الثلاثاء ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم حميد طولست

الزواج «7» الكد والسعاية

المقدمة

إذا نحن تمحصنا في العلاقة بين الرجل والمرأة، وإستقرأنا كيف نظمها الإسلام، لوجدنا أنها، إلى جانب كونها علاقة بنيت أساسا على الودّ والرحمة والمعروف وحسن المعاشرة، قد شيدت كذلك وفق مبدأ شرعي محدّد وعلاقة قانونية رائعة اعتمدت معادلة دقيقة وعادلة لخصها سبحانه وتعالى في قوله الحكيم: "ولُهن مثلُ الذي عليهنّ بالمعروف" البقرة/228 القاعدة التي تضمن للمرأة حقّها الشرعي المقدس على زوجها مقابل حقّه الشرعي عليها أيضاً، ويعم السكن والمودة طرفي العلاقة الزوجية لتتصف بالديمومة والثبات والاستقرار.

ولمّا كانت مؤسسة الأسرة هي النواة الأولى التي ينبثق عنها سائرالعلاقات البشرية في المجتمع الإنساني، ومن أهم المؤسسات الاجتماعية، وتحتاج كباقي المؤسسات إلى أنواع مختلفة من الإدارة، المالية والتربوية، لضمان دوام واستمرارية تلك المودة، وذلك السكن، وكان لابد من الاهتمام بقيادتها، ورعايتها وتدبير شؤونها وحمايتها من الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعتري تسيير أمورها. وقد ثبت عملياً أن الرجل -في معظم الأحيان- هو من يتولى هذه القيادة، لما تميّز به من صفات القوة الجسدية والقدرة على العمل الشاق لكسب المال الضروري لحياة الأسرة حسب التشريع الإسلامية والحكمة والمنطق، وتبقى المرأة، في نظر بعض المجتمعات، مجرد مديرة للبيت وراعيته، تنجب الأبناء، وتمرض المريض، وتطعم الصغير، خارج كل تنمية، وكأن التنمية تسير بعجلة واحدة.

بينما حقيقة الأمر، هو أننا نجد المرأة على رأس كل العاملين النشطين في تنمية الأسرة والمجتمع ماديا ومعنويا، حيث أنها لا تنتهي من عمل إلا وتشرع في آخر جديد، لا هم لها، إلا الرقي بمستوى أسرتها وتنميته، سواء في البادية أو المدينة. فقد كانت ولازالت-ومند الأزل وفي كل الدنيا- هي صاحبة الدور الأساس في التدبير والتخطيط والتوجيه والإيحاء لشريكها الرجل بالقيام بتحويل كل ذلك إلى عمل تنفيذي، تاركة له فرصة الخروج على الناس وهو "يبرم" شاربه ويعلن عن منجزاته، مفتخرا أمام أقرانه والناس جميعا، أنه هو الذي قام بكل شيء، وحقق وحده رخاء أسرته، وأنه هو من راكم بمفرده كل ثرواتها ، الشيء الذي يصيب ، الغالب الأعم، أكثرية الأزواج بالغرور والطغيان في التعامل مع زوجاتهم وأولادهم، مصداقا لقوله تعالى "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" فلا ينفقون على دويهم مما ملكوا، أو تشح أنفسهم على ذلك فيقترون عليهم ويضيقون. وأنا هنا لا أتحدث عن النفقة التي هي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، كما في قوله تعالى: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" البقرة: 233. لكني أتحدث عن حرمان المرأة من الحصول على نصيبها من مجموع الثروة التي ساهمت في تكوينها وتنميتها خلال فترة الحياة الزوجية، مقابل ما بذلته من مجهودات مضنية إلى جانب زوجها، ولو اقتصر ذلك على عملها الروتيني التقليدي داخل البيت- الذي لا يقلل من أهميته إلا جاهل لما له من دور في تهيئ الظروف الملائمة لتحريك إرادة الزوج ودفعه لتحقق النجاحات- والذي كان من المنطقي واللازم أن يُنظر إليه ويتعامل معه بشيء من المعروف والمروءة، ويخصص لها مقدارا مناسبا كأجر مقابل لذلك العمل، كما قال ابن كبر "ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤدي كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف"، حتى تُضمن الحقوق الزوجين الاجتماعية والاقتصادية، فلا تفسدها المشاكل ذات الطبيعة المالية التي كثيرا ما تنشأ عنها خلافات كبيرة تزعزع استقرار الأسرة، وتمزق علاقة الود والسكن بين الأزواج، إن هي لم تُنظم أو لم يتم التفاهم عليها بين الأزواج.

وللحد من المشاكل الأسرية، التي تحدث غالبيتها بسبب تدخل المال الذي هو عصبهذا العالم الذي تراجعت فيه القيم الإنسانية وطغت فيه قيمة المادة على كل شيء حتى قال عنه سبحانه "تحبون المال حبا جما" لكن ونحمد الله على ذلك أنه رغم ذلك فانه لازالت في مجتمعنا بعض المظاهر الإنسانية الجميلة جدا رغم ندرتها، إلا أنها تعبير بليغ ومباشر عن روح المحبة بين البشر ومن بينها اهتمام الأمازيغ بقيمة الإنسان المتعامل بالمال، والتي عندهم اكتست أهمية بالغة، جعلت الفقهاء والقضات أهل سوس على الخصوص) يعقدون له فصولا خاصة استولت على مساحة واسعة من مؤلفاتهم التي اهتمت بتنظيم النوازل المالية والتعامل بها بين الناس عامة والأزواج خاصة، إلى درجة أنهم أضافوا إلى قانون الإرث والطلاق، حق المرأة في "تمازالت" أو الكد أو السعاية أو الجرية أو حق اليد أو الشقا، والذي تأخذ بموجبه المرأة نصيبا عادلا في الأموال المكتسبة أثناء قيام الزواج نتيجة عملها ومجهودها في تنمية أموال الأسرة، والتي يمنها المطالبة بها بعد انتهاء العلاقة الزوجية، إما بالطلاق أو الوفاة وحتى أثناء الحياة الزوجية عندما تحاصرها متطلبات الحياة المرتفعة وتعرفه من ضغوطات نفسية واجتماعية واقتصادية، خاصة حينما تكون المرأة تعرف أن زوجها ميسور الحال، وله القدرة في التوسعة عليها وعلى أبنائها، فلا تقبل أن يبخل عليها، أو يسرف مما ساهمت في إنتاجه من ثروة على غيرها من النساء. فتقوم القيام التي تعجل بنسف الهدوء والسكينة التي بنيت عليها الأسر.

وللتذكير مرة أخرى، فإنه لا علاقة للإرث والقوامة والإنفاق الواجبين شرعا، بـ"تمازالت" أو حق الكد والسعاية، الذي هو من صلب الأعراف الأمازيغية التي لا تناقض الشريعة الإسلامية، ولا تتنافى مع الفقه المالكي، والتي تنص على أنه إذا كانت الزوجة بمناسبة الطلاق تتسلم دريهمات تتعلق بنفقتها أثناء عدتها وبالمتعة وإذا كانت الأرملة تتوصل بحصتها من التركة، فان حق الكد والسعاية غير هذا وذاك فهو نصيبها عن سعيها وكدها إلى جانب زوجها الذي تنكر لها واستحوذ على النتيجة وحده. التي، حسب العرف السوسي، يمكن للمرأة أن تطالب بها حتى أثناء الزواج كما سبق أن ذكرت، بدليل ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: "لتجزى كل نفس بما سعت، وقوله:"وان ليس للإنسان إلا ما سعى" صدق الله العظيم..وبدليل النازلة التي حدثت أثناء حكم سيدنا عمر بن الخطاب، وهي قضية عمرو بن الحارث وزوجته حبيبه بنت زريق عمه عبد الله ابن الأرقم حيث كان عمرو قصارا وزوجته ترقم الأثواب حتى اكتسبا مالا كثيرا فمات عمرو وترك الأموال فاخذ ورثته مفاتيح المخازن والأجنة واقتسموا المال ثم قامت عليهم زوجته حبيبه وادعت عمل يديها وسعايتها فترافعت مع الورثة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى بينهما بشركة المال نصفين فأخذت حبيبه النصف بالشركة والربع من نصيب الزوج بالميراث لأنه لم يترك الأولاد واخذ الورثة الباقي (كتاب ابن عرضون).

وعلى الرغم من كل هذا وذاك من الحجج التي لا يسعها المقال، فإن هذا القانون العرفي الذي لا يتنافى إطلاقا مع التشريع والفقه المالكي-والذي لم ينل ما يستحقه من البحث والدرس- فإن الفصل 49 من مدونة الأسرة لم يعترف بحق الزوجة في الكد والسعاية كما نادى به العديد من فقهاء المالكية في المغرب وكما أكده القضاء المغربي في قراراته وأحكامه وكما نادى به جل المهتمين بشؤون الأسرة ودعوا إلى ضرورة مواكبة المدونة لمقتضيات التحديث مع الحفاظ على طابع الأصالة المستمد من شريعتنا الإسلامي وأعراف قبائلنا. كما أنه يمكن أن يلاحظ كذلك أن الكثير من الفقهاء رفضوا حق المرأة في الكد والسعاية جملة وتفصيلا، وعمل البعض من الذين قبلوه، على التضييق من نطاق إعماله، والتميز بين عمل المرأة من أهل البادية وعمل أهل المدينة وقرروا أنه ألا سعاية لنساء الحواضر، ولا كسب لهن لأنهن من ذوات الحجاب، وأنهن يردن للفراش، ما لم تكن الزوجة معينة لزوجها بعملها في الغزل أو النسيج أو الطرز. وحول هذا قال الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري في الفتوى التي صدرت عن ابن عرضون والتي قضى فيها بتمكين المطلقة من نصف المال الذي اكتسبه زوجها بمساعدتها: "أنها فتوى تتعلق بنساء البادية اللواتي يشاركن أزواجهن في الخدمة من حصاد ودرس ورعي وغيرها زيادة على الأعباء الداخلية لبيت الزوجية"... فما هو يا ترى وضع المرأة التي تعمل خارج البيت كالرجل، بل وتزيد عليه في ذلك بعملها داخل البيت، ألا تستحق المقابل على ما حققته لأسرتها من ثروة بفضل عنائها ومشقتها داخل البيت وخارجه، والذي يسمى عند المغاربة بعدة مسميات منها الكد والسعاية، وحق الشقا أو حق الجرية أو حق اليد كناية على ما تؤديه الزوجة من خدمات داخل مطبخ البيت وتتأذي منها يداها بسبب تعاملها المستمر مع نار المطبخ.

ولا يكاد الباحث في كتب الفقهاء والنوازليين أن يجد اعترافا منهم بحق المرأة في كدها، إلا في كتب النوازليين المغاربة وخاصة كتب الغماريين والسوسيين، الذين سجلت المؤلفات الكثيرة، احتفاءهم الكبير، واهتمامهم البالغ بقضايا المرأة، وخاصة مسألة السعاية التي احتلت مساحات واسعة من الفقه والقانون المازيغي الذي قدر المرأة وشرفها عظيم الشرف حتى سميت في لغتهم الامازيغية بـ "تامغارت" مؤنث أمغار أي الشيخ هو رئيس القبيلة، وذلك أمر منطقي لأن طبيعة البلاد السوسية القبائل الجبلية تجعل المرأة تتكلف بأعمال الحرث والحصاد، وجني الثمار، والاحتطاب وجمع الحشائش، وتربية البهائم وسياستها بالعلف و السقي، ورعاية النتاج، وتربية الدواجن، بالإضافة إلى قيامها بالصناعات البسيطة كنسيج الزرية، وغزل الأكسية وغيرها كثير، الشيء الذي جعل الفقهاء النوازليين يعطون الأهمية البالغة لعمل المرأة ويصدرون فتاوى تمنحها النصف في العمل تسوية بالرجل، كما في فتوى ابن عرضون الكبير الصادرة في غمارة بشمال المغرب، والتي وردت الإشارات إليها بصفة عامة في بعض كتب فقه والنوازل، كـ"نوازل العلمي وأبو زيد عبد الرحمان الفاسي الذي صرح بذلك في نظمه لعمل فاس. وهذا نص الفتوى كما أوردها صاحب العمل الفاسي في نظمه فهـي:

وخدمة النساء في البـوادي
للزوج بالدراس والحصــاد
قال ابن عرصون لهن قسمة
على التساوي بحساب الخدمة
لكن أهل فاس فيها خالفـوا قالوا في ذالك عرف يعـرف

لكن ورغم كل ما قيل عن أهمية وشرعية حق المرأة في الكد والسعاية، إلا أنه، ومع الأسف الشديد، مازال هناك، وإلى يومنا هذا، من الفقهاء من يرفضه رفضا قاطعا، ويحرمه لأنه مستمد من الأعراف المحلية لمنطقة سوس، بدعوى أن تطبيق العرف يتميز بطابع الحصرية المكانية والتحديد الجغرافي ولا يمكن تطبيقه على من يعيش خارج تلك المناطق. ربما يكون في هذا الطرح وهذا التعليل شيء من الصواب والمنطق فيقبل، لكن غير المقبول، والذي لا يستسيغه العقل السليم، هو اعتبار بعض الجهات أن العرف الامازيغي عرف رجعي جاهلي لا علاقة له بالإسلام، لا من قريب ولا من بعيد، وأنه لا يرقى إلى مرتبة القانون لأنه غير مكتوب.

وللتاريخ فقط، أقول إن القبائل الأمازيغية انفردت عن قبائل العالم كله، بظاهرة انتشار الكتابة والتوثيق، حيث كانت لا تدون قوانينها فحسب، بل كانت تكتب كل ما يرتبط بالحياة المجتمعية بما في ذلك عقود الزواج، وجهاز المرأة المتزوجة، وعقود الازدياد، ورسوم الملكية، وسائر البيوع والتفويتات والإراثات، في سجلات وألواح يطلق عليه أسماء مختلفة حسب المناطق، ففي سوس مثلا أطلق على تلك القوانين اسم: (لوح) و(آمقون) و(ديوان)، وفي قبائل الأطلس المتوسط: (أزرف)، أما في قبائل المغرب الشرقي فتسميه: بـ(تعقيدت)، في حين أن قبائل الصحراء سموها: بـ(قانون الجماعة) أو (أيت ربعين)، بينما في قبائل الريف تطلق عليها اسم: (لقانون)..

ويشهد على ظاهرة انتشار الكتابة في هذه القبائل، الكم الهائل الذي خلفه علماء سوس من كتابات ومجلدات ك(المعسول) و(سوس العالمة) للعلامة المختار السوسي وغيرها من مؤلفات.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى