الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم حسن سلمان

الدين والأيديولوجيا

أقامت دار المعارج للدراسات القرآنية وحوار الأديـان بالتعاون مع بطريـركية الروم الملكيين الكاثوليك- رعية يوحنا الدمشقي في دمشق منذ أيام ندوة حوارية بعنوان (الدين والأيديولوجيا).

شارك في الندوة الباحث اللبناني د. محمود حيدر رئيس تحرير مجلة مدارات غربية، وسماحةالعلامة حسين شحادة وسيادة المطران غطاس هزيم وسماحة الشيخ حسام الدين فرفور، والأب أنطون مصلح الذي قام بإدارة الندوة، كما حضرها عدد من الشخصيات المهتمة بالشأن الديني والفكري.وانتهت الندوة بعدد من المداخلات أغنت الندوة شارك فيها المفكر والباحث د.أحمد برقاوي ود.يوسف سلامة وآخرون،وفيما يلي نعرض لاهم المناقشات في هذه الندوة:

د. محمود حيدر

الدين والأيديولوجيا في كيفيات التحول والتوظيف والمطابقة

لا نقصد القول بثنائية، حين يجري الكلام على الأيديولوجيا والدين. إذ غالباً ما يتناهى إلى الفهم، وكأن التقابل بينهما يدل على ضربٍ من الاستقلال. والحقيقة أن التقابل يفترض الجمع ليغدو ما يُظن أنه ثنائية، أمراً واحداً. هذا لا يعني بالطبع أن الدين بذاته يعادل الأيديولوجيا، أو أنه هو الأيديولوجيا. ولجلاء اللبس سوف نسعى «ولو على عجل» لنعثر على «جغرافية تفكير» نتبيَّن منها مدارج المعنى عند الالتقاء وبعده بين الأيديولوجيا والدين. سوف نجد أنه منذ اللحظة الأولى للالتقاء تمحَّى الثنائية، فلا الدين يبقى مجرد نص متعال على الزمن أو خارجه، ولا الأيديولوجيا تظل مجرد تصورات في الذهن أو كلمات لا طائل منها. وإذاً، فنحن أمام مشهد يظهر الدين فيه على صورة ظاهرة اتخذت لنفسها لوناً أيديولوجياً بعدما تحيَّزت في ظروف الزمان والمكان. وفي هذه الحال. يستوي الكلام على الدين والأيديولوجيا تحت عناوين إدماجية من قبيل: "أيديولوجيا دينية" أو "تديَّن أيديولوجي" أو عن طريق السؤال المفتوح على أمدائه الشاسعة: كيف يتحول الدين إلى أيديولوجيا؟...

لنقل أننا الآن أمام لحظة الالتقاء بين الدين بوصفه نظام علاقة واتصال بين الإنسان والإنسان والإنسان والله. والأيديولوجيا بوصفها فهماً وإعادة فهم لذلك النظام. لكن الأيديولوجيا بما هي كذلك لا تنفصل البتة عن الدين وهي تقيم معه مسكن واحد. ذلك أنها ستأخذ منه ويأخذ منها ضمن حقل فسيح من التفاعل والاختبار والمعاينة. وهو ما يتجلى بوضوح لا شية فيه، من خلال الممارسة التي يخوضها الفاعل الأيديولوجي. أي الفاعل المتديّن الذي منه من يبتغي لدينه حقّانية الحضور والقيومية بوصفه الصراط المستقيم. ومنه من يرى إليه على نصاب الاعتدال والوسطية، فلا يقيم الحد على من هو من غير أهله، ومنه من يمضي إلى فهم دينه على مبدأ الصُرط المستقيمة للتجلي الإلهي فينشئ لغته الدينية على الاجتماع الرحماني بين الناس أنى اختلفت مذاهبهم وأديانهم.

وأياً فإن الحال الذي يتخذه الفاعل، سواء كان فرداً أو جماعة، فإنما يختبر فهمه، وطريقته، واستطراداً منظومته الأيدلوجية.

ما سر هذه الأيديولوجيا التي أطلقت فاعلها فراح يمارس لعبته الملحمية في فضاء المقدس كما في الزمان الوضعي؟

لن نمضي بعيداً في التعريف فذلك ما لا يحتمله السمع ولا يسعه المقام.

لكن الاقتراب من الأيديولوجيا عن طريق التوصيف من حيث فكرٌ هي شغل، يبدو أكثر جدوى. لاسيما ونحن هنا في مجال معاينة صلتها بالدين أو حلولها في التجربة الدينية.

لو قيض لنا أن نرى الأيديولوجيا كينونة فلسفية لوجدنا إنها العلم بممارسة الأفكار. أو العلم بجدلية ارتباط الأفكار المحدثة للأشياء بالأشياء المحدثة للأفكار. أما مجال عملها فيمكث على خط العلاقة الذي يصل الفكرة بالحدث. والحادث بالفكرة التي يعيد صنعها في نشأة أخرى. أما خط العلاقة فيشتد ويرتخي، ينقبض وينبسط داخل حركة جوهرية تتفاعل فيها الإرادة المنتجة للفكرة بإرادة الموضوع الذي تقصده الفكرة لتغيِّره. فيتحصَّل من ذلك خروج الظاهرة الأيديولوجية إلى ميدان الحركة والصراع.

مع ذلك يصعب فهم معنى الأيديولوجيا بمنأى من طرائق الاستعمال المتخذة داخل أحياز التبادل.
كان فينغشتين يردد شعاره الأثير: لا تسأل عن المعنى اسأل عن الاستعمال. وهو في ذلك يسعى إلى انتزاع المعنى عن طريق الاستعمال. فإن معنى الأيديولوجيا بهذه الدالَّة يمكث في إجراءاتها الحادثة في حقول الاختبار. من خلال الاختبار تستظهر الكلمات معناها، حيث تغدو في مجال التحقق كينونة ضاجَّة بالحركة. ففي اللحظة التي تستحيل فيها الكلمات الأيديولوجية ظاهرة في الواقع تخلع رداءها القديمم وحروفها المنصرمة. ليقوم بعدئذٍ أولئك الذين تلقوها سمعاً وطاعة بإلباسها حروفاً جديدة وكلمات جديدة. فالفكرة ما إن تتمأسس حتى تفقد كلماتها الحيوية اللازمة للطور الجديد الذي حلَّت فيه.

لا تهتم الأيديولوجيا بالتوصيف. فهي إن فعلت ووصفت المشهد فسترى نفسها وضدها في آن. لذا فهي تؤثر اجتناب الرؤية الدائرية للزمان والمكان الذي تعمل فيه، لئلا يلتبس عليها الأمر وتقع في الاضطراب. وإذا حصل ووقعت في مثل هذا المحظور فقد تستغرق في سوء الرؤية فيلتبس الخطاب ولا تعود العمارة الأيديولوجية بقادرة على ضبط توترها الداخلي، أو صون حياضها المقدس من استباحة الخارج.

هكذا تأخذ الأيديولوجيا معناها من نسبتها إلى قضاياها وحقول تجاربها. وهي الحقول والقضايا التي تتعدد بتعدد حراك الناس في أمكنتهم المعينة وفي الزمن. وعلى مبدأ الثابت والمتحول يكون الدين هو الثابت والأيديولوجيا هي المتحول وحين يتحقق اللقاء يمتزج الثابت والمتحول فيغدوا مولوداً جديداً سارياً في اللحظات الحرجة كما في الزمن المفتوح. وفي الأمكنة الفسيحة كما في الزوايا الحادة. وفي كل حال فإن الفاعل البشري هو الذي يخلع على الدين بعده الأيديولوجي فيما هو يمارس تدينّه الاجتماعي والسياسي والثقافي والحضاري. مهمة الفاعل الأيديولوجي، سواء كان فرداً أو جماعة، تتحدد بإكساب كل ما يعتقد به شرعية تؤكد له هويته من جهة، وتمنحه الأدوات المادية واللاّمادية للدفاع عن تلك الهوية من جهة أخرى. فسيبدو دينه الخاص يعرب عنه بخطاب معين يتشكل وفقاً لشرائط الجغرافيا الدينية وأزمنتها وتبعاً لتطورات الصدام أو الحوار، مع الغير المختلف. يجري ذلك سواء كان ذلك في الحقل الداخل ديني، أو ما يتعداهما إلى الحقل الخارج ديني.

على هذه الصيرورة من العلاقة التحويلية يتحد الدين بالأيديولوجيا بواسطة الفاعل الأيديولوجي. بعد ذلك التحول والاتحاد سوف نغدو في طور آخر.

في هذا الطور يعود الدين بما هو دين حاضراً إلا في النص الصامت. أي المقدس الذي يعلن عن نفسه بكلمات الوحي، وكذلك عبر المنقول على ألسنة الرسل والأنبياء من حملة الوحي. غير أن النص الصامت لا يفتأ حتى يغادر صمته في اللحظة التي يحل فيها على الزمن البشري، حيث يروح الناس يسائلونه، ويبحثون فيه عما يتوقعونه منه، إنه يتكلم بالواسطة. يبقى النص المقدس واحداً في ذاته، لكنه يتكثَّر ويتعدد ويتنَّوع بحسب كل تفسير يقبل عليه إما ليتخذه سبيلاً له إلى النجاة أو ليسائله على سبيل التعرَّف والاستقراء.

مع التفسير الذي هو استنطاق بشري للنص الإلهي يستهل السفر الأيديولوجي. وعند هذا المنعطف يروح المفسر يلقي أظلته القدسية على كلامه الخاص. بذلك ينتقل الدين من طور كونه ساكناً في النص المقدس إلى ظهور متحرك سيَّال في الزمن البشري. أي أنه أصبح بالتفسير وطرائق الفهم المتعدد معرفة دينية. وهذه المعرفة هي حصيلة تفاعل بين المتكلم الديني والنصوص الدينية. ولما كانت الشريعة صامتة لا تتكلم إلا إذا كلَّمها الناس منتظرين أجوبتها، فهي لا تفهم إلا إذا أدخلوها في حنايا عقولهم وأسكنوها مطارح تفكيرهم. لكن الأسئلة التي تطرح على الشريعة ليست واحدة. فهي متعددة بتعدد مستويات السائلين، المعرفية والعلمية والاجتماعية. ولذلك فهم يفهمون إجابات الشريعة تبعاً لتلك المستويات. ولذا فإنها لا تخاطب الجميع بالطريقة نفسها، ولا تجيب على أسئلتهم إلاّ بقدر ما تتسع أفهامهم للجواب.

تتشكل المعرفة الدينية بهذا التوصيف، المعادل المنطقي للأيديولوجي. فإنهما تستويان عند المدعَّى نفسه وآليات الاشتغال نفسها. وبهذا تكون الأيديولوجيا بالنسبة إلى النص الديني التأسيسي معرفة دينية من الدرجة الأولى. ذلك لكون مهمتها تفسير وتأويل وإعادة إنتاج الإفهام المطلوبة للنص المؤسس. ولأنها كذلك فقد تصل في بعض الأحيان إلى اعتبار نفسها حارسة القول الإلهي الذي سيصبح مع الزمن قولها هي بالذات بعدما ادَّعت الإحاطة به عبر تفسيرها له تفسيراً قطعياً لا رجعة عنه.

وفي هذا المعنى تصبح الأيديولوجيا الدينية ديناً من الدرجة الثانية. فبحسب كثيرين من منظري أدلجة الدين فإنهم أطاحوا الفروق بين الديني والفكر الديني. فمثلما للدين رؤية كونية كذلك هي أيديولوجيا الدين وفلسفة تاريخه، وانثروبولوجياه وعلم اجتماعه.

وهذا ما بيَّنه عالم الانثربولوجيا المعروف كلايغور جيرتس عندما وصف الأيديولوجيا بأنها الخارطة الفكرية للكون.

الأيديولوجيا الدينية:

تكتسب الأيديولوجيا الدينية، أو الأيديولوجيا المتدينة، الصفات إياها المتصلة بكل تحيّز أيديولوجي. وتسري تلك الصفات على أيديولوجيات الأديان الدحياتية أو شبه الدحياتية على السواء. مثلما تسري على منظومات فكرية وفلسفية وجدت سبيلها إلى التحقق السياسي التاريخي كالمنظومة الماركسية والليبرالية والقومية وسواها.

لذلك سنرى أن الأيديولوجيا تقابل جملة مفاتيح معرفية يتداولها الفكر الإسلامي مثلاً كمفهوم الدعوة، وعلم الكلام، وفي الفكر المسيحي كالتبشير، والمنظومة اللاهوتية، وفي الابستيمولوجيا كالمعرفة الدينية.

لقد أدى غياب الحدود الفاصلة بين الدين والفكر الديني. أي بين المقدس وأيديولوجية المقدس إلى جعل الثاني أي أيديولوجية المقدس هو الدعاء الذي يحتوي الأول ويؤوله وفقاً لشروطه المعرفية، وبحسب درجة فهم منتجيه وظروف حياتهم. إن هذين الاحتواء والتأويل أديا ضمن سيرورة التوظيف إلى جعل الدين في مساره التاريخي، أو الدين في ظهوراته الدنيوية واقعة أيديولوجية بامتياز.

مرة سئل المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي عن الإنجاز الذي حققته الحركة الثقافية والفكرية في بلاده في مواجهة الشاه، فأجاب بكلمات: تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا. ثم يضيف أن أفضل تعريف للدين هو أنه أيديولوجيا وأفضل تعريف للأيدولوجيا أنها استمرار للغريزة.

لا شك أن ثمة لحظة تاريخية سياسية هي التي حدث بشريعتي إلى مثل هذه الموائمة والمطابقة بين الدين والأيديولوجيا. وهو كان في ذلك يقوم بمهمة أيديولوجية بلغت أقصاها من أجل أن ينتقل الدين من سلاح بيد الاستبداد إلى سلاح بيد الضعفاء. كانت الأيديولوجيا بالنسبة إليه، كذلك بالنسبة إلى كثرة لا حصر لها في التاريخ بمثابة مسعى لتغيير العالم لا لتفسيره وحسب. والقاسم المشترك بين كل أنصار أدلجة الدين اعتقادهم أن الأيديولوجيا تعزز المبادئ وتسدّد الإيمان وتنمح المنتمي إلى حياضها الجغرافي قوة الإرادة والاقتدار والتضحية. ولقد كان في مثل أيديولوجيي القرن التاسع عشر في أوربا ما يرفع هذا الرهان على الكاريزما الأيديولوجية (حزباً كانت أم زعيماً) حتى درجة الألوهية. وسنرى حينئذٍ وكأن أيديولوجيا الحراك العام قد حلت محل الدين. وبدت الصورة على هذا النحو: الفيلسوف والناس وحتى الربانيون المتفردون متفرجون. والأيديولوجي هو اللاعب الذي يتولى أمر الله بل ويقف مكانه، يأمر وينهي. يهدم ما يعتبره فساداً ويشيد ما يظنه مدينة فاضلة. ينتقد ويصحح يرسم الخطوط والمسارات ويحدد التوجهات والشعارات.

هكذا يظهر الدين في حالته الأيديولوجية في أكثر المناطق المعرفية عرضة للاشتباه، فحين يتقدم الدين ليتولى شأن الناس يتحول إلى ما يشبه المرآة يرى إليها الناس ليكونوا على يقين من أنهم يرون ذاتهم وهويتهم. بها تظمئن نفوسهم فتنبؤهم بأنهم لا ينفكون يسمعون ويرون وبأنهم قادرون ومقتدرون في مواجهة الأعداء المنظورين وغير المنظورين.

أما الفاعل الأيديولوجي فإنه يستخدم الخطاب الغيبي للدين لإمداد سيادته الأرضية في السياسة والاجتماع بعوامل القوة والتفعيل والتسديد. وليست بالضرورة ان يكون هذا الفاعل متديناً في قرارة نفسه. المهم أن يبلغ المرسل إليه ما ينبغي فعله. لقد تأسس الفكر الفلسفي الغربي على هذا النحو من النظر إلى الدين في سيرورته واجتماعه التاريخي لذلك قال نيتشه: إن ثمة براءة في الكذب هي العلامة على حسن الإيمان بشيء ما. لم يكن آخر فلاسفة الحداثة وناقدها في مثل هذا الكلام، إلاّ واصفاً لمشهدية الممارسة الدينية في زمانه وهي تتوارى خلف أحجبة تبدو ضرورية لكي يطمئن أصحابها لما يؤمنون به. لكنه سيدعو في محضر آخر إلى السمو فوق البراءة الكاذبة، والتبرّؤ مما يحجب الحقيقة، لقوله بوجوب نقل كل المشكلات إلى الشعور وصولاً إلى الشغف كشرط لا مناص منه لكشف الحقيقة من دون مواربة أو خداع.

كان نيتشه أحد أبرز الذين أسسوا للتأويل في سياق بحره المعرفي الطويل لهذا كان يعتقد أن الحقائق الخاصة هي أسمى من متناول فهمنا، وما يعد فهماً بالنسبة للإعتقاديين ليست إلا أساطير تنسجها تأويلاتهم وتصوراتهم. هذه التآويل والتصورات تنهض من منظور الناس ورؤاهم. فلكل واحدة من الغرائز الإنسانية منظورها (زاوية نظرها) الخاص الذي تحاول فرضه على سائر الغرائز. وحتى مقولات العقل التي تشكل قدراتنا لفهم الأشياء، ما هي حسب نيتشه- إلا من زمرة الأساطير. فحقيقتها لا تتجاوز منظوراً منطقياً يخلع على نفسه.

وسنجد مارتن هايدغر في كتابه "الكينونة والزمن" يقرر بأن فهمنا للأشياء والأشخاص ولأنفسنا هو فهم هرمنوطيقي دائماً. ويقصد بالهرمنيوطيقي هو: المسبوق برؤية خاصة، وبنية مسبقة. وهذا ما يتناغم مع فكرة نيتشه في تأثير المنظور أو زوايا النظر على الإدراكات.

الموضوع النيتشوي الآخر الذي يلمح فيه طابع تأويلي، هو تصوره للحقيقة. فالثمرة الطبيعية للاعتقاد بتفسيرية كل الفهوم هي أن تكون الحقيقة بمعناها الشائع (الفكرة المطابقة للواقع) مما لا يمكن إدراكه، فكل مدركانتا مجرد أساطير بعضها أنفع من بعض. فإذا كانت هذه المنفعة ثابتة ودائمة خلعنا عليها لون الحقيقة، وآمنا أنها حقيقة لا تقبل النقاش.

لقد جرى سؤال الدين على لسان الغرب مجرى خطاب الحداثة برمته. فلو عاينّا قليلاً شيئاً منه، لاسيما الفلسفي والسيوسيو تاريخي لعثرنا بيسر على أصله الديني. بدا ما تحت الصورة على خلاف ما ظهّرته لنا العلمانية السياسية الحادة، فسنرى كما لو كان أمر الحداثة في حقيقته أمراً دينياً. حتى أن هناك من مضى إلى أن للحداثة صفة التعالي، فرأى إليها، رغم دنيويتها الصارمة بوصفها ميتافيزيقا. أو هي على قاب قوسين أو أدنى لتغدو كذلك. فالحداثة قبل أن تشرع سيوفها شرعت أسئلتها. وهي أول ما سألت، ساءلت المسيحية المؤسسية كخصيم بلا هوادة. لكنها حين مضت في السؤال لتمنح نفسها بعض اليقين، هبطت إلى عمق الزمان الديني. كانت الحداثة حين فعلت هذا ميتافيزقية، لأنها بحثت عن اعتلائها الأرضي في تاريخ الدين. أرادت أن تحتله لتقوم مقامه، من دون أن تلغيه. بل لتلبسه كرداء يؤمن لها القبض بقوة واقتدار على ناصية التاريخ
.
كان سؤال الحداثة في الغرب في جوهره سؤالاً دينياً. فإن كل سؤال على النحو غالباً ما يحيط بمجمل إشكالية الفضاء الذي جاء منه ويكون في كل مرة هو هذا المجمل نفسه. وعلى ما يقول شكلت حضورية اللاّهوت في ولادة الرأسمالية الحديثة التجلي الأعظم لزمن الحداثة ومع الإصلاح البروتستانتي ستظهر الأيديولوجيا الدينية في التاريخ السياسي والاجتماعي على أتمها.
(ربما كان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر "1864-1920" من أبرز الذين تصدوا بالحجة المسددة لنظيريه الشيوعيين كارل ماركس وفريدريك إنجلز في مختوطته الشهيرة "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (1905). فعلى خلاف ماركس وإنجلز رأى أن التغييرات في المجتمع تستلزم أكثر من العلاقات الاقتصادية المجردة. وإن ما أورداه من أن تاريخ كل المجتمعات البشرية هو تاريخ صراع بين الطبقات، ظلت متشوبه عيوب منهجية، قاتلة. ثم يقرر أن الأفكار الدينية كانت الحاسمة في نمو الرأسمالية في أوربا.

في غضون وقت قصير سوف تتحول أطروحة فيبر في المخطوطة المشار إليها إلى واحدة من المرجعيات المعرفية المؤسِّسة لأيديولوجية الرأسمالية الصاعدة.

ولعل نقطة التشكل الأيديولوجي في هذه الأطروحة تتمحور على فكرة أن روح الزهد المسيحي ولد واحداً من العناصر التأسيسية لروح الرأسمالية المعاصرة، بل للثقافة الحديثة بأكملها، وهو: السلوك العقلاني على أساس فكرة المهنة سوى أن الوجه الذي أثار جدلاً لم تنته تداعياته تحفر مجراها إلى الآن، ينكشف لدى تظهير فيبر للجذر الديني للفلسفة السياسية والاقتصادية للرأسمالية. حيث تؤكد المقولة الفيبرية " أن أدياناً عالمية مثل الكونفوشيوسية والطاوية والهندوسية أو البوذية، شكلت حواجز أمام ظهور رأسمالية عقلانية شبيهة برأسمالية الغرب. بينما اليهودية القديمة، وموروثاتها المسيحية الحديثة، كانت على العكس من ذلك، تشكل نقطة انطلاق عملية العقلنة التي ستبلغ ذروتها في الرأسمالية الحديثة. وعلى النسق المعرفي إياه ستأتي الكالفنية (نسبة إلى اللاهوتي البروتستانتي جون كالفيه) ومن خلال ما يسمى بـ(لاهوت القضاء والقدر) لتلعب دوراً مركزياً في ولادة الرأسمالية. حيث يقرر هذا اللاهوت. أن الخلاص يكون مقدراً للبعض والعقوبة للبعض الآخر بفعل القضاء الإلهي الأبدي. وإن أحداً لا يمكنه تغيير هذا القضاء. وهذا الأمر بحسب اللاهوت الكالفيين- يصعب تحملّه بالنسبة لشخص جدي في إيمانه. لكن الكالفينية وبسبب من حقلها العقائدي المركب ومزجها بين الإلهي والبشري وجدت سبيلاً للالتفاف على هذه الصعوبة عبر التأويل التالي: إذا كان القضاء الإلهي أمراً يستحيل رده أو تبديله، فإن بإمكان أي شخص أن يرى علامات تدله على ما هو مقدَّر له من الخلاص والعقاب. فإذا كان هذا الشخص يمتلك رأس مال فيوظفه بطريقة عقلانية ومنهاجية ثم يأتيه النجاح، فإن هذا النجاح يكون علامة دالة على الخلاص.

كان الدين حاضراً للوفاء بالمطلوب ليقول للرأسمالي بأنه مقدَّر لك أو بأنك مرصود لاستكمال عملية الخلق التي تركها الخالق من دون أن ينجزها بشكل كامل. وعلى ذلك أصبح التوسع في بناء المصانع والتوفير والاستثمار العقلاني والمنهجي، وكذلك إخضاع الأشخاص الآخرين بمن فيهم النساء والأطفال للعمل المنهك، إكمالاً لعملية الخلق التي بدأها الله نفسه، وتمجيداً لله. وتحقيقاً للغاية التي من أجلها خلق الله العالم والإنسان.

لقد كان الله حاضراً في ولادة الرأسمالية، على ما تقرر الأيديولوجيا البروتستانتية استناداً إلى اللاهوت السياسي الأنكلوسكسوني. كان جون لوك المنظر المعروف لثورة 1688 الظافرة يعرف ذلك جيداً ويعلنه بوضوح: إن الله الذي أعطى الأرض شراكة للبشر أعطاهم العقل أيضاً لاستخدامها بالشكل الذي يقدم لهم أكبر الفوائد في الحياة ويتلائم بالشكل الأفضل مع مصلحة الجميع.

كان الدين ضرورياً من أجل إنجاز هذه المهمة وهذا لم يغب عن الوعد والله نفسه سيضع نفسه في خدمة الرأسمالية وحسب منطق الأدلجة الدينية المؤسسة لأخلاقيات رأس المال، إن البابا وباسم سلطة الله العظيم، التي أعطيت له بوصفه وريثاً لبطرس، خليفة ليسوع المسيح، قد أعطى أراضي أمريكا لملوك اسبانيا ليحققوا فوق هذه الأراضي مجد الإيمان الكاثوليكي والديني المسيحي ولبيحثوا فيها عن خلاص النفوس وليسعوا إلى سحق الأمم الوثنية، إجبارها على اعتناق دينه.

العلامةالشيخ حسين أحمد شحادة

في مفهوم الوحدة الوطنية بين الدين والأيدولوجيا

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما أضع الأيدلوجيا في مرآة الدين لأبحث عن صورة الآخر في ذاتي وعن صورة ذاتي في الآخر.. فإنّ الطرف الأقوى في مجال التقابل والمعاينة هو الذي سيضبط إيقاع التفوق في امتحانات أيدلوجيا الحداثة وأيدلوجيا الدين.. في امتحانات العلاقات النزاعية بين قالب الدين الجاهزة وقوالب الثقافية الدينية الجاهزة يصبح الفصل بين الإلهي والبشري هو الشرط الموضوعي لنقاش معنى المقدس والمدنس من المفاهيم والأفكار.. وإذ تميل الأيدلوجيا السلوكية إلى الاحتجاب بوهم الحقيقة عن الحقيقة وينزع التدين الأناني نحو نسف الجذر الإنساني للدين فإنّ من أخطر ما يواجه العقل العربي هو استلاب مستقبل هذا العقل بحراب العولمة العسكرية التي تصطاد العالم بشباك الأيدلوجيا اللامرئية مستترة وراء أيدلوجيا التفوق العلمي وما يرتبط به من تقنيات وسياسات لتظهر الأمم الشاردة عنها وكأنها العدو المعادي لا لتقدم العلم وتقنياته فحسب بل لحقوق الإنسان نفسه في الديمقراطية والإصلاح.. صحيح أن الدين من خلال تمركزه في منطقة القلب والروح يبدو أشمل وأوسع وأرحب من الأيدلوجيا المنغلقة على زاوية حادة أو جانب أحادي إلاّ أن الدين بما هو رؤية كونية يجب أن يتغذى ويتعدد بتعدد منابعه وإضاءته فيما يظهر من صريح القرآن الكريم: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..« المائدة 48 كذلك يناقش القرآن أيدلوجيات التكفير والتخوين وأيدلوجيات الضغائن والكراهية رافضاً افتراضات الأحكام المسبقة ومحاكم تفتيش العقول والقلوب لينزع عن فضاءات المعرفة بالله وبالإنسان لوثة التنازع في المجهول على المجهول ولوثة الاحتكام إلى الغموض والإبهام لأن من أعظم شواهد اغتيال العقل أن يصير الالتباس المعرفي هو نفسه المرجعية العليا لواقع ملتبس وأياً تكن درجة التشابه بين مشكلاتنا ومشكلات السلف الصالح فإن المنهج الصحيح في حلها هو أن نضيء فهمنا نحن للنص الأول حتى ولو كان متعارضاً أو متناقضاً مع أفهام من سبقنا من الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين. فإن كانت الأيدلوجيا بما هي منظومة لتفسير العالم الاجتماعي منطوية على نظام من القيم المقبولة لتثوير حركة الإصلاح والتجديد في المجتمع فإن الأيدلوجيات الإسلامية الإصلاحية بجناحيها السلفي والتجديدي لم تقبض بعد على الحلقة المفقودة من مفتاح النهضة العربية المرتجاة لأنها لم تنعتق بعد من نزعة القراءات الميكروسكوبية للنصوص الأولى ولم تلتفت إلى فظاعة الوقوع في شرك المطلقات وهي في تناطح الآراء ومطارحات الفكر لم تتحرر بعد من ولع الالتصاق بأحرف النص لتنعم بملامسة روحه لاسيما في موضوع تحديد الصلة بين الفكر والواقع وأراني أسأل مهموماً بنقاء الدين الأول وصفاء الدين الأول ما الفرق في ملاعب حروبنا الطائفية بين الأيدلوجيا التي تمارس الإسقاط الثوري والإسقاط السحري إسقاط الحكم على الواقع واعتباره بديلاً له وبين دين يمارس الإسقاط الطوباوي، إسقاط الغيب والتاريخ على الواقع فيسفك دم الوحدة الوطنية باسم المسيحية أو باسم الإسلام أو باسم التقدمية والرجعية.. وفي مشهد الذات العربية الممزقة يتناوب الدين والأيدلوجيا على حفر الواقع بالنصوص حفراً عشوائياً يوزع تطريز الوشم الاجتماعي نفسه بوثوقية تلقينية تعمدّ التملكية والتسلّط بتراتيل فكرة الخلود وتجميد الزمن أو بموشحات فكرة الخلاص وإنهاء الزمن حيث الدين العربي مجرد حارس على بوابة انتظار القيامة.. كذلك يبدو المصطلحان أيدلوجيا ودين وهما من المصطلحات التي لم نحسم بعد أمر تعريفهما الواضح والمحدد في معاجم لغتنا العربية فتشردا في مواجهة التناقض المتفجر من كل عصبية تلعق احتقار الآخر وتزدريه لتبدأ ملحمة الفتن عندما توصد الأيدلوجيات أبوابها على تقديس نظام اجتماعي منحوت بذهنية وثنية لا تقبل التغيير أو التحديث أو عندما يوصد الدين نصوصه الشارحة على تقديس تاريخ متعال على النقد والمساءلة لتظل الحلقة المفقودة سارحة في الجدل حول منطق الدور الباطل في علم المنطق إذا كان الدين عقيدة وقيماً فإن السؤال الجوهري ها هنا هل العقيدة هي التي تفسّر وتبرر معنى القيم السلوكية أم أن القيم الأخلاقية هي التي تفسّر وتبرّر معنى الاعتقاد بالدين..؟

وبذلك أثير الأسئلة الحرجة حول براءة الموروث الديني من هزيمتنا العربية الراهنة لأبحث عن ظواهر الدين ضد الدين في مجتمع عجز عن مواجهة حقائق الهويمة بالاعتراف بخطاياه بنقد ذاته فلجأ إلى توظيف الأيدلوجيات المذهبية والأيدلوجيات الحزبية لمقاومة حصار الاحتلال الأجنبي منذ سقوط الخلافة العثمانية وحتى احتلال فلسطين والعراق بذهنية كانت تستعير صورة الواقع التاريخي هروباً من مواجهة الواقع كما هو كائن لأنها لم تنتج نصوصها الملائمة لزمانها فانغلقت على إمعّات التراث انغلاق تابوت ألواح موسى في صناديق الأحبار المقفلة تحت قباب هيكل مقفل بأدلجة يصف القرآن الكريم حملتها بكائن يشبه الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. وعلى هذا المثال الساخر فإن شعار لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. قد دفع بنظريات استعادة الإسلام المثالي إلى وهم المحاكاة العاطفية دون أي التفات لعناصر الشروط التاريخية والاجتماعية المنتجة لذلك الإصلاح من هنا وبدل أن يعمد العقل الإسلامي إلى دراسة عوامل القطع الحضاري بحضارته وهويته وثقافته في ضوء إعادة إنتاج المعرفة لا بإسلاميات النص وإنما بإسلام الواقع والإنسان رفعت شعارات تبرير الهزيمة والانحطاط في الداخل الممزق بتسفيه حضارة الآخر وتقدمه العلمي وانشطر بناء الوحدة الوطنية بين أيدلوجيا دينية لا تعترف إلا بوحدة الرابطة الدينية أساساً للمجتمع وبين أيدلوجيا علمانية لا تعترف إلا بوحدة الرابطة القومية أساساً لوحدة المجتمع وأسدل الشعار على رأس الوحدة الوطنية مذبوحة بخناجر الاتهام والاتهامات المضادة وسجالات التخوين التي عصفت بجدل العلاقة بين العروبة ولإسلام.. وظل الفصل الأخير من سؤال الوحدة الوطنية جارحاً ومجروحاً بملء صرخته: إذا كانت القيم هي المعنى الذي يدار عليه مفهوم الدين والأيدلوجيا فإنّ هذا المعنى سيظل مجرد سراب خارج المجال الحيوي لوحدة الإنسان والوطن ما يعني أن امتهان كرامة الإنسان هو امتهان لمعنى الدين والتدين فكيف للدين أن يقارع نظريات عبث الوجود وفوضاه ثم يقارن هذا العبث بتدمير الوحدة الوطنية وجوهرها العميق بشل إرادة الإنسان ومصادرة حقه في الحرية والمواطنة والانتماء كذلك أفهم من كلام السيد المسيح (ع) يجب أن تولدوا ثانية إضاءة رائعة لمعنى تجديد الوعي بالدين والوطن والإنسان وليس من محضن لهذه الولادة الثانية إلا محضن الدولة الحديثة التي تكفل حرية التدين للجميع وحرية الرأي للجميع بوحدة وطنية هي الضامن الوحيد لفض اشتباكات التصادم بين الدين والأيدلوجيا بعيداً عن لغة استبداد الإيمان الذي يريد تفصيل الوجود والكون والوطن على قياس شبر من تراب الفيدرالية أو على قياس قفص الطائفية.. فهل من تغريبة أوجع من هذا الاغتراب وهذا الخراب اغتراب الواقع وخراب الفكر.. كأني ناهض إلى مرثية العقل العربي وفلاسفته ويا ما قيل عندما تنقلب الروح إلى مادة والوحي إلى كتاب والمعنى إلى حرف والتدين إلى خرافة والتقوى إلى طقوس وشعائر وكنائس ومساجد إلى مسارح والإيمان إلى تعصب والحقيقة إلى مخيال والدين إلى وثن والإنسان إلى مخالب والنور الإلهي جحيم فتن.. عندها سيكون الانتحار السقوط الاحتراق واللهب الأخير إلى رماد.. ومن بين هذا الرماد إذا كان منطق الاحتلال الجديد لعالمنا العربي والإسلامي يفرض علينا بقوة السلاح أن نستجيب لشروط التكيف مع نموذجه الحضاري فإن الرد المقاوم هذه المرة يجب أن ينطلق من حسم أشكال العلاقة بين ماضينا وحاضرنا كمدخل لتحصين هويتنا المهدّدة إما بالاستجابة لمنطق الاحتلال وإما بالقطيعة مع العصر بمنطق أدلجة الدين الذي يسّد علينا منافذ الإبداع لإنتاج وعي مضيء بالذات الدينية الخلاقة في مستوى تطلعات هذا الشرق بالمصاب بأعز ما عنده من كنوز الدين والوحدة والسلام.

د. أحمد برقاوي:

إذا نظرنا إلى المسائل بعيون بشرية وليس دينية سيتغير الخطاب بمعنى إذا عرفنا الدين من منظور فلسفي سيكون الدين جملة من الفروض الإنسانية التي أخذت طابع المعتقد عبر الإيمان والتصديق حول قضايا الخير والشر والخلق والبداية والنهاية. ونظرنا إلى التحولات التاريخية للدين سنجد ما من دين إلا وتحول إلى أيديولوجيا. إن هناك تشابهاً صميمياً بين الدين والأيدولوجيا، فنجد فيهما أشياء مطلقة كالحقيقة المطلقة، فضلاً عن ذلك إن الأيدولوجيا والدين يتطلبان الإيمان والتصديق دون برهان، والفرق بينهما أن الأيدولوجيا ذات الأصل الأرضي قابلة للدحض والتغيير، بينما الدين أكثر عنادة لأنها يفترض به الأصل الإلهي والغيبي.

يمكن للدين أن يقوم بوظيفة إيجابية وسلبية في التاريخ وكذلك الأيدولوجيا، الذي يفسر التغييرات فيهما ليس منطق الأيدلوجية ومنطق الدين بل الأرض التي تهب المعنى لهما. وبالتالي يجب أن نفسر التحولات الدينية الأيديولوجية بشكل مختلف عن صراعات الأرض لأنه من أخطر ما تعرض له الدين أنه في كثير من مراحل التاريخ تحول إلى المبرر الأيديولوجي لصرا عات الأرض فكانوا يتكئون عليه من أجل إضفاء القدسية عليه وهذا سر التشعب الديني،و في لحظة ما يعبر الدين عن الميل التاريخي أي الإصلاح.وهنا لابد من التأكيد أن الرأسمالية ليست ابنة البروتستانتية،و لكن البروتستانتية هي التعبير الديني عن تحولات المجتمع الأوربي نحو الرأسمالية. حيث تتحول الأيديولوجية الدينية إلى الأيديولوجية السائدة. وتبقى المشكلة التي توجهنا هي هل باستطاعة شخص علماني ديموقراطي أن يقول أن لا وظيفة لهذه الأيديولوجية إلا دمار العالم؟؟؟

د. يوسف سلامة:

الدين ما أن يخرج من فم النبي حتى يصبح شأناً إنسانياً، فلا معنى للدين خارج القراءة والتفسير فعندما تصبحان هما جوهر الفكر الديني فهذا يعني أن العنصر الإنساني قد اخترق الجوهر الديني، فالبنية اللاهوتية التي يصوغها الدين نفسه باعتبارها بنية متعالية على الإنسان والتاريخ ما هي إلا صورة تعكس ما يجري بين البشر أنفسهم. لو استعرضنا تاريخ الكنيسة وانشقاقاتها والطوائف الإسلامية لوجدنا في ذلك مصداقاً للقول إن الدين هو جهل بشري انطلق من قول ينسب إلى النبي أو أن النبي ينسبه إلى الله مباشرة، والدين يبقى تجربة روحية والمنظومات الدينية كلها تشترك في نقطة ابتداء واحدة ومن ثم تبتعد وهي تشكل رؤية للعالم والإنسان والله وتحاول تقديم رؤية مشتركة قائمة بين هذه المحددات الثلاث. ومن هنا إن هذا يثير نوعاً من الإيمان الروحي والخضوع للقوة الإلهية وهذه التجربة تتعين في الحياة في ممارسة أخلاقية وهو متمم للتجربة الروحية التي ينطوي عليها الدين ذاته إلى إيدولوجية- مادام الفرد يمارس دينيه بروحية صرفة، لكن عندما يتحول الدين إلى أيديولوجية تبدأ المشكلة أي من كونه تجربة روحية إلى ممارسة سياسية في إطار الممارسة الدينية، إلى أيديولوجيا سياسية محددة تضع مجموعة من القوانين والدساتير وتقونن للحياة الفردية ما يجب أن يفعله ويتحول الدين إلى عامل كابح لحرية الأفراد ويصوغ الأيديولوجية ويتجاهل الفرق الأخرى وحاجات الأديان الأخرى القائمة في المجتمع.

د. نزيه العظمة:

ليست مشكلتي مع الدين أنا مسلم ومؤمن لكن مشكلتي أن يصبح الدين دولة. كيف يمكن أن نصوغ في الأزمنة الحديثة دولة من الدين، أليس هذا نقضاً لتطور المعرفة العلمية.
إذا أردنا أن يقيم العرب دولة دينية أي مذهب يجب أن نعتنق لتتمحور عليه هذه الدولة. إذاً مشكلتنا مع الدين ليست مشكلة إيمان ولكن المشكلة تبدأ حين يبدأ الخلط بين الدين والدولة، فلماذا لا أعطي ما للدولة للدولة وما للدين للدين. يجب أن نؤمن بالعقل والإنسان والحرية. ونقيم العقد الاجتماعي بيننا.

د. زبيدة شموط

التكوينة الإلهية التي وضعها الله في الإنسان هي الروح والفكر عندما ينظر الإنسان إلى ذاته جيداً بمعزل عن المادية سيصل إلى الله حتماً، أما تسييس الدين بطبيعة الإنسان حين ينظر إلى الله يسييس الدين ويسييس ذاته وينسى مواطنة الإنسان في بلده وضمن محيطه، تسييس الدين الذي وضعه الإنسان بعد ظهور الديانات أوصل هذا الكون إلى أديولوجية الدين.

ليعود الإنسان لكونه خليفة الله في الأرض.

العلامةالشيخ حسين أحمد شحادة

في مفهوم الوحدة الوطنية بين الدين والأيدولوجيا

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما أضع الأيدلوجيا في مرآة الدين لأبحث عن صورة الآخر في ذاتي وعن صورة ذاتي في الآخر.. فإنّ الطرف الأقوى في مجال التقابل والمعاينة هو الذي سيضبط إيقاع التفوق في امتحانات أيدلوجيا الحداثة وأيدلوجيا الدين.. في امتحانات العلاقات النزاعية بين قالب الدين الجاهزة وقوالب الثقافية الدينية الجاهزة يصبح الفصل بين الإلهي والبشري هو الشرط الموضوعي لنقاش معنى المقدس والمدنس من المفاهيم والأفكار.. وإذ تميل الأيدلوجيا السلوكية إلى الاحتجاب بوهم الحقيقة عن الحقيقة وينزع التدين الأناني نحو نسف الجذر الإنساني للدين فإنّ من أخطر ما يواجه العقل العربي هو استلاب مستقبل هذا العقل بحراب العولمة العسكرية التي تصطاد العالم بشباك الأيدلوجيا اللامرئية مستترة وراء أيدلوجيا التفوق العلمي وما يرتبط به من تقنيات وسياسات لتظهر الأمم الشاردة عنها وكأنها العدو المعادي لا لتقدم العلم وتقنياته فحسب بل لحقوق الإنسان نفسه في الديمقراطية والإصلاح.. صحيح أن الدين من خلال تمركزه في منطقة القلب والروح يبدو أشمل وأوسع وأرحب من الأيدلوجيا المنغلقة على زاوية حادة أو جانب أحادي إلاّ أن الدين بما هو رؤية كونية يجب أن يتغذى ويتعدد بتعدد منابعه وإضاءته فيما يظهر من صريح القرآن الكريم: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..« المائدة 48 كذلك يناقش القرآن أيدلوجيات التكفير والتخوين وأيدلوجيات الضغائن والكراهية رافضاً افتراضات الأحكام المسبقة ومحاكم تفتيش العقول والقلوب لينزع عن فضاءات المعرفة بالله وبالإنسان لوثة التنازع في المجهول على المجهول ولوثة الاحتكام إلى الغموض والإبهام لأن من أعظم شواهد اغتيال العقل أن يصير الالتباس المعرفي هو نفسه المرجعية العليا لواقع ملتبس وأياً تكن درجة التشابه بين مشكلاتنا ومشكلات السلف الصالح فإن المنهج الصحيح في حلها هو أن نضيء فهمنا نحن للنص الأول حتى ولو كان متعارضاً أو متناقضاً مع أفهام من سبقنا من الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين. فإن كانت الأيدلوجيا بما هي منظومة لتفسير العالم الاجتماعي منطوية على نظام من القيم المقبولة لتثوير حركة الإصلاح والتجديد في المجتمع فإن الأيدلوجيات الإسلامية الإصلاحية بجناحيها السلفي والتجديدي لم تقبض بعد على الحلقة المفقودة من مفتاح النهضة العربية المرتجاة لأنها لم تنعتق بعد من نزعة القراءات الميكروسكوبية للنصوص الأولى ولم تلتفت إلى فظاعة الوقوع في شرك المطلقات وهي في تناطح الآراء ومطارحات الفكر لم تتحرر بعد من ولع الالتصاق بأحرف النص لتنعم بملامسة روحه لاسيما في موضوع تحديد الصلة بين الفكر والواقع وأراني أسأل مهموماً بنقاء الدين الأول وصفاء الدين الأول ما الفرق في ملاعب حروبنا الطائفية بين الأيدلوجيا التي تمارس الإسقاط الثوري والإسقاط السحري إسقاط الحكم على الواقع واعتباره بديلاً له وبين دين يمارس الإسقاط الطوباوي، إسقاط الغيب والتاريخ على الواقع فيسفك دم الوحدة الوطنية باسم المسيحية أو باسم الإسلام أو باسم التقدمية والرجعية.. وفي مشهد الذات العربية الممزقة يتناوب الدين والأيدلوجيا على حفر الواقع بالنصوص حفراً عشوائياً يوزع تطريز الوشم الاجتماعي نفسه بوثوقية تلقينية تعمدّ التملكية والتسلّط بتراتيل فكرة الخلود وتجميد الزمن أو بموشحات فكرة الخلاص وإنهاء الزمن حيث الدين العربي مجرد حارس على بوابة انتظار القيامة.. كذلك يبدو المصطلحان أيدلوجيا ودين وهما من المصطلحات التي لم نحسم بعد أمر تعريفهما الواضح والمحدد في معاجم لغتنا العربية فتشردا في مواجهة التناقض المتفجر من كل عصبية تلعق احتقار الآخر وتزدريه لتبدأ ملحمة الفتن عندما توصد الأيدلوجيات أبوابها على تقديس نظام اجتماعي منحوت بذهنية وثنية لا تقبل التغيير أو التحديث أو عندما يوصد الدين نصوصه الشارحة على تقديس تاريخ متعال على النقد والمساءلة لتظل الحلقة المفقودة سارحة في الجدل حول منطق الدور الباطل في علم المنطق إذا كان الدين عقيدة وقيماً فإن السؤال الجوهري ها هنا هل العقيدة هي التي تفسّر وتبرر معنى القيم السلوكية أم أن القيم الأخلاقية هي التي تفسّر وتبرّر معنى الاعتقاد بالدين..؟

وبذلك أثير الأسئلة الحرجة حول براءة الموروث الديني من هزيمتنا العربية الراهنة لأبحث عن ظواهر الدين ضد الدين في مجتمع عجز عن مواجهة حقائق الهويمة بالاعتراف بخطاياه بنقد ذاته فلجأ إلى توظيف الأيدلوجيات المذهبية والأيدلوجيات الحزبية لمقاومة حصار الاحتلال الأجنبي منذ سقوط الخلافة العثمانية وحتى احتلال فلسطين والعراق بذهنية كانت تستعير صورة الواقع التاريخي هروباً من مواجهة الواقع كما هو كائن لأنها لم تنتج نصوصها الملائمة لزمانها فانغلقت على إمعّات التراث انغلاق تابوت ألواح موسى في صناديق الأحبار المقفلة تحت قباب هيكل مقفل بأدلجة يصف القرآن الكريم حملتها بكائن يشبه الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. وعلى هذا المثال الساخر فإن شعار لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. قد دفع بنظريات استعادة الإسلام المثالي إلى وهم المحاكاة العاطفية دون أي التفات لعناصر الشروط التاريخية والاجتماعية المنتجة لذلك الإصلاح من هنا وبدل أن يعمد العقل الإسلامي إلى دراسة عوامل القطع الحضاري بحضارته وهويته وثقافته في ضوء إعادة إنتاج المعرفة لا بإسلاميات النص وإنما بإسلام الواقع والإنسان رفعت شعارات تبرير الهزيمة والانحطاط في الداخل الممزق بتسفيه حضارة الآخر وتقدمه العلمي وانشطر بناء الوحدة الوطنية بين أيدلوجيا دينية لا تعترف إلا بوحدة الرابطة الدينية أساساً للمجتمع وبين أيدلوجيا علمانية لا تعترف إلا بوحدة الرابطة القومية أساساً لوحدة المجتمع وأسدل الشعار على رأس الوحدة الوطنية مذبوحة بخناجر الاتهام والاتهامات المضادة وسجالات التخوين التي عصفت بجدل العلاقة بين العروبة ولإسلام.. وظل الفصل الأخير من سؤال الوحدة الوطنية جارحاً ومجروحاً بملء صرخته: إذا كانت القيم هي المعنى الذي يدار عليه مفهوم الدين والأيدلوجيا فإنّ هذا المعنى سيظل مجرد سراب خارج المجال الحيوي لوحدة الإنسان والوطن ما يعني أن امتهان كرامة الإنسان هو امتهان لمعنى الدين والتدين فكيف للدين أن يقارع نظريات عبث الوجود وفوضاه ثم يقارن هذا العبث بتدمير الوحدة الوطنية وجوهرها العميق بشل إرادة الإنسان ومصادرة حقه في الحرية والمواطنة والانتماء كذلك أفهم من كلام السيد المسيح (ع) يجب أن تولدوا ثانية إضاءة رائعة لمعنى تجديد الوعي بالدين والوطن والإنسان وليس من محضن لهذه الولادة الثانية إلا محضن الدولة الحديثة التي تكفل حرية التدين للجميع وحرية الرأي للجميع بوحدة وطنية هي الضامن الوحيد لفض اشتباكات التصادم بين الدين والأيدلوجيا بعيداً عن لغة استبداد الإيمان الذي يريد تفصيل الوجود والكون والوطن على قياس شبر من تراب الفيدرالية أو على قياس قفص الطائفية.. فهل من تغريبة أوجع من هذا الاغتراب وهذا الخراب اغتراب الواقع وخراب الفكر.. كأني ناهض إلى مرثية العقل العربي وفلاسفته ويا ما قيل عندما تنقلب الروح إلى مادة والوحي إلى كتاب والمعنى إلى حرف والتدين إلى خرافة والتقوى إلى طقوس وشعائر وكنائس ومساجد إلى مسارح والإيمان إلى تعصب والحقيقة إلى مخيال والدين إلى وثن والإنسان إلى مخالب والنور الإلهي جحيم فتن.. عندها سيكون الانتحار السقوط الاحتراق واللهب الأخير إلى رماد.. ومن بين هذا الرماد إذا كان منطق الاحتلال الجديد لعالمنا العربي والإسلامي يفرض علينا بقوة السلاح أن نستجيب لشروط التكيف مع نموذجه الحضاري فإن الرد المقاوم هذه المرة يجب أن ينطلق من حسم أشكال العلاقة بين ماضينا وحاضرنا كمدخل لتحصين هويتنا المهدّدة إما بالاستجابة لمنطق الاحتلال وإما بالقطيعة مع العصر بمنطق أدلجة الدين الذي يسّد علينا منافذ الإبداع لإنتاج وعي مضيء بالذات الدينية الخلاقة في مستوى تطلعات هذا الشرق بالمصاب بأعز ما عنده من كنوز الدين والوحدة والسلام.

د. أحمد برقاوي:

إذا نظرنا إلى المسائل بعيون بشرية وليس دينية سيتغير الخطاب بمعنى إذا عرفنا الدين من منظور فلسفي سيكون الدين جملة من الفروض الإنسانية التي أخذت طابع المعتقد عبر الإيمان والتصديق حول قضايا الخير والشر والخلق والبداية والنهاية. ونظرنا إلى التحولات التاريخية للدين سنجد ما من دين إلا وتحول إلى أيديولوجيا. إن هناك تشابهاً صميمياً بين الدين والأيدولوجيا، فنجد فيهما أشياء مطلقة كالحقيقة المطلقة، فضلاً عن ذلك إن الأيدولوجيا والدين يتطلبان الإيمان والتصديق دون برهان، والفرق بينهما أن الأيدولوجيا ذات الأصل الأرضي قابلة للدحض والتغيير، بينما الدين أكثر عنادة لأنها يفترض به الأصل الإلهي والغيبي.

يمكن للدين أن يقوم بوظيفة إيجابية وسلبية في التاريخ وكذلك الأيدولوجيا، الذي يفسر التغييرات فيهما ليس منطق الأيدلوجية ومنطق الدين بل الأرض التي تهب المعنى لهما. وبالتالي يجب أن نفسر التحولات الدينية الأيديولوجية بشكل مختلف عن صراعات الأرض لأنه من أخطر ما تعرض له الدين أنه في كثير من مراحل التاريخ تحول إلى المبرر الأيديولوجي لصرا عات الأرض فكانوا يتكئون عليه من أجل إضفاء القدسية عليه وهذا سر التشعب الديني،و في لحظة ما يعبر الدين عن الميل التاريخي أي الإصلاح.وهنا لابد من التأكيد أن الرأسمالية ليست ابنة البروتستانتية،و لكن البروتستانتية هي التعبير الديني عن تحولات المجتمع الأوربي نحو الرأسمالية. حيث تتحول الأيديولوجية الدينية إلى الأيديولوجية السائدة. وتبقى المشكلة التي توجهنا هي هل باستطاعة شخص علماني ديموقراطي أن يقول أن لا وظيفة لهذه الأيديولوجية إلا دمار العالم؟؟؟

د. يوسف سلامة:

الدين ما أن يخرج من فم النبي حتى يصبح شأناً إنسانياً، فلا معنى للدين خارج القراءة والتفسير فعندما تصبحان هما جوهر الفكر الديني فهذا يعني أن العنصر الإنساني قد اخترق الجوهر الديني، فالبنية اللاهوتية التي يصوغها الدين نفسه باعتبارها بنية متعالية على الإنسان والتاريخ ما هي إلا صورة تعكس ما يجري بين البشر أنفسهم. لو استعرضنا تاريخ الكنيسة وانشقاقاتها والطوائف الإسلامية لوجدنا في ذلك مصداقاً للقول إن الدين هو جهل بشري انطلق من قول ينسب إلى النبي أو أن النبي ينسبه إلى الله مباشرة، والدين يبقى تجربة روحية والمنظومات الدينية كلها تشترك في نقطة ابتداء واحدة ومن ثم تبتعد وهي تشكل رؤية للعالم والإنسان والله وتحاول تقديم رؤية مشتركة قائمة بين هذه المحددات الثلاث. ومن هنا إن هذا يثير نوعاً من الإيمان الروحي والخضوع للقوة الإلهية وهذه التجربة تتعين في الحياة في ممارسة أخلاقية وهو متمم للتجربة الروحية التي ينطوي عليها الدين ذاته إلى إيدولوجية- مادام الفرد يمارس دينيه بروحية صرفة، لكن عندما يتحول الدين إلى أيديولوجية تبدأ المشكلة أي من كونه تجربة روحية إلى ممارسة سياسية في إطار الممارسة الدينية، إلى أيديولوجيا سياسية محددة تضع مجموعة من القوانين والدساتير وتقونن للحياة الفردية ما يجب أن يفعله ويتحول الدين إلى عامل كابح لحرية الأفراد ويصوغ الأيديولوجية ويتجاهل الفرق الأخرى وحاجات الأديان الأخرى القائمة في المجتمع.

د. نزيه العظمة:

ليست مشكلتي مع الدين أنا مسلم ومؤمن لكن مشكلتي أن يصبح الدين دولة. كيف يمكن أن نصوغ في الأزمنة الحديثة دولة من الدين، أليس هذا نقضاً لتطور المعرفة العلمية.
إذا أردنا أن يقيم العرب دولة دينية أي مذهب يجب أن نعتنق لتتمحور عليه هذه الدولة. إذاً مشكلتنا مع الدين ليست مشكلة إيمان ولكن المشكلة تبدأ حين يبدأ الخلط بين الدين والدولة، فلماذا لا أعطي ما للدولة للدولة وما للدين للدين. يجب أن نؤمن بالعقل والإنسان والحرية. ونقيم العقد الاجتماعي بيننا.

د. زبيدة شموط

التكوينة الإلهية التي وضعها الله في الإنسان هي الروح والفكر عندما ينظر الإنسان إلى ذاته جيداً بمعزل عن المادية سيصل إلى الله حتماً، أما تسييس الدين بطبيعة الإنسان حين ينظر إلى الله يسييس الدين ويسييس ذاته وينسى مواطنة الإنسان في بلده وضمن محيطه، تسييس الدين الذي وضعه الإنسان بعد ظهور الديانات أوصل هذا الكون إلى أديولوجية الدين.

ليعود الإنسان لكونه خليفة الله في الأرض.

العلامةالشيخ حسين أحمد شحادة

في مفهوم الوحدة الوطنية بين الدين والأيدولوجيا

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما أضع الأيدلوجيا في مرآة الدين لأبحث عن صورة الآخر في ذاتي وعن صورة ذاتي في الآخر.. فإنّ الطرف الأقوى في مجال التقابل والمعاينة هو الذي سيضبط إيقاع التفوق في امتحانات أيدلوجيا الحداثة وأيدلوجيا الدين.. في امتحانات العلاقات النزاعية بين قالب الدين الجاهزة وقوالب الثقافية الدينية الجاهزة يصبح الفصل بين الإلهي والبشري هو الشرط الموضوعي لنقاش معنى المقدس والمدنس من المفاهيم والأفكار.. وإذ تميل الأيدلوجيا السلوكية إلى الاحتجاب بوهم الحقيقة عن الحقيقة وينزع التدين الأناني نحو نسف الجذر الإنساني للدين فإنّ من أخطر ما يواجه العقل العربي هو استلاب مستقبل هذا العقل بحراب العولمة العسكرية التي تصطاد العالم بشباك الأيدلوجيا اللامرئية مستترة وراء أيدلوجيا التفوق العلمي وما يرتبط به من تقنيات وسياسات لتظهر الأمم الشاردة عنها وكأنها العدو المعادي لا لتقدم العلم وتقنياته فحسب بل لحقوق الإنسان نفسه في الديمقراطية والإصلاح.. صحيح أن الدين من خلال تمركزه في منطقة القلب والروح يبدو أشمل وأوسع وأرحب من الأيدلوجيا المنغلقة على زاوية حادة أو جانب أحادي إلاّ أن الدين بما هو رؤية كونية يجب أن يتغذى ويتعدد بتعدد منابعه وإضاءته فيما يظهر من صريح القرآن الكريم: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..« المائدة 48 كذلك يناقش القرآن أيدلوجيات التكفير والتخوين وأيدلوجيات الضغائن والكراهية رافضاً افتراضات الأحكام المسبقة ومحاكم تفتيش العقول والقلوب لينزع عن فضاءات المعرفة بالله وبالإنسان لوثة التنازع في المجهول على المجهول ولوثة الاحتكام إلى الغموض والإبهام لأن من أعظم شواهد اغتيال العقل أن يصير الالتباس المعرفي هو نفسه المرجعية العليا لواقع ملتبس وأياً تكن درجة التشابه بين مشكلاتنا ومشكلات السلف الصالح فإن المنهج الصحيح في حلها هو أن نضيء فهمنا نحن للنص الأول حتى ولو كان متعارضاً أو متناقضاً مع أفهام من سبقنا من الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين. فإن كانت الأيدلوجيا بما هي منظومة لتفسير العالم الاجتماعي منطوية على نظام من القيم المقبولة لتثوير حركة الإصلاح والتجديد في المجتمع فإن الأيدلوجيات الإسلامية الإصلاحية بجناحيها السلفي والتجديدي لم تقبض بعد على الحلقة المفقودة من مفتاح النهضة العربية المرتجاة لأنها لم تنعتق بعد من نزعة القراءات الميكروسكوبية للنصوص الأولى ولم تلتفت إلى فظاعة الوقوع في شرك المطلقات وهي في تناطح الآراء ومطارحات الفكر لم تتحرر بعد من ولع الالتصاق بأحرف النص لتنعم بملامسة روحه لاسيما في موضوع تحديد الصلة بين الفكر والواقع وأراني أسأل مهموماً بنقاء الدين الأول وصفاء الدين الأول ما الفرق في ملاعب حروبنا الطائفية بين الأيدلوجيا التي تمارس الإسقاط الثوري والإسقاط السحري إسقاط الحكم على الواقع واعتباره بديلاً له وبين دين يمارس الإسقاط الطوباوي، إسقاط الغيب والتاريخ على الواقع فيسفك دم الوحدة الوطنية باسم المسيحية أو باسم الإسلام أو باسم التقدمية والرجعية.. وفي مشهد الذات العربية الممزقة يتناوب الدين والأيدلوجيا على حفر الواقع بالنصوص حفراً عشوائياً يوزع تطريز الوشم الاجتماعي نفسه بوثوقية تلقينية تعمدّ التملكية والتسلّط بتراتيل فكرة الخلود وتجميد الزمن أو بموشحات فكرة الخلاص وإنهاء الزمن حيث الدين العربي مجرد حارس على بوابة انتظار القيامة.. كذلك يبدو المصطلحان أيدلوجيا ودين وهما من المصطلحات التي لم نحسم بعد أمر تعريفهما الواضح والمحدد في معاجم لغتنا العربية فتشردا في مواجهة التناقض المتفجر من كل عصبية تلعق احتقار الآخر وتزدريه لتبدأ ملحمة الفتن عندما توصد الأيدلوجيات أبوابها على تقديس نظام اجتماعي منحوت بذهنية وثنية لا تقبل التغيير أو التحديث أو عندما يوصد الدين نصوصه الشارحة على تقديس تاريخ متعال على النقد والمساءلة لتظل الحلقة المفقودة سارحة في الجدل حول منطق الدور الباطل في علم المنطق إذا كان الدين عقيدة وقيماً فإن السؤال الجوهري ها هنا هل العقيدة هي التي تفسّر وتبرر معنى القيم السلوكية أم أن القيم الأخلاقية هي التي تفسّر وتبرّر معنى الاعتقاد بالدين..؟

وبذلك أثير الأسئلة الحرجة حول براءة الموروث الديني من هزيمتنا العربية الراهنة لأبحث عن ظواهر الدين ضد الدين في مجتمع عجز عن مواجهة حقائق الهويمة بالاعتراف بخطاياه بنقد ذاته فلجأ إلى توظيف الأيدلوجيات المذهبية والأيدلوجيات الحزبية لمقاومة حصار الاحتلال الأجنبي منذ سقوط الخلافة العثمانية وحتى احتلال فلسطين والعراق بذهنية كانت تستعير صورة الواقع التاريخي هروباً من مواجهة الواقع كما هو كائن لأنها لم تنتج نصوصها الملائمة لزمانها فانغلقت على إمعّات التراث انغلاق تابوت ألواح موسى في صناديق الأحبار المقفلة تحت قباب هيكل مقفل بأدلجة يصف القرآن الكريم حملتها بكائن يشبه الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. وعلى هذا المثال الساخر فإن شعار لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. قد دفع بنظريات استعادة الإسلام المثالي إلى وهم المحاكاة العاطفية دون أي التفات لعناصر الشروط التاريخية والاجتماعية المنتجة لذلك الإصلاح من هنا وبدل أن يعمد العقل الإسلامي إلى دراسة عوامل القطع الحضاري بحضارته وهويته وثقافته في ضوء إعادة إنتاج المعرفة لا بإسلاميات النص وإنما بإسلام الواقع والإنسان رفعت شعارات تبرير الهزيمة والانحطاط في الداخل الممزق بتسفيه حضارة الآخر وتقدمه العلمي وانشطر بناء الوحدة الوطنية بين أيدلوجيا دينية لا تعترف إلا بوحدة الرابطة الدينية أساساً للمجتمع وبين أيدلوجيا علمانية لا تعترف إلا بوحدة الرابطة القومية أساساً لوحدة المجتمع وأسدل الشعار على رأس الوحدة الوطنية مذبوحة بخناجر الاتهام والاتهامات المضادة وسجالات التخوين التي عصفت بجدل العلاقة بين العروبة ولإسلام.. وظل الفصل الأخير من سؤال الوحدة الوطنية جارحاً ومجروحاً بملء صرخته: إذا كانت القيم هي المعنى الذي يدار عليه مفهوم الدين والأيدلوجيا فإنّ هذا المعنى سيظل مجرد سراب خارج المجال الحيوي لوحدة الإنسان والوطن ما يعني أن امتهان كرامة الإنسان هو امتهان لمعنى الدين والتدين فكيف للدين أن يقارع نظريات عبث الوجود وفوضاه ثم يقارن هذا العبث بتدمير الوحدة الوطنية وجوهرها العميق بشل إرادة الإنسان ومصادرة حقه في الحرية والمواطنة والانتماء كذلك أفهم من كلام السيد المسيح (ع) يجب أن تولدوا ثانية إضاءة رائعة لمعنى تجديد الوعي بالدين والوطن والإنسان وليس من محضن لهذه الولادة الثانية إلا محضن الدولة الحديثة التي تكفل حرية التدين للجميع وحرية الرأي للجميع بوحدة وطنية هي الضامن الوحيد لفض اشتباكات التصادم بين الدين والأيدلوجيا بعيداً عن لغة استبداد الإيمان الذي يريد تفصيل الوجود والكون والوطن على قياس شبر من تراب الفيدرالية أو على قياس قفص الطائفية.. فهل من تغريبة أوجع من هذا الاغتراب وهذا الخراب اغتراب الواقع وخراب الفكر.. كأني ناهض إلى مرثية العقل العربي وفلاسفته ويا ما قيل عندما تنقلب الروح إلى مادة والوحي إلى كتاب والمعنى إلى حرف والتدين إلى خرافة والتقوى إلى طقوس وشعائر وكنائس ومساجد إلى مسارح والإيمان إلى تعصب والحقيقة إلى مخيال والدين إلى وثن والإنسان إلى مخالب والنور الإلهي جحيم فتن.. عندها سيكون الانتحار السقوط الاحتراق واللهب الأخير إلى رماد.. ومن بين هذا الرماد إذا كان منطق الاحتلال الجديد لعالمنا العربي والإسلامي يفرض علينا بقوة السلاح أن نستجيب لشروط التكيف مع نموذجه الحضاري فإن الرد المقاوم هذه المرة يجب أن ينطلق من حسم أشكال العلاقة بين ماضينا وحاضرنا كمدخل لتحصين هويتنا المهدّدة إما بالاستجابة لمنطق الاحتلال وإما بالقطيعة مع العصر بمنطق أدلجة الدين الذي يسّد علينا منافذ الإبداع لإنتاج وعي مضيء بالذات الدينية الخلاقة في مستوى تطلعات هذا الشرق بالمصاب بأعز ما عنده من كنوز الدين والوحدة والسلام.

د. أحمد برقاوي:

إذا نظرنا إلى المسائل بعيون بشرية وليس دينية سيتغير الخطاب بمعنى إذا عرفنا الدين من منظور فلسفي سيكون الدين جملة من الفروض الإنسانية التي أخذت طابع المعتقد عبر الإيمان والتصديق حول قضايا الخير والشر والخلق والبداية والنهاية. ونظرنا إلى التحولات التاريخية للدين سنجد ما من دين إلا وتحول إلى أيديولوجيا. إن هناك تشابهاً صميمياً بين الدين والأيدولوجيا، فنجد فيهما أشياء مطلقة كالحقيقة المطلقة، فضلاً عن ذلك إن الأيدولوجيا والدين يتطلبان الإيمان والتصديق دون برهان، والفرق بينهما أن الأيدولوجيا ذات الأصل الأرضي قابلة للدحض والتغيير، بينما الدين أكثر عنادة لأنها يفترض به الأصل الإلهي والغيبي.

يمكن للدين أن يقوم بوظيفة إيجابية وسلبية في التاريخ وكذلك الأيدولوجيا، الذي يفسر التغييرات فيهما ليس منطق الأيدلوجية ومنطق الدين بل الأرض التي تهب المعنى لهما. وبالتالي يجب أن نفسر التحولات الدينية الأيديولوجية بشكل مختلف عن صراعات الأرض لأنه من أخطر ما تعرض له الدين أنه في كثير من مراحل التاريخ تحول إلى المبرر الأيديولوجي لصرا عات الأرض فكانوا يتكئون عليه من أجل إضفاء القدسية عليه وهذا سر التشعب الديني،و في لحظة ما يعبر الدين عن الميل التاريخي أي الإصلاح.وهنا لابد من التأكيد أن الرأسمالية ليست ابنة البروتستانتية،و لكن البروتستانتية هي التعبير الديني عن تحولات المجتمع الأوربي نحو الرأسمالية. حيث تتحول الأيديولوجية الدينية إلى الأيديولوجية السائدة. وتبقى المشكلة التي توجهنا هي هل باستطاعة شخص علماني ديموقراطي أن يقول أن لا وظيفة لهذه الأيديولوجية إلا دمار العالم؟؟؟

د. يوسف سلامة:

الدين ما أن يخرج من فم النبي حتى يصبح شأناً إنسانياً، فلا معنى للدين خارج القراءة والتفسير فعندما تصبحان هما جوهر الفكر الديني فهذا يعني أن العنصر الإنساني قد اخترق الجوهر الديني، فالبنية اللاهوتية التي يصوغها الدين نفسه باعتبارها بنية متعالية على الإنسان والتاريخ ما هي إلا صورة تعكس ما يجري بين البشر أنفسهم. لو استعرضنا تاريخ الكنيسة وانشقاقاتها والطوائف الإسلامية لوجدنا في ذلك مصداقاً للقول إن الدين هو جهل بشري انطلق من قول ينسب إلى النبي أو أن النبي ينسبه إلى الله مباشرة، والدين يبقى تجربة روحية والمنظومات الدينية كلها تشترك في نقطة ابتداء واحدة ومن ثم تبتعد وهي تشكل رؤية للعالم والإنسان والله وتحاول تقديم رؤية مشتركة قائمة بين هذه المحددات الثلاث. ومن هنا إن هذا يثير نوعاً من الإيمان الروحي والخضوع للقوة الإلهية وهذه التجربة تتعين في الحياة في ممارسة أخلاقية وهو متمم للتجربة الروحية التي ينطوي عليها الدين ذاته إلى إيدولوجية- مادام الفرد يمارس دينيه بروحية صرفة، لكن عندما يتحول الدين إلى أيديولوجية تبدأ المشكلة أي من كونه تجربة روحية إلى ممارسة سياسية في إطار الممارسة الدينية، إلى أيديولوجيا سياسية محددة تضع مجموعة من القوانين والدساتير وتقونن للحياة الفردية ما يجب أن يفعله ويتحول الدين إلى عامل كابح لحرية الأفراد ويصوغ الأيديولوجية ويتجاهل الفرق الأخرى وحاجات الأديان الأخرى القائمة في المجتمع.

د. نزيه العظمة:

ليست مشكلتي مع الدين أنا مسلم ومؤمن لكن مشكلتي أن يصبح الدين دولة. كيف يمكن أن نصوغ في الأزمنة الحديثة دولة من الدين، أليس هذا نقضاً لتطور المعرفة العلمية.
إذا أردنا أن يقيم العرب دولة دينية أي مذهب يجب أن نعتنق لتتمحور عليه هذه الدولة. إذاً مشكلتنا مع الدين ليست مشكلة إيمان ولكن المشكلة تبدأ حين يبدأ الخلط بين الدين والدولة، فلماذا لا أعطي ما للدولة للدولة وما للدين للدين. يجب أن نؤمن بالعقل والإنسان والحرية. ونقيم العقد الاجتماعي بيننا.

د. زبيدة شموط

التكوينة الإلهية التي وضعها الله في الإنسان هي الروح والفكر عندما ينظر الإنسان إلى ذاته جيداً بمعزل عن المادية سيصل إلى الله حتماً، أما تسييس الدين بطبيعة الإنسان حين ينظر إلى الله يسييس الدين ويسييس ذاته وينسى مواطنة الإنسان في بلده وضمن محيطه، تسييس الدين الذي وضعه الإنسان بعد ظهور الديانات أوصل هذا الكون إلى أديولوجية الدين.

ليعود الإنسان لكونه خليفة الله في الأرض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى