوم ِ أقلامي
( ص 32)

إنّ المتأمِّلَ في هذه الأبيات سوف يرى بوضوح أنَّ لغة َ الشاعر هنا هي لغة اليأس ولغة الحزن، ومن خلالها يـُعلن كفرَََهُ بالموجودات كلها، فقد تحولت حياة الشاعر اليوميّة إلى النقيض، فحزنُ الإحباط العربي بدّلَ مُتعته ألما ً يغزو الجسدَ والنفسَ كما تصوِّرُها تلك الصّورة ُ الكئيبة ُ والحالة ُ النفسية ُ السيئة ُ التي أحاطت بالشاعر.
إنّ الشاعر لا يكشف عن واقع، لكنه يكشف عن الحزن الذي يسكنه، والمرارة ِ التي تعتريه، فهو يُبرز العاهاتِ والعيوبَ التي تشلّ أجساد ونفوس العرب، وتوقف تحركهم الطبيعي في القضايا المصيرية، فالطبيعة العربية، والشخصية العربية وما جُبلت عليه، قد خالفها العرب، فأصبحوا ضدَّ قِـيَـم ِ العرب وفخر ِ العرب وشرف ِ العرب:

لماذا يصْمتُ الشـُّعراءْ
لماذا ينزوي البُلغاءُ والخـُطباءُ
والبصَراءْ..؟؟
فهل باعوا ضمائرَهم
لنخّاسي قصور ِالبغي ِ والغـَوغاءْ...؟؟
وهل يهبون ألسنة ً نعالا ً
يحتذيها السّادة ُ الأمراءْ..؟؟
إذا ديست كرامتـُنا
إذا ضُربت على الهامات ِ أمتـُنا..
بعُرف ِ شراذم ِ الجهلاءْ...
(ص 50-51)

ويرى الشاعر أنّ الشعوب هي التي تصنع جلاديها الذين يحوّلونهم إلى قطيع أشبه بالحيوان، يساقُ سَوْقَ الأنعام، ويسلبون إرادتهم ويكتمون أنفاسهم، وهو يتـَّهم أمّة العرب بأنها فقدت أملها في المستقبل لأنّ الفصام قد أصابها، ففي نفسها شيء، وفي سلوكها شيءٌ آخر، فإرادتها مسحوقة، ولا تنطق ضد الجور والطغيان ببنت شفة، وأبناءُ هذه الأمة أصبحوا موتى في صورة أحياء قد أعياهم الانكسارُ والهزيمة ُ والذل:

يا إخوتي!!
في مرجل ِ النـّيران ِ
في الكرِّ..
وفي الفرِّ..
وفي الخصام ْ..
هذي حميرُ الوحش ِ..
من قحطان.َ.
من عدنان َ..
أعياها..
وأدمى نفسَها الفصام ْ
إني أرى جهنما ً تحرقهم..
لكنهم.. نعامْ...
لكنهم.. نيامْ...
(ص 63)

إنّ الشاعرَ يحاولُ بروحه الشعرية أن يُعرّي الفسادَ المتفشّي في الوطن العربي على صعيد الإعلام مستعيرا ً مرض الكلـَب كرمز للكذب والنفاق والتلفيق والخداع والرذيلة والزور والادعاء، فيتوجه إلى الحكام العرب قائلا:

أيها القادة ُ في دنيا العربْ !!
أغلِقوا كلَّ الاذاعات ِ
وشاشات ِ المراني
قد أ ُصيبت بالكـَلـََبْ..
أصبح الطمْث ُ..
وعَوْرات ُالغواني
كلَّ ما يعني أساطين َ الخـُطـَبْ..
ونسينا أين كـُنـّا....
أين أصبحنا...
وما الآتي سوى جهل ٍ
وحزن ٍ ... ووصَبْ....
(ص 66)

ويتابع الشاعر متحسرا ً على ما آلت إليه حالة الأمّة العربية من تردٍّ وضياع بعد أن كانت تفاخر الأمم بأمجادها الغابرة المشرقة:

أمَّتي تمشي على
درب ِانهيارات ِ الحِقـَبْ
كيف كنـّـا سادة َ الدنيا
وأصْبحنا حذاءً ... و ذنـَبْ..؟؟
(ص 67)

إنّ الشاعر في هذا الشعر لا يدعو إلى تحطيم معنويات العرب، والقضاء على كبريائهم، وإنما يضع يديه على الجرح، ويصرخ بصوته القويّ كاشفا ً الستارة عن الحقيقة المؤلمة البشعة، وعن نقاط ضَعف الأمّة، فالشاعر يوضح الأخطاء ويدعو إلى تجاوزها وإن استخدم أساليب اللـّوْم والتعنيف والسخرية، فهو شاعر حُرٌّ وغيورٌ على شعبه، ومُحِبٌّ لوطنه، يرفض له ما يرفضه لنفسه من خنوع واستسلام وذل، ويتألم لهذه الأوضاع المهينة المأساوية التي تجسِّدها الابيات التالية:

ينامون َ سكرى في قرون ٍ سحيقة ٍ
وتشعِلـُهم في الصّحو دنيا الرذائل ِ
دواجن ُ هذا العصر أبناءُ يعرب ٍ
فنامي هنيئـــا ً يا فـــلولَ القبائل ِ
فلا الدّينُ يُجدي في زمان الجحافل ِ
ولا الله ُ يُعطي في عُصور ِ التخاذل ِ
( ص 39)

ويلجأ شاعرنا في قصيدة "يسوعُ ابن الانسان" الى الاستغاثة بالسيد المسيح باعتباره رمزا ً للألم والخلاص والسلام ونصيرا ً للمستضعَفين والمعذبين في الأرض حيث يجد الشاعر في ذلك عزاءً روحيا ً يخفف من وطأة آلامه ومعاناته النفسية النابعة من الأحوال المتردِّية لأمته أو شعبه الرازح تحت نير القهر والظلم والاستغلال، والسّادر عن مجابهة واقعه القاتم الأليم.

وها نحن نستمعُ إلى الشاعر وهو يخاطب السيد المسيح قائلا:

أيّها الماردُ القويُّ أجـِرْنا
نحنُ في خندق ٍ ظلوم ِ المقام ِ
أنت نورُ الدُّنى اذا جنّ ليلٌ
أنت حقٌّ يُبيدُ نارَ الخصام ِ
انت نورُ الحياة ِ في كلِّ عصر ٍ
أنت بدءٌ وأنت مِسْكُ الختام ِ
(ص 80)

ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أنّ ديوان الشاعر شفيق حبيب الذي نحن بصدده، يتضمن في قسميه الأخيرين قصائدَ تقع وتندرج في إطار الرثائيّات وشعر المناسبات، ويبرز في هذه القصائد صدقُ الشاعر في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره تجاه المواقف التي تناولها بلغة وجدانية شفـّافة رقيقة ذات نزعات إنسانية جديرة بالتقدير والاحترام.

وخلاصة القول إن الأستاذ الشاعر شفيق حبيب مطبوع ٌ بطابع الحساسية المرهفة والذي سعى بحرص متناهي الجوانب في ديوانه هذا، إلى الانخراط بقصائده، في مضمون السياسة الوطنية القومية القويمة الهادفة. وحين نتعمق في خبايا شاعريته، نقف على تطوّر الأحداث التي عصفت وما زالت تعصف بالشرق العربي، لتـُرينا وقعَها على نفسه، وانجذابَه إليها بنزعات سليمة التواصل، مضمونة الأهواء والمرامي. وقد عبـّر الشاعر عن أحاسيسه الحقيقية في محبة شعبه وأمّته ووطنه وإن كان قاسيا ً أحيانا ًمن منطلق غيرته عليهم. إنه في كل قصيدة من قصائده ذات النمط الجريء، ينطلق في قضيته انطلاق عنفوان، ويُظهر من الكبرياء الجريح، والعَزّة المُسْتباحة، ما يوقظ الضمائر، ويبسط من مشاهد الظلم والفتك ما يستثير الهمم الغافية، ويفتح من صفحات التاريخ ما يبعث الشوق إلى المجد الذي هو غاية كل الشعوب الكريمة.
ولذلك نرى أن الشاعر يدرك بأنّ نهضة الأمّة المسلوبة الإرادة لا تقوم إلا على وعي أبنائها، والخروج بهم من ظلمة الجهل والتخاذل، وهو بذلك يحسّ آلامَ شعبه ومجتمعه، وآلام نفسه المعذبة في أوطان ٍ مُستباحَة لا يجدُ المستبدّون عنها انفكاكا ً. لذا فإنه يبذل كل طاقته الشعرية لإيقاظ الضّمائر النائمة، ونشر الكلمةِ المسؤولة، وإن كانت تطفحُ ببعض المعاناة المتراكمة في صدره.

وأخيرا، أصدق التحيات، وأطيب التمنيات للأستاذ الشاعر شفيق حبيب بدوام الإبداع وارتقاء القمّة من الإحساس الجمالي، والصِّدق الوجدانى

الدكتور منيــر تومـــــا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى