الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم مهند عدنان صلاحات

البعد التاريخي في رواية الشهيد غسان كنفاني "رجال في الشمس"

إن الأدب الراقي السهل الممتنع والذي يأخذ أكثر من تفسير ومن وجه وتحتمل أكثر من قراءة ويشير لأكثر من مرحلة تاريخية أو واقعة في ذات الوقت.

أدب غسان كنفاني بحد ذاته كان يحمل أكثر من وجه وأكثر من رؤية سواء للواقع الحالي أو لمرحلة تاريخية سلفت، أو لواقع مستقبلي لم يحضره غسان إنما استطاع عبر وعيه الفكري والسياسي أن يحسن استقرائه.

رواية الشهيد غسان كنفاني كباقي رواياته حشدت أكثر ما يمكن أن يقال فيها من محاولات استقراء للماضي أو واقع الرواية أو مستقبل الشعوب العربية وتحديدا الشعب الفلسطيني الذي جاءت الرواية لتحكي وقائع نكبة عام 1948م التي ألمت بالشعب الفلسطيني وأنجبت الو جيل من اللاجئين الفلسطينيين.

هذه القراءة التي أقوم فيها حول الرواية لا تتناول الرواية من زاوية محددة كما تناولها البعض ، فهي لا تقتصر فقط على قراءة الشخوص أو قراءة الأحداث على حدا، لكنها قراءة لبعض الأحداث في النص ودمج بعض الشخوص في ذات الأحداث للخروج بإسقاط حقيقي للرواية على الواقع،ومن هنا سأحاول استقراء بعض الفقرات من جسد الرواية، وأحاول إسقاطها على التاريخ الذي تسبب بنكبة العام 1948م، ومن ثم محاولة أخرى لإسقاط زوايا أحداث الرواية على الواقع لأوضح كذلك مدى عمق رؤية الشهيد كنفاني في استقراء المستقبل لنعطيه رؤية أكثر واقعية وأكثر تحليلية ولنبدأ بهذين المقطعين اللذين يجسدان الصورة الحقيقة للقيادة العربية التي تجسدت في أبي خيزران الرجال الثلاثة " أبو قيس، أسعد، مروان ".

المقطع الأول :

"ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه ما زالتا فوق السرير الأبيض المريح والألم الرهيب يتلولب بين فخديه.. كانت، ثمة، امرأة تساعد الأطباء. كلما يتذكر ذلك يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية ؟ لقد صرفت حياتك مغامراً ، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة ! وما الذي أفدته ؟ ليكسر الفخار بعضه. أنا لست أريد الآن إلا مزيداً من النقود.. مزيداً من النقود. السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة.. ويدوي محركها بالهدير.

دفعه الشرطي أمام الضابط فقال له: تحسب نفسك بطلا وأنت على أكتاف البغال تتظاهرون في الطريق ! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرك فيما أخذت البصقة تسيل ببطء نازلة من جبينه، لزجة كريهة تتكوم على قمة أنفه.. أخرجوه، وحينما كان في الممر سمع الشرطي القابض على ذراعه بعنف يقول بصوت خفيض: " يلعن أبو هالبدلة ".. ثم أطلقه فمضى يركض. عمه يريد أن يزوجه ابنته ولذلك يريده أن يبدأ.. لولا ذلك لما حصل الخمسين ديناراً كل حياته. "

يصف النص السابق عملية إخصاء تم إجرائها مشهد حقيقي لما أراد غسان أن يجسده في القيادة العربية التي قادت الجيوش العربية لتحرير الشعب الفلسطيني من هجمة العصابات الصهيونية التي دربتها وسلحتها بريطانيا قبل خروجها من فلسطين وسلمتها مراكز القرار وجميع المستعمرات.

تصوير عملية منولوج يستذكر فيه أبو خيزران عملية إخصاء تعرض لها بتفاصيلها الحية جاءت بتفاصيلها في مشهد صور كذلك إلى جانبه امرأة تقوم على إسعاف هذا الخصي من جراحه لم تكن مصادفة فحضورها كان يشير إلى شخوص من خلف الستار حاولت إنقاذ هذا الخصي مما وقع فيه، وتلا هذا المشهد الحدث الذي تسببت له بهذا، حيث أنه ركب بغلاً وشارك متظاهرين مظاهراتهم، رغم أن أبو خيزران لم يكن ينوي أصلاً المشاركة بهذه المظاهرة بل سار فيها بناء على أمر من عمه الذي وعده بخمسين ديناراً، وهذا ما كشف صورة حقيقة عن هذا الانتهازي المتسلق والذي صعد بعد عملية إخصائه لمركز قيادي وتابع حياته بشكل معتاد ، بل وتمادى فيها وفاحت رائحة فسقه كما سيظهر معنا لاحقا من خلال المشهد التالي.

كانت الهدف الحقيقي من إخصاء هذه القيادة العربية التي تجسّدت في أبي الخيزران خوفا من أن تجسد مشهدا وطنياً حقيقياً، لكن كنفاني تدارك الأمر بعد ذلك حين صور مشهد الإهانة والبصقة التي ألصقها الضابط الذي جسّد قيادة الاخصاء التي مثلت الدول الكبرى والتي قامت بدورها أولاً بإخصاء القيادة العربية ومن ثم اهانتها وإذلالها دون أن تحاول هذه القيادة الخيزرانية أن ترد الاهانة أو تدافع عن نفسها دفاعاً شجاعاً يعكس شخصية رجولية حقيقية، وقبلت بها لتعكس نفسها ساقطة منحطة قابلة بذلها وخنوعها .

و استدرك كنفاني الأمر ليكشف عن السبب الحقيقي الذي جعل هذه القيادة تصعد سلمها لم يكن الهدف وطنيا ً والذي كان هدفاً مادياً بحتاً ( خمسون دينارا هي التي جعلت أبو خيزران يركب البغال مع المتظاهرين)

إذا هي في الأصل قيادة انتهازية أوصلتها انتهازيتها إلى مرحلة الاخصاء والذل والمهانة
هذه القيادة المخصية وبالرغم من أنها كانت فاقدة لرجولتها إلا أنها استكملت مشاريعها السيئة التي تجسدت في معاشرة رجل مخصي لامرأة فاسقة تعمل راقصة في البصرة وهذا أشبه بما قاله الراحل الشاعر الفلسطيني معين بسيسو:

والمخصي على المخصي قد وثبا

فأنجب مسخه العجبا

قد تبدو هذه العبارة قريبة من مدى الوصف المطلوب لتوضيح علاقة شبيهة بعلاقة رجل مخصي في مومس في علاقة في الأصل هي علاقة غير شرعية .

وعند الانتقال إلى الحوار الذي تلا وصول أبو خيزران إلى النقطة الجمركية وقيام صاحب عمله بالسؤال عنه عدة مرات يعني أنه تأخر أياماً في البصرة من اجل تلك الراقصة المومس، الأمر والذي تسبب في تأخر الرجال الثلاثة في الخزان أكثر من الوقت اللازم ليتسبب في موتهم الذي هو الهزيمة.

"نظر الجميع إلى بعضهم فيما انقلب وجه أبي الخيزران الهزيل فصار مبيضاً من فرط الرعب وأخذ القلم يرتجف في يده.
قصة تلك الراقصة.. ما اسمها يا علي؟
أجاب على من وراء الطاولة الفارغة: كوكب.
ضرب أبو باقر طاولته بيده واتسعت ابتسامته: كوكب ! كوكب ! يا أبا خيزرانة يا ملعون.. لماذا لا تحكي لنا قصصك في البصرة ؟ تمثل أمامنا أنك رجل مهذب، ثم تمضي إلى البصرة فتمارس الشرور السبعة مع تلك الراقصة.. كوكب.. آه.. كوكب هذا هو الاسم.
طاح أبو الخيزران محاولا أن لا يتجاوز حد المزاح : أي كوكب وأي بطيخ ! دعني أمضى قبل أن يطردني الحج……..
 تذهب إلى البصرة وتدعي أن السيارة قد تعطلت.. ثم تمضي
مع كوكب أسعد ليالي العمر! يا سلام يا أبو خيزرانة.. يا سلام يا ملعون..
ولكن قل لنا كيف أحبتك؟ الحج رضا يقول أنها من فرط حبها لك تصرف نقودها عليك وتعطيك شيكات.. آه يا أبو خيزرانة يا ملعون"

هذا الحوار جسد ما ذكر سابقاً حول قراءة الحدث في تفاصيله البسيطة، مومس تعاشر مخصي ويتسبب في تعطيل عمله وبث الدعاية السيئة لنفسه ، وهذا ما يمكن أن يسمى بأنه رائحة الفساد قد فاحت من داخل جحور وقصور هذه القيادة قبل أن تفكر في خوض التجربة وبالتالي كان لدي من سيقادون إلى المعركة قيادة انتهازية جاءت في المكان غير المناسب والوقت غير المناسب بين الثوار فتم إخصائها بسبب الشك بأنها شاركت بالتظاهر مع المتظاهرين وفي الواقع كان هدفها مادي انتهازي، وكذلك بعد عملية الأخصاء جسدت بصقة الضابط في وجهه أبي الخيزران واهانته بشدة وصمت أبو الخيزران على هذه الإهانة مدى ما تحمله هذه القيادة من حقارة وذل واستكانة على نفسها ، فهي قيادة مهزومة في الأصل في داخلها ، انتهازية ، ومن ثم مخصية، وبعد ذلك قيادة تفوح منها رائحة الفساد الحقير الذي كان أشبه بمعاشرة راقصة مومس لرجل خصي ، كل هذه العوامل مجتمعة - مع أن واحدا منها كان كافية لو وجد في القيادة لان يقود للهزيمة - إن اجتمعت كل هذه الصفات في ذات القيادة أن توصل لهزيمة نكراء.

والسؤال الذي يأتي ليطرح نفسه في هذا الوقت: لماذا إذا اختار الرجال الثلاثة أبي الخيزران لعقد صفقة الموت هذه ؟

الواقع الذي حتمه غسان أن هذه هي القيادة الأكثر وصولية وأكثرها قرباً منهم من ناحية لا من حيث الصفات لكن من حيث القدرة على التعاطي والإمكانيات المتاحة، فمثلا أشار لقصص شبيهة استرشد شخوصها في مرشدين قد غدروا بهم وتسببوا في موتهم وهي ربما ظاهرة لدى غسان تشير لأحزاب وأفراد على مستوى صغير حاولت أن تقود الأمة فأدت لهلاكها مما دعا الرجال إلى السير خلف قيادة اشمل دون علم مسبق بأن هذه القيادة هي قيادة مخصية لها رائحة نتنة تفوح من داخلها من انتهازية قد استشعرها الرجال من خلال الجزء الذي عقدوا فيه الصفقة المالية.

في المشهد ما قبل الأخير من الرواية الذي قام به أبو الخيزران بإلقاء الرجال الثلاثة على المزبلة غير مكتفي بقيادتهم للموت (الهزيمة) بل وكشف عن وجهه الانتهازي الحقير وهي الشخصية الحقيقة لأبي الخيزران حين قام بإلقائهم على قارعة الطريق ليزيح المسؤولية عن نفسه وينقلها لأخر مخلياً مسؤوليته بسهولة عما تسبب به من موتهم:

"قفز إلى الخارج وأغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفاً مطبقاً وأحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه ، جر الجثث - واحدة واحدة - من أقدامها وألقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها
هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة.. قال في ذات نفسه :"هنا تكوم البلدية القمامة " ثم فكر: " لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح، ولدفنت بإشراف الحكومة "

هذا المشهد جسد الفكرة الحقيقة لما قامت به القيادة العربية من إلقاء الشعوب المهزومة المتجسدة في الرجال الثلاثة على قارعة الطريق كي تدفن بإشراف الحكومة بمعنى أن القيادة ألقت بالشعوب التي تسببت بهزيمتها إلى هيئة الأمم المتحدة وهيئة إغاثة اللاجئين الناتجين عن الهزيمة لتتولاهم الأمم المتحدة التي تجسد في الرواية في الحكومة.

ولنسير باتجاه الخاتمة التي حملت السؤال الذي حاول فيه أبو الخيزران إلقاء اللوم على الموتى المهزومين الذين قادهم هو للهزيمة وبالتالي للموت ، وكذلك رددت الصحراء من خلف أبو خيزران والأرض قالت ذات السؤال الذي كان في مشهد الرواية على شكل صدى الصوت ، علماً بأن الصحراء لا ينتج الصوت الصادر فيها لصدى مما يدلل أن هذا الصدى لم يكن بصدى حقيقي للصوت إنما كان صوت الصحراء وصوت الأرض الحقيقي الذي ردد ذات السؤال :

"انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:
 " لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟... "
دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:
 لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:
 لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟"

هذا السؤال الذي أبقاه كنفاني مبهم الإجابة في ذلك العام من إنجاز الرواية لكنه عاد ليجيب عليه مرة أخرى عبر رواياته في رواياته الأخرى (أم سعد -ما تبقى لكم -عائد إلى حيفا)..جواب لا يؤمن إلا بالمقاومة وحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد التي تذيب الخلافات بين الفصائل بالاحتكام إلى إرادة الشعب لا إرادة القيادات الخيزرانية .. جاء الجواب واضحا وصارخا في رواية عائد إلى حيفا على لسان الأب " سعيد س" الذي قال في ختام الرواية في جواب على السؤال المبهم الذي أبقاه كنفاني مفتوحاً مبهم الإجابة فيرواية رجال في الشمس :

"فالإنسان كما قلت قضيه ، وفي الأسبوع الماضي التحق خالد بالفدائيين"

وفي العبارة الأخرى : التي ختم بها الرواية قائلاٍ على لسان "سعد س" أيضا
:
" أرجو أن يكون خالد قد ذهب .... أثناء غيابنا "!

فكان هذا جواب السؤال ، المقاومة الشعبية والعمل الفدائي المخلص الحقيقي هو السبيل الوحيد لطرق الخزان وخلق جيل قادر على أن يهزم الهزيمة التي خلفتها لنا القيادة العربية الخيزرانية التي قادتنا على الحرب في عام 1948 تسببت في تشريد ألاف الفلسطينيين من مدنهم وقراهم إلى مدن أخرى في داخل فلسطين وإلى الدول المجاورة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى