السبت ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠

الأيـــادي

ميمـون حـرش
أقرأ «الزلزلة»...
وأصيح بملء دمي، وأصيح بملء فمي:
تولد الآن في وطني قنبـــــلة
ستفرخ سبع سنابل،
في كل واحدة مئة،
فلتبارك يـــد الله كل يـــد من لهب.

الشاعر: محمد عمران.

 نحات شهير، يعرض منحوتاته الأنيقة، بألق فنان مسؤول،ومؤمن بأن الفن بما هو صنو الحرية، وانعتاق الإنسان من قيد الإنسان، فقد لا يفتح باب سجن، لكن قد يقوى -غدا ربما- على فتح العيون لترى بشكل جيد فظائع هذه السجون. يفعل ذلك، دون أن يستعجل الأمور، يؤمن بمقولة الفرنسيين: الوقت لا يزال مبكرا لفعل أشياء كثيرة.

 هو فنان يشبه كثيرا منحوتاته المعروضة، الفارق أن روحا إلهية نفخت فيه، في حين هذه المنحوتات، هي جميلة حقا، لكنها بلا روح، ومع ذلك يرفض أن يقتنع بهذا الفارق بينه وبين منحوتاته، بالمقابل يرى أن الأعمال الفنية، إذا كانت بلا روح، فهي "ترد هذه الروح" عبر خلق الجمال، وإشاعة المتعة، وحسبها هذا.

 حين يعرض منحوتاته، تغص القاعة بعدد لا يستهان به من الزوار، منهم الفنانون، والكتاب، والشعراء، والرسامون وحتى الناس العاديون.. حين يرى إليهم، ويستقبلهم لا يفرق بينهم، يعتبرهم مثل منحوتاته، أوجزء منها على الأقل، كما لو كانوا يتقمصونها.

 معرض الفنان، هذه المرة، شهد حدثا لافتا، يتمثل في أن مجوعة من الزوار، حين كانوا يتأملون تمثالا، بدون ذراعين، تـبَـدَّى كواسطة العقد بين المنحوتات جميلا، بديعا، أبدوا اعتراضهم، بل تبرمهم، وقالوا، بلغات مختلفة، لكن بإجماع:
التمثال كان سيكون أجمل لو جعلت ذراعيْه تَـفْـرعان.

أضافوا:
لقد قسوت عليه، جعلته يعاني بدون ذراعين، لذلك فكر في اقتراحنا.

 وحين صارت القاعة فارغة خلا الفنان بنفسه، تأمل التمثال مليا، وبدأ حوله يدور ويدور، مرة وجها لوجه، ومرة ظهرا لظهر، إلى أن انتهى به الأمر إلى «إضافة ذراعين» للتمثال.
وفي الغد حين عاد الزوار عثروا على فنانهم ميتا، مسجى وسط المنحوتات، لعلكم تعرفون الذي حصل: «لقد خنقه التمثال بيديه».

 حالنا اليوم، في بلداننا العربية، أشبه بتمثال الفنان الذي حكيت لكم حكايته، أنتم تعرفون أننا باليد نقوم "بالواجب" على أحسن ما يرام، بها نهب ثمن الفوضى حين نرشو، و باليد هم يقبضون الثمن؛ بعض الأيدي ترشو، والأخرى تطرق الأبواب، والأخرى تشعل النيران، ولا تعرف كيف تطفئها، وأيدٍ لا تفتح الأبواب إلا إذا نظر أصحابها من كوة الباب ليتأكدوا بأن الطارق ليس فارغ اليدين، بل غانم، وأكثر الأيادي طولا هي التي،رغم كل هذه الفظاعات،لا تـُمد من أجل إيقاف هذا الزحف من الاختلاسات، بل يحرص أصحابها على رفعها من أجل واجب تحية احترام، وتقديم تعظيم سلام لكل اللصوص ؛ تخيلوا، إخوتي، هذه المفارقة، هي شبيهة من يشتري حشفا( التمر الرديء) ويلحظ سوء كيلة، ولا يقوى على رده، وفوق ذلك يجلبه لأولاده.

إننا حين نصوت على غير المناسبين، لنضعهم في أمكنة غير مناسبة، نكون قـد وضعنا أعناقنا في أيدي هؤلاء الخونة، وبأيديهم الخسيسة يضعون هم أشروطه الإعدام حول الأعناق. فلــم الشكوى، ألسنا نحن من يجعل أيدي هؤلاء طويلة أكثر من اللازم.

أمرنا مضحك حين ننتظر المناسبات حتى نرفع علامة النصر. سهل جدا أن نرفع اليد لنشكل علامة نصرٍ لا نستحقه أصلا،فعلنا ذلك أكثر من مرة: في حرب غزة كثرت الأيادي الملوحة بالنصر، وبحت الأصوات بالمظاهرات ؛وما أكثر الأيادي التي لوحت بالنصر لأن فلانا فاز في الانتخابات، ولأن علانا نال مفتاح عمودية مدينة معينة.. لا نعرف سوى أن نرفع أيادينا من تخلف، وجهل تضحك منهما بقية الأمم، يد هنا ترفع، وفم هناك يفتح من أجل "التنديد"،نستمريء الأقوال ونتحاشى الأفعال، نحن ماركة مسجلة في هذا بين الأقوام، ليس منا نسختان، نحن فقط لا غير.

 لاتستهينوا، إخوتي، بأيديكم، تستطيعون بها أن تفعلوا المستحيل، لكن لا تنتظروا المناسبة(حسبنا ما انتظرنا)، و لعل أهم شيء يمكن أن نفعله بها هو أن نشير بها إلى لصوص مدننا، بها نفضحهم؛ هم فوق، ونحن تحت هذا ما فتحنا عليه أعيننا، ولكن أليس هذا دافعا هو من القوة بحيث يبرر لنا ترجمة القولة المأثورة التي تنص على أن الثمار العالية هي التي تغري بالرشق، ومع ذلك هم (اللصوص) ليسوا مثل هذه الثمار في هذا المثل، لا أحد يرشقهم، نحن نفلح ليس في خصام هؤلاء الأعداء الذين استنزفونا، بل في خصام أنفسنا وإخواننا.

اليوم الذي نقتنع فيه بأن أدينا قد تجعل الكبير الخسيس ينزل من برجه العاجي إلى الحضيض نفهم حين ذاك ماذا يقصدون بقولهم: "يد واحدة لا تصفق". نستطيع بأيدينا أن نحارب الخسة حيثما كانت فوق أوتحت، لا يهم، الأساس هو أن ندع الأيدي تقوم بوظيفتها، أما تركها – كأن فالجا أصابها- لا تصلح سوى لهش الذباب، ونشه فبترها أفضل والله.

ومن "زوربا" الشخصية الأسطورية اليونانية،نتعلم كيف لا نصبر على الخلل، شامخا بدا حين بتر أصبعه لأنه كان يعيقه في صناعة الخزف، لم يتردد في ذلك حين أحس بأن هذا الإبهام إنما يحول دون ما يريد، وإذا كان زوربا هذا بتر أصبعه لأنه يعيقه، فما يكون حاله مع أصابع الآخرين إذا كانت معيقة لما يطمح إليه؟!. دعونا نحسب كم يدا نهبت خيرات مدننا، وبدل أن تبتر، خضبت بالحناء، لنتعلم الدرس:"كيف نصنع المستحيل بأيدينا، شرط أن نتركها تقوم بوظيفتها في الغرس، البناء،العطاء، البذل،وحتى في استخدامها كسياط لجلد كل سارق، ولعل أهم شيء نفعله هو أن نمتنع عن أن نضع أيدينا في أيدي من يكرس الرشوة دون حسيب ولا رقيب.ونضع في جيوب الراشين، بدلا من الورقة الخضراء،عقربا.

أطفال الحجارة، كالقناديل، جاوؤنا بالبشارة بمجرد حجارة، فضحوا سياسة إسرائيل بأيديهم الصغيرة، كانت عزلاء، لكن حين وضعوا فيها الحجارة، صارت كبيرة، وطويلة فصفعوا بها وجه الصهاينة الأنذال( لست أدري من قال: لو كنت أملك يداً طويلة لصفعت بها وجه العالم).نحـــن لا نريد أن نصفع العالم، نريد فقط أن نغير المنكر باليد هنا والآن:" من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان".

 لندق ناقوس الخطر، بأيدينا نفعل ذلك، وبها نضرب على أيدي اللصوص عندنا؛الطفل حنظلة( شاهد رسومات الفنان الكاريكاتوري ناجي العلي) يتبدى في رسومات العلي أشعث الشعر، بأسمال بالية مرقعة، يدير ظهره للواقع العربي الذي خذله، ولم ينصفه، ولعلكم انتبهتم إلى يديه( الأساس هنا عندي هما اليدان)، يشبكهما وراء ظهره، وكان ممكنا أن يحتج ويداه ممدودتان، ولعل الرسالة هي:"إلى من يهمه الأمر، لقد شبكتم يدي من أجل أن تظل أياديكم أنتم ممدودتين"،في كل المدن، في كل الدول العربية، من الماء إلى الماء، لدينا أيضا حناظلنا، ماأكثرهم، كلهم بنفس ملامح حنظلة العلي، لكن لا أحد يهتم بهم في القرى، الجبال، السواحل، وسط المدن، وفي كل مكان!. وحتى لا نخذل هؤلاء في مدننا، وحتى نجعلهم يرون إلينا وجها لوجه، وليس ظهرا لظهر كما فعل حنظلة ناجي العلي من كره، واحتجاج،، حري بنا نحن- الكبار- أن نفكر في مستقبلهم، علينا أن نفكر معهم لا عنهم حتى نهيئهم لغد أفضل، وقبل هذا الغد، دعونا ننخرط في الواقع لفعل الواجب، لنترك أيادينا تتشابك من اتحاد، لندعها تندى من تماس حتى ينبت في أطرافها الورق الخضر من أجل صغارنا،لأن كل مجتمع يُخذل فيه أطفاله، ولا يفكر في مستقبلهم، فهو إلى دمار.لنرفع علامة النصر من أجلهم، ولكن قبل ذلك لنقطع دابر المحتالين، واللصوص،نبدأ بأيديهم الآثمة التي استمرأت الرشوة، فصارت طويلة أكثر من اللازم.

 الكاتبة القنبلة أحلام مستغانمي رأت أن الإنسان عليه أن يصاب بالعمى لبعض الوقت، لأن الأشياء من حوله، من كثرة رؤيته لها، لم يعد يراها. وأنا أميل، عن إعجاب، لهذا الرأي، وأضيف لو أن الإنسان يجرب العمى لمدة 24 ساعة فقط، ويستيقظ في أول يومه، لكن دون ذراعين، حينئذ سيتحسر على أشياء كثيرة، أكثر من ذلك سيكتشف قيمة يديه وسط العتمة.

وأختم مقالي بأن أدعو الله أن يبارك لكم في جوارحكم.

ميمـون حـرش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى