الخميس ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الطـّيْف

ها هو فراغُ مقعدِها يكبر ويكبر حتى ملأ أرجاءَ قاعة الدرس...

كانت بِنيتُها النحيلة – مثل فَفَنِ زيتون فتيّ – تضفي على المكان حُلَّة الوجود... وحركاتُ يديْها الهيكليتيْن المترددتيْن عِلَّة َ اهتمامي بالأشياء.

تلميذتي "زهرة" مثل ابنة بالنسبة لي... من كبدي خرجت وضاعت في مجهول العالم.

يكفيها أن تتسلّل إلى حجرة الدرس كخيال شاحب، لكي أشعر بغريزة الأبوّة.
رأيتُها تذوي يوماً بعد يوم كما تذوي وردةٌ هجرها الندى... ظُلماً... كنبتة برِّية، التفتَ عنها الوجودُ إلى الكماليات التافهة... وهي في صمتٍ لا تململُ شفة؛ لا تطلبُ أدنى مساعدة.

تمنّيْتُ لو تتأخّر مرّة عند خروج التلاميذ لتسألني حاجة. أبداً لم تفعل. كانت – بكلِّ بساطة – تختفي كما الأشياءِ الصغيرة.

مَنْ تكون هذه الطفلةُ التي غابتْ عن الفصل عدّة أيّام؟

من بطاقتها المدرسية علِمتُ أنَّ عمُرَها خمسَ عشرة سنة وبضعة أشهر، وأنّ والدَها مُتوفّى، وأنّها تحت ولاية رجل يحمل اسم عائلتِها. فكّرتُ أنّه أخوها، لكنّ صديقةً لها قالت:

 مات أخوها في المستشفى، وجاءت خالتُه لتأخذها وأخويْها الصغيرين إلى حيث لا ندري...

غمرني حزنٌ عميق، وغرقتُ في التفكير في حال تلميذتي العزيزة...

أيْنكِ يا هيكلا عظمياً سخرتْ منه الأبدانُ المكتنزة بالدهون؟ أيْنكِ يا طفلةً وجنتاها الظليلتان هزأتْ منها الوجوهُ المدوّرة؟ والله أنتِ من عليه أن يسخرَ من الوجود بصمتِك الحكيم، إذ ِ الوجودُ (وجودُنا) عبث... ومن الأبدان الشبعانة، بصومِك الأبدي، إذ ِ التخمةُ (تخمتُنا) حُطام... أيْنكِ يا "زهرة" بين الصباح والضياع؟ بين المساء واجترار فكرة الانتحار؟

شهراً كاملاً بحثتُ عن مأواكِ الجديد، بدون جدوى.

أراني في البحث عنكِ كمَنْ يبحثُ في الرمادِ الباردِ على أثرٍ للنار؛ كخائر لم يقوَ على الاعتراف لنفسِه بالفشل... أراكِ فاتَ الأمل.

فها أنا في كفن صباح كئيبٍ ما زلتُ أبحث عنك؛ وأرى ابتسامتَـك النادرة تطوفُ في قاعة الدرس، وطيفَـك يطفو على مقعدِك كهُلامٍ مسّتْه النار... لعلّه أنتِ، فما عرفت.
ورأيتُـكِ مِعطفاً ثقيلاً رثّاً سماويَ اللون، ويداً نحيلةً بطيئةً إلى كُرّاستِك... ماذا كنتِ تخُطّين على الكُراسةِ الغبية؟... كلُّ ما أعطيتُـكِ خليطٌ من المغالطات.

قالوا عنّي مدرّسُ فلسفة (؟)... تمجيدا؟... طُزَّ في الفلسفات التي لا تصون كرامة الأطفال!

أينكِ تحت البطون الشبقية؟

أينكِ تحت وطأةِ الأقدام القذرة؟

هل باستطاعتي الآن أن أكون كما كنتُ؟..

لقد غيّر غيابُك عن فصلي كلَّ شيء، فصرتُ لا أفكِّر إلاّ في الحياة (هل لها معنى؟)، وفي الطموحات (هل لها تبرير؟)، وفي أحلامي (هل هي أوهام؟)... بل في حلمٍ واحدٍ لا غير: أن أجدَكِ وأضمَّكِ بقوّة إلى صدري إلى أن تنفذي منه إلى القلب...
لكي لا تموتي أبدا...

لا يا "زهرتي" البريّة! لا تموتي على الرصيف الرهيب! لا تموتي في غرفة مظلمة! وإيّاك أن تلقي بنفسِكِ من عَلْيائك إلى الحضيض!... فها يدي ممدودةٌ إليك شُدّي عليها بقوّة... يدي ترتعش، لكن فيها قوّة...

وأنا في الشارع أمُدُّ يدي إلى الخواء، إذا بيدٍ رقيقة تشدُّ عليها... كانتْ هي تكشف لي على ابتسامة بجمال الحياة.

 "زهرة"؟..

فحرّكتْ رأسَها مجيبةً (نعم).

 وما أحمرُ شِفاه هذا الذي على شفتيْكِ الصغيرتيْن؟...
فطأطأتْ.

 وما هذه الملابسُ التي تُعرّيك؟...

فاحمرّتْ وجْنتاها اللتان في حجم حبّتيْ كَرَز.

 ... إنّها لا تُظهِرُ منكِ سوى العظام والأسى...

فقلتُ لها:"اصعدي إلى سيّارتي المتهالكة"؛ فدلفتْ إليها في صمْتِ الخائف من العِقاب.

 لا تخافي يا زهرةً برِّيةً وجدتِ الأمان!

في طريقنا إلى البيت، لم يفُه أيٌّ منّا بكلمة، بيد أنَّ روحيْنا تعانقتا في فرحة اللقاء.
ولم تتردّدي في دخول بيتي المتواضع؛ ورُحْتِ تنظرين باستفهام إلى صُور المُناضِلين المعلّقة على حيطانِه المقشورة.

قلتِ:

 من هولاء؟...

وقلتُ:

 هذا "عُمر"...وهذا "المهدي"...وهذه "سعيدة"...

ثم استصبرتُكِ دقيقةً حتى آتيكِ بعصير البرتُقال؛ فصبرت؛ وذهبتُ إلى المطبخ وأنا أفكّرُ في إقناعِك بالعودة إلى الفصل، وفي إهدائِكِ حُلُماً مّا: الأبُوّة المفقودة أو الصداقة الخالصة.

عند عودتي إليكِ بالعصير، وجدتُكِ قد اندسسْتِ تحت غِطاء فراشي، وكتفاكِ الهزيلان باديان كنقطتيْ استفهام (؟)، وعلى الأرض ملابسُكِ الصغيرة...

 لا! ... لا! ... لا يا بُنيّتي...أنا مثلُ أبيك، وأنتِ ما زلتِ طُفيْلَةً تشتهي الحلوى والشكولاطة...لا! أنا الأبُ الذي ليس لك... أنا الصديقُ الذي تحلُمين به... أنا أستاذُك...

وما قلتِ كلمة... بل استدرتِ إلى الحائط وأجهشْتِ بالبُكاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى