الجمعة ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

مات ليلة دُخْلته

قبِّلْها.. انثرْ عطرك فيها.. شُمَّ شذى الروح في أعطافها.. دعْ أصابعك تتخلّل مسام جسدها العاري المُستعِر ثلجاً و برَدًا و نارَا.. الثُمْ ما بقي فيها من حياة مَرِّغْ رأسك في حرير سطوتها.. عانقْها..قبِّلْ ندى الليل المتلحّفة به.. لا تتركها وحيدة أبدا مع سمرتها اللاذعة الصباحية.. اجثُ على ركبتيْك..قبِّلْ شعابها ومراعيها.. انثرْ ماءك في مروجها ووديانها و روابيها...ترى كم هي شيطانٌ من العطاء و الجنون.. سيبادلك جمالها خيالات من اللذة الغافية ...صافح شعرها المتدفق مثل برد الجنوب الخجول و جرأة قيظه عند الظلال .. معها لا تتوانَ عن الإثم.. أنت لها وهي لَكْ.. هي لَكْ..فتمطَّ مثل قطّ الشتاء على جسدها ليأسرك أريج الحياة في ثناياها..إنها هي التي طالما كانت ترمق صمتك من بعيد وهي القريبة.. لا تجعلْ شيئا يأخذك منها، إنها المتعة المزمنة التي تنام فيك إلى الأبد..تسكبها في لسانها ماءً لافحا يبعث الحياة و يهزأ الموتَ الأكاذيب.. قبِّلْها بعنف.. شُدَّها إليك.. ضُمَّها باقةً من الصباح و حرقةً من الليل.. اغمس أصابع المتعة السمراء فيها.. أتُراها تصدّكْ؟!.. أبدا..إنها التي انتظرتْك طويلا لتجعل دماءك و أوصالك تندلق فيها إلى الأبد....تنفّسْ رائحة البحر المُذِلَّة في عينيها و قبِّلْ خضرة الشجر المنسكبة على ثراها..إنها الكائن الذي لن يخدعك أو يخونك مهما حييت...

تلك كانت ترانيم الأصيل الساحرة الغائمة مع "سيدي قاسم" زوج عمتي طوال الطريق إلى البيت وأنا راكب على عربته التي يجرّها حصانه الأسود و كان موضعي الدائم فوق كومة الأعشاب والبرسيم والفصّة العالية في حين يكون هو قريبا من الحصان، كان يلتفت إليَّ أحيانا و ينظر إليّ مبتسما من تحت مظلة السعف التي يضعها على رأسه و يقول لي وهو يغمز بعينيه " يجب أن تكون دائما فوق..أترى كيف تنظر إلى الأشياء و أنت فوق العربة..ثم يتم كلامه بقوله " كل ما أذكره لك أو يحدث أمامنا سرٌّ لا تذكره لأحد..هل أنت رجل؟ فأجيبه نعم بإيماءة من رأسي عند ذلك يقول بحزم وهو يحرك ساقيه المتدليَّتيْن حاثًّا الحصان على الإسراع:
" الرجل لا يفشي الأسرار".

حين نصل البيت تعانقني عمتي بعينين هادئتين بلون النعناع ورائحةٍ هي مزيج من الوشم والحناء والرمان في ذلك الوقت يكون سيدي قاسم قد أنزل العشب والفصّة وبدأ يقدمها لماشيته التي كان يعاملها بكل رقة ففي أيام القيظ كان ينظف الاصطبل و يرش على خرفانه الماء حتى تنتعش وكانت عمتي تسألني دائما عما يدور بيننا فقد كانت تشعر أن هناك أسرارا نخفيها و لكني كنتُ دائما أرفض أن أقول لها شيئا فالرجل لا يفشي الأسرار، أما سيدي قاسم فكان كل أصيل بعد أن يرتاح قليلا يأخذني في رحلة قصيرة حول البيت على صهوة جواده بعد أن يفك عنه العربة و ينظفه بخرقة مبللة كان يمسك عنان فرسه بيمناه في حين كانت أصابع يسراه تداعب سيجارة "الحَلُّوزي" ذات الرائحة الجريئة المتدفقة أما أنا فكنت جذلا رغم إمساكي بعنق الفرس في كثير من الأحيان خوفا من السقوط، كان يبتسم وهو يقول لي" أترى يا بنيَّ كيف تنظر إلى الأمور من فوق؟ ألا تبدو لك أجمل؟...

..لم يُرزق سيدي بأبناء فكان يعتبرني ابنا له والابن لا يفشي سر أبيه مهما حصل...
غير أنَّ كل الأسرار لم تؤثر فيَّ تأثير حديثه عن " ليلة الدخلة" في الضيعة فقد كان يرفض أن أرافقه إليها و يقول لي " الدُّخلة للكبار؟! " و كانت تلك الليلة ليس لها تاريخ محدد و لكنني كنتُ أعرف اقتراب موعدها كلما كثر ذهابه إلى المدينة القريبة، كان يستعد لها بطريقة مذهلة ممّا يؤكد لي أنها ليلة احتفال وعرس، في تلك الأيام الابتسامة لا تكاد تفارقه بل إن سعادته تصبح جامحة رغم أنني سمعتُه يشكو لعمتي من القحط والجفاف تلك السنة لكنني لم أشأ أن أذكر شيئا لعمتي عن ليلة الدخلة.... و قد جاءت إحداها في نهاية فصل الصيف حين قدم سيدي ومعه جرار وراءه صهريج ماء كبير على عجلتين و ما إن رآني حتى همس في أذني و هو يتطلع إن كانت عمتي ترانا وقال و هو يشدّ على يدي" الليلة ليلة الدخلة لا تقل لعمتك..عِدني أن لا تفشي سري لأحد " فأجبتُه موافقا بإيماءة من رأسي.

في الصباح الباكر أيقظتني عمتي ككل مرة يبيت فيها سيدي في الضيعة لأحمل له فطوره في صرة بها بسيسة بالبصل وبعض التمر والتين المجفف و أتوجه إلى الضيعة عند سفح الجبل، كانت نسمات الصبح الندية تداعب وجهي الصغير و أنا أعبر بساتين الرمان والبلح والحناء بدا جريد النخيل أقرب إلى اليباس وقد فارق لونه وشموخه و ككل مرة أردت أن أغسل وجهي عند مسقى الماء جانب الخزّان لكني وجدت الماء قد غار و أضحى ضحلا تغلب عليه خضرة الطحالب العفنة، واصلتُ طريقي على مهل حتى وصلتُ الضيعة وككل مرة حين أصل أدخل كوخ الجريد اليابس فأجد سيدي هناك غافيا على حصيره الشاحب، لكنني هذه المرة لم أجده، وضعتُ صرة الفطور جانب الفراش القديم المعمول من أجذاع النخيل و خرجتُ أبحث عنه، لوّحتُ نظري على مدى أفق الضيعة لم يبدُ لي شيء من بعيد غير الجرار كتلة من الحديد الأحمر المشوب بالصدإ الداكن جاثما على الأرض عند المنحدر تماما، توجهتُ نحوه وقدماي تغوصان في الحرث، اقتربتُ أكثر بدا لي المشهد غريبا فعجلات الجرار قد غرقتْ في الأرض وصهريج الماء متَّكِئ عليه كأنه فوقه، اقتربتُ أكثر كان الصهريج فوق عجلتيْ الجرار الكبيرتين، إنه فوقه تماما، تلطّختْ خطواتي خوفا وأنا أقترب، أحثّ الخطا ببطء مرير والجرار يبدو أبعد مما كنت أتصور، غاصت رجلاي في التربة المبتلة الباردة، تثاقلتْ خطواتي لمَا التصق بأقدامي من وحل، أخيرا هاهو الجرّار أمامي و قد غاص نصفه في الطمي والوحل و فوقه صهريج الماء وقد فرغ ماؤه تماما، جثوتُ على ركبتيّ و أخذتُ أمشي على أربع باحثا عن سيدي قاسم في ذهول ورهبة، تنزلق قدماي فأسقط باحثا في شغف وجنون وارتعاش أبحث و أبحث و ألتفت بتوتر على غير هدى تلملمني شمس الصباح التي تلوح خجلةً من بعيد...أبحث وجِلا بارتعاد و أشعة الشمس تنسكب بسكون على صفحة مياه البحر البعيد الحزين...و أخيرا جانب العجلة الكبيرة أو أمامها لمحتُ..نعم رأيت قليلا من شعره الأبيض و قد انغرس رأسه في أرضه السمراء و اختلط ماؤه بدمائه فيها، يداه مفرودتان،أصابعه تتخلل مسام جسد الأرض..الآن فقط تذكرتُ كلامه في طريق العودة، هاهو يتمرّغ في سطوتها، يعانقها و يقبّل ندى الليل المتلحِّفة به، كانت تلثم ما بقي فيه من حياة هي التي انتظرتْه طويلا لتندلق دماؤه و أوصاله فيها إلى الأبد، لم أدر ماذا أفعل، كان لديّ رغبة في أن أصعد أعلى التلّة حتى أرى الأمور بصفاء أكثر، ولكني وجدت نفسي أقترب منه وشرعتُ أناديه بصوت مرتعش خائف " سِيدي يا سِيدي...سِيدي..." لمستُ ظهره، لم يجبني حاولتُ أن أخرج رأسه من الوحل حتى يسمعني..حاولتُ جرّه أو تحريكه و لو قليلا ولكن عبثا كان جسده قد التحم بأرضه و أصبح كتلة من الماء والدماء والتراب، كنتُ أرتعش و يداي ترتجفان بعنف، ظللتُ جامدا لا أدري ماذا يمكنني أن أفعل، تراجعتُ إلى الخلف و حاولت الوقوف على قدميّ فلم أستطع من وطأة الوحل والخوف، شعرتُ كأن هناك شخصا يراقبني أو يحوم فوقي ، أخيرا لا أدري كيف خرجتُ من الوحل و أخذتُ أنزل المنحدر عائدا بمفردي إلى البيت، أمشي على قدميّ هذه المرة، بالفعل تبدو الأمور غير واضحة على الأرض، طوال طريق العودة كنتُ أفكر في عمتي بعينين جامدتين.....كانت سنة قحط تحجّر منها البحر وشحّ فيها المطر..
مات " سيدي قاسم" ليلة دُخلته....و كنتُ الشاهد الوحيد على زواجه..

و كان لابد أن أفشي سرّه هذه المرّة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى