الثلاثاء ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
عن الحضارة (٤)
بقلم محمد متبولي

الحضارة الغربية والوحش الكامن

عندما نتصدى بالنقد لحضارة مغايرة لحضارتنا علينا ان نتوخى الحذر، فعادة ما يكون نقدنا لتأثير تلك الحضارة علينا وهو ما قد يجعلنا نتبنى وجهات نظر مغايره لوجهات نظر أهل تلك الحضارة فيها، خاصة وأن فهمنا لتاريخ الاخرين والاحداث التى أثرت فيهم لن يكون الفهم الامثل مثلما يفهم هم تاريخهم او نفهم نحن تاريخنا، وربما فسر ذلك الآراء المتعصبة التى يتبناها بعض الغربيين ضد حضارات الشرق او يتبناها بعض الشرقيين عن حضارات الغرب، لذلك فسوف نستهل ما سنقول بالتأكيد على ما للحضارة الغربية من انجازات قبل ان نبدأ رحلة نقدها، فهذه الحضارة نجحت فى أقل من خمسمائة عام فى انجاز ما لم تستطع اية حضارة غيرها انجازه فى الاف السنين، فنجح الانسان بموجب التقدم الذى حققه الغرب فى قطع شوطا كبيرا ان لم يكن مهولا فى السيطرة على الطبيعة، ورحمت تلك الحضارة الانسان من كثير من الشقاء الذى كان يكابده فى العمل عن طريق استحداثها للميكنة، وحققت حلمه فى سرعة وحرية التنقل لأى مكان فى العالم وأصبحت حياته أكثر رفاهة، كما نجحت فى اكتشاف الكرة الارضية والكثير من أسرار الكون، وحققت قدرا كبيرا من التقدم فى العلوم كافة خاصة الطب وهو ما ضمن للانسان حياة أفضل وعمرا أطول، وربما لم تحرز أية حضارة سابقة ذلك الانتشار الذى حققته الحضارة الغربية، فحتى فى أكثر اماكن الكرة الأرضية وعورة نجد أحد منجزاتها كجهاز الراديو أو التلفاز، وأدى ذلك كله بطبيعة الحال الى ايمان الكثيرين بها ايمانا مفرطا حتى ان بعضهم أعتبرها الحضارة المثلى التى لا يمكن للأنسان ان يحقق أكثر مما حققته، ولم يتبقى له سوى ان تصبح تلك الحضارة هى السائدة فى العالم والتطور الروتينى الذى ستحققه تلك الحضارة فى المجالات التى تقدمت فيها، ومع هذا فهناك نقيصة خطيرة فى تلك الحضارة ربما تدمرها فى زمن وجيز اذا ما قدر لها الظهور، هذه النقيصة هى ذلك الوحش الكامن الذى ربته تلك الحضارة فى داخلها وأخذ ينمو كلما نمت ويتجسد لها على فترات متباعدة حتى حقق تجسده الاكبر فى الحرب العالمية الثانية، وكان ومازال يحاول الغرب السيطرة عليه وترويضه دون ان يكون متأكدا حتى لحظتنا هذه من نتائج تلك المحاولات، وسنحاول هنا اقتفاء أثر هذا الوحش الكامن بدءا من ظروف نشأة تلك الحضارة وما تلاها.

فمع نهاية القرون الوسطى كانت المؤسسة الدينية الغربية متمثلة فى الكنيسة الكاثوليكية قد حادت عن مسارها، وأصبح يتسيد عليها الجمود والخرافة وأهتم رجالها بمصالحهم الشخصية وجمع الثروات، وأصبحت حامية لطبقة الاقطاع التى تسلطت على أوروبا آنذاك بل أصبحت هى نفسها مؤسسة اقطاعية تملك الثروات والاراضى، كما انها أنشأت محاكم التفتيش على العقائد لارهاب البسطاء من أية محاولة للخروج عن تعاليمها، ومواجهة الافكار المستنيرة التى كانت بدأت تتسرب للداخل الغربى او محاربة الاصلاحيين او المخالفين فى المذهب والعقيدة، ثم بدأ بعد ذلك مشهدا جديدا يلوح فى الافق، فربما أدت الاخفاقات المتكررة للحملات الصليبية التى دعمتها الكنيسة الى اهتزاز صورتها لدى العامة خاصة وأنها كانت قد منتهم بالتخلص من حالة البؤس المنتشرة بينهم بسبب الفقر عن طريق حيازة ثروات الشرق وهو ما لم يتحقق، كذلك تصاعدت رغبة بعض رجال الكنيسة الرافضين للممارسات التى أعتبروا انها منافية لتعاليم المسيحية فى الاصلاح وهو ما تولد عنه ظهور محاولات الاصلاح المسيحى من داخل الكنيسة أو الانشقاق عليها كما فعلت البروتستانتية، علاوة على ذلك فقد أدى اتصال الغرب بالحضارة الشرقية عن طريق الحملات الصليبية والاندلس ونزوح الكثير من علماء الامبراطورية البيزنطية عقب فتح القسطنطينية على يد العثمانيين الى أوروبا خاصة ايطاليا الى بداية عصر النهضة الاوروبية، كما ادى ظهور عصر الكشوف الجغرافية والطرق التجارية الجديدة خاصة للهند والامريكتين لأنتعاش حركة التجارة والرغبة الملحة فى ظهور الدولة القومية الحديثة التى تنشأ الجيوش وقوات الامن والبنية التحتية والقوانين التى تدعم ازدهار تلك التجارة وبطبيعة الحال الصناعة فيما بعد.

وعلى ما يبدو ان الرغبة فى انشاء الدول القومية كانت أخذه فى التصاعد حتى اننا نجد ميكيافيللى الفيلسوف الايطالى والذى عرف عنه الورع ينصح أحد الامراء بأستخدام كل الوسائل الممكنة حتى ولو كانت غير أخلاقية فى سبيل توحيد ايطاليا مستخدما المبدأ الشهير الغاية تبرر الوسيلة، وهو ما يعنى ببساطة ان الدولة القومية كانت قد أصبحت هدفا فى حد ذاته يعلو على كل الاهداف حتى الاخلاقية منها، وبطبيعة الحال كانت تلك الدولة ستحتاج الى فرض سلطانها كاملا على مواطنيها خاصة وانها تطرح نفسها كممثلا لمصالحهم وهو ما يتعارض مع فكرة وجود سلطة أخرى تناوئ سلطتها كتلك التى تملكها الكنيسة، ومع تطور حركة النهضة-والتى نشأ جزءا كبيرا منها فى حضن الكنيسة نفسها- كان من الطبيعى ان تتحول تلك الحركة من مجرد حركة لاحياء التراث الحضارى الغربى القديم الى مرحلة انتاج الافكار والارهاصات الاولى لعصر التنوير، ومن الواضح ان الكنيسة قد وضعت نفسها فى مواجهة مع حركة الاستنارة ويظهر ذلك فى اجبارها عالم الفلك جالليليو على التراجع عن أفكاره حول دوران الارض حول الشمس، وذلك الحذر الذى كان يبديه الفيلسوف الفرنسى ديكارت فى نشر أفكاره ومحاولته الدائمة للتأكيد على ان أفكاره تؤيد اراء الكنيسة ولا تعارضها خوفا من بطش رجالها به، ومع الوقت أدى ظهور الدول القومية وتصاعد حركة الاستنارة والتى ما كان يمكن الكنيسة الوقوف فى مواجهتها خاصة وان الدول التى أخذت بالاصلاح الدينى كانجلترا ابدت تسامحا كبيرا تجاه افكار حركة الاستنارة وهو ما ساعد على نمو تلك الحركة فى اوروبا كلها، علاوة على وجود أسس لفكرة فصل الدين عن الدولة فى المسيحية متمثلة فى مبدأ اعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر، الى تراجع سلطة المؤسسة الدينية ثم الى تحولها بوجه عام الى مؤسسة ثانوية فى الحياة الغربية فيما بعد، وقبل ان ننتقل من تلك النقطة ربما يفهم البعض ان حركة الاصلاح الدينى كانت سببا فى ضياع المؤسسة الدينية الغربية لكن ربما لولا تلك الحركة ما كان بقى بعض دور لتلك المؤسسة الى يومنا هذا، فالمد الاستنارى والدولة القومية كانتا سيمحوانها لا محالة اذا ما كانت استمرت فى مواجهة نفوذهم الاخذ فى التعاظم.

وربما أوجد الصراع المحتدم بين المؤسسة الدينية وحركة الاستنارة رغبة مفكرى الاستنارة لايجاد تصورا مغايرا لتصور المؤسسة الدينية عن فكرة وجود الله، فبين فكرة امكانية التوصل لوجود الله عن طريق العقل لا الوحى، والافكار الحلولية التى تجعل الله يحل فى الكون ومخلوقاته، والافكار التى تجعل منه كصانع الساعة الذى تتحول وظيفته بعد صنعها الى مجرد متابعتها دون التدخل فى عملها، ثم الافكار المادية والالحادية الناكرة لوجود الله، أخذت الفلسفة الغربية الحديثة تتقلب، وكأن مفكرى الاستنارة ارادوا ان يقولوا طالما ان الكنيسة هى أكبر عائق امام التنوير وطالما انها تستند فى وجودها الى وجود الله، فمن المؤكد ان المساس بفكرة وجود الله سيمس بوجودها بالتبعية.

ثم تخطو بعد ذلك الحضارة الغربية خطوتها الكبرى بظهور الثورة الصناعية، فقد ادت حاجة الصناعات الجديدة الى الايدى العاملة الى نزوح الفلاحين من الريف الى المدن، وهو ما غير اسلوب حياة الانسان الغربى، فذلك الانسان الذى كان يدخل فى علاقة قنانة او عبودية مع سيده الاقطاعى يتحكم بمقتضاها ذلك الاقطاعى فى الارض ومن عليها ويصبح كذلك مسئولا عنهما، وذلك الانسان الذى يدخل فى علاقات تراحمية مع أقرانه الفلاحين فيشاركهم الافراح والاحزان ويتزاملون فى البؤس والفقر فى مجتمع أساسه الاسرة، أصبح الان يدخل فى علاقة تعاقدية مع صاحب العمل يبيع له بمقتضاها قوة عمله ويقبض الثمن، وعلاقة تنافس مع أقرانه يزيد بمقتضاها قدراته الخاصة ليضمن لنفسه افضل الفرص الممكنة التى تحقق له أكبر دخل ممكن حتى لو كان ذلك على حساب الاخرين، وقد أدى اهتمام كل فرد من أفراد الاسرة برفع قدراته الشخصية علاوة على العمل لساعات طويلة خارج المنزل الى فتورالعلاقات الأسرية وبدأت تظهر احلام الافراد المستقلة بعيدا عن احلام الاسرة المشتركة، وهكذا حلت الحضارة الغربية محل ذلك الانسان القديم الذى كان يذهب للكنيسة أيام الاحاد ليدعو الله ان يبارك له فى محصول العام ويخرجه من بؤسه بانسان جديد يسعى خلف مصلحته واحلامه الخاصة وزيادة قدراته، ويمكن تلخيص الوضع الجديد بأن الحضارة الغربية قد قضت اولا على المؤسسة الدينية التى وقفت فى وجهها، ثم فكرة وجود الله التى تستند لها تلك المؤسسة، ثم على الانسان الذى يعتقد فى تلك المؤسسة والهها، وقد جاءت الثورة الفرنسية كأكبر تعبير عن ذلك بهدمها مؤسسات المجتمع القديمة ونشرها لأفكار الحضارة الجديدة فى اوروبا والعالم بأسره، وربما كان اكتشاف اسحاق نيوتن لقوانين الحركة والتقدم الذى حققه علماء الطبيعة والرياضيات فى كشف الكثير من أسرار الكون، سببا قويا فى احساس الغرب بمقدرته على التحكم فى الكون عن طريق كشف قوانينه وهو ما قلل من قوة الاعتقاد فى وجود اله يتحكم فى العالم، ثم تأتى بعد ذلك نظرية النشوء والارتقاء لداروين نافية لأى تميز للانسان معتبرة اياه تطورا طبيعيا لنظام بيولوجى يبدأ بالكائنات ذات الخلية الاحادية، أى انه لم يعد ذلك الانسان الذى خلقه الله على صورته ونفخ فيه من روحه، بل مجرد تطور بيولوجى للقرد فيصبح بمقتضى ذلك مجرد عنصر من عناصر الطبيعة قابل للأستخدام مثله مثل الحيوان والمواد الخام، ثم يفسر داروين بقاء بعض الكائنات الحية وانقراض أخرى بنظرية البقاء للأقوى والتى تعد سندا قويا لأفكار النفعية والقوة التى سيطرت على الحضارة الغربية، وفى نهاية المطاف يعبر عن ذلك العالم الجديد القائم على الصدفه والضرورة والمنفعة وتتسيده القوة بشكل مجمل الفيلسوف الالمانى نيتشه بأقواله عن موت الاله، وان الانسان الحالى يجب تجاوزه بانسان أرقى يسميه الانسان الاعلى.

ومن الملفت للنظر ان الغرب اعتاد تصدير مشاكله خارج حدوده وتقديم المبررات اللازمة لذلك، فالحروب الصليبية كان هدفها الحقيقى السيطرة على ثروات الشرق لحل ازمات الغرب، وكذلك تحويل طموح النبلاء فى السلطة والنفوذ وعنف البسطاء الناتج من الفقر الى الشرق، بدلا من ان يقتتل النبلاء مع بعضهم البعض ويمارس البسطاء العنف على أرض الغرب، وعادة ما كان يساق الاضطهاد الدينى للمسيحيين فى الشرق مبررا لتلك الحملات، كذلك رغبة الغرب فى ايجاد عمالة رخيصة والسيطرة على المواد الخام اللازمة للتقدم الصناعى والزراعى أدت الى جلب ألوف العبيد من أفريقيا وابادة الهنود الحمر فى أمريكا تحت مبررات مثل انهم أقل ذكاءا من الانسان الغربى او انهم كائنات بلا أنفس، وهكذا دائما ما كانت توجد المبررات للتوسع الاستعمارى لأيجاد اسواق جديدة للمنتجات الغربية والسيطرة على المواد الخام، وتصدير المجرمين العتاه للأمريكتين، وتوطين يهود أوروبا الشرقية فى فلسطين تخلصا من العبء الذى كانوا يمثلونه على أوروبا عامة واليهود المندمجين فى الحضارة الغربية خاصة، ولانستبعد ان تكون افكار صراع الحضارات والحرب على الارهاب واستبدال الخطر الاحمر متمثلا فى الشيوعية بالخطر الاخضر متمثلا فى الاسلام، هى مبررات تساق لحماية تجارة السلاح الرائجة من الكساد بعد انتهاء الحرب الباردة، وايجاد ذرائع للوجود العسكرى الغربى فى الشرق الاوسط لحماية البترول وتسهيل استنزافه.

ومن اللافت للنظر ايضا ان الصراع لعب دورا بارزا فى الحضارة الغربية، فهناك صراع دائم بين الكنيسة والاصلاحيين، وبينها وبين المستنيرين، وبين النبلاء وبعضهم، وبين الدول القومية والمقاطعات المطلوب اخضاعها لها، وحروب بين الدول الاوروبية وبعضها لفرض النفوذ داخل الغرب، وبين تلك الدول وبعضها لفرض السيطرة على المستعمرات، وحروب عالمية أولى وثانية وحرب باردة وحرب على الارهاب، الى آخر ذلك، وعادة ما كانت قوة التدمير تتعدى الاهداف المطلوبة وتتحول للهدم الكامل، وهو ما جعل البعض يسمى الحضارة الغربية حضارة التفكيك، فربما كان لابد من اصلاح المؤسسة الدينية لكن لم يكن من الضرورى هدمها، ربما كان يلزم تصحيح بعض التصورات حول الله لكن لم يكن يلزم نفى فكرة وجوده، ربما كان من اللازم تنظيم بعض العلاقات داخل المجتمع لكن لم يكن من الضرورى احلالها كليا، ربما كان من الضرورى السيطرة على الامريكتين لكن ذلك ليس مبررا لمحو الهنود الحمر من الوجود، ربما كان لابد ان تنتصر أمريكا على اليابان لكن ليس عن طريق اخفاء هيروشيما وناكازاكى من على الخريطة، والغريب أيضا فى تلك الحضارة ان جزءا كبيرا من حفاظها على تقدمها وتطورها أعتمد على ما أمدتها به البحوث والدراسات العلمية الحديثة، والتى كان جزءا لا بأس به منها ضمن مشاريع بحثية عسكرية فى الاساس ثم أستخدمت للأغراض المدنية فيما بعد، كما هو الحال فى مجالات الطاقة النووية والطيران والاتصالات، أى ان حالة الصراع كانت دافعا قويا للتقدم وليس العكس.

والان أصبح علينا ان نميط اللثام عن ذلك الوحش الغربى الكامن الذى حولنا ان نقتفى أثره فى الاسطر السابقة، والذى تجسد بقوة بوجهة القبيح المدمر ابان الحرب العالمية الثانية، فطالما ان فكرة وجود الله والمؤسسة الدينية لم يعد لهما تأثير يذكر فيصبح الانسان هو مصدر القيم والاخلاق وتصبح كل القيم نسبية لأن القيم المطلقة كانت مرتبطة بفكرة وجود الاله المطلق التى لم يعد لها وجود، وطالما ان الانسان أصله قرد فهو لايملك تميزا حقيقيا يسمح له بوضع منظومة الاخلاق سوى ذلك الفارق البيولوجى البسيط بينه وبين القرد، أى انه لا يملك ذلك التميز الكبير الذى نتخيله عنه، فتصبح نفس الاسس التى تحدد القيم فى الغاب هى نفسها التى تحددها فى حياة الانسان، لتكون بمقتضى ذلك القوة والمنفعة هى الاساس القيمى الجديد، وطالما ان حيازة القوة هى الهدف الاسمى الذى يسعى له الجميع فتكون الخطوة الاولى لذلك هى التخلص من عناصر الضعف الداخلية وبطبيعة الحال يكون الانسان نفسه مصدرا هاما للضعف، وهو ما يحتم تصنيف البشر وعلى أساس ذلك التصنيف يتم التعامل معهم، ويتم التصنيف على أساسين الاول عرقى فتماما مثلما ان مملكة القرود بها قرود راقية كالشمبانزى وأخرى أقل رقيا كالنسناس، فكذلك مملكة البشر بها أجناس أكثر رقيا كالجنس الآرى الالمانى وكائنات أقل رقيا كاليهود والسود، اما التقسيم الثانى فيكون طبقا للمنفعة هل هم آكلين مفيدين أم آكلين غير مفيدين، او بمعنى آخر هل هم ينتجوا أكثر مما يستهلكوا أم العكس، ويظهر على ذلك الاساس نوعا جديدا من البشر وهم من يراهم المجتمع غير نافعين له، ولأن الانسان اصبح مجرد شئ، مثله مثل السيارة او الطائرة او المختبر ففكرة المنفعة تطبق عليه ايضا، فيعزل عن المجتمع لأنه مصدر المرض الخطير المسمى الضعف، ويحجز فى معسكرات الاعتقال وتوكل اليه الاعمال الشاقة، او تقام عليه التجارب العلمية اللاانسانية، او فى نهاية المطاف لا تكون له فائدة ترجى فيوضع فى افران الغاز للتخلص منه، ولا يمنع ذلك من ان تدور آلة الحرب من بلد لبلد، ومن قرية لقرية، ومن مدينة لمدينة، لتسحق ملايين البشر، وتشوه جلودهم بالمواد الحارقة، وتبيد مدنهم بالقنابل الذرية، مستخدمة فى ذلك أحدث ما توصل اليه العلم، دون مبررا حقيقيا سوى حيازة القوة او تكسير عظام المنافسين وتقليل قوتهم او فرض السيطرة على الضعفاء، ودائما ما تساق المبررات المعهوده بأن كل طرف يحارب من أجل حرية الانسان وتحقيق الفردوس الارضى له حتى لو كان تحقيق ذلك الفردوس سيقتضى عدم وجود انسان اصلا للحياة فيه، وبطبيعة الحال كانت المانيا النازية والحرب العالمية الثانية وأحداثها أكبر المسارح التى لعب عليها ذلك الوحش الغربى الكامن دور البطولة فى أكثر مسرحيات التاريخ رعبا.

وبعد انتهاء الحرب تنبه الغرب لخطورة الموقف وأصبح شبح الانهيار الحضارى الشامل يراوده، فأنشأ المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الامن وظهرت اتفاقيات حقوق الانسان للحد من الصراعات الدولية وتقليل أثارها المدمرة اذا ما حدثت، ثم أبدى تفهما أكبر لمطالب المستعمرات فى الاستقلال سواءا كان ذلك لعدم مقدرته على القيام بأعباء حكم تلك المستعمرات ام خوفا من الصراع المسلح مع سكانها، وقام الغرب كذلك بالقضاء على الكثير من مظاهر التمييز العنصرى التى كانت بداخله، وأصبح اكثر حرصا على ان تكون الصراعات بين الغرب وبعضه ان كانت ضرورية على اراض غير غربية، كما هو الحال فى صراع روسيا والولايات المتحدة حول كوبا، وحرب فيتنام، وحرب أفغانستان، وحاول الغرب اعلاء شأن المنافسة فى المجال الاقتصادى عوضا عن المجال العسكرى المدمر، وعلى الرغم من كل ذلك مازال ذلك الوحش الكامن قائما ويظهر على فترات متباعدة ولو بشكل جزئى، فسياسات الغرب القائمة اساسا على اعتبار القيم الغربية هى المثلى فى العالم وسيطرته المفرطة على المؤسسات الدولية، وتحوله الكامل الى قيم السوق ونشره لها، جعلته عرضه للكراهية من بعض مستعمراته القديمة خاصة فى منطقة الشرق الاوسط، والتى صدر لها مشكلة يهود أوروبا الشرقية وأستخدم نفوذه فى المؤسسات الدولية لتقويض فرص أى حل قد يرضى اصحاب المشكلة لكنه لا يرضيه، وكذلك فان انتشار قيم السوق جعل العالم عامة والغرب خاصة عرضه للتأثر بالازمات الاقتصادية الطاحنه التى ربما تقضى عليه، كما ان تلك السياسات الاقتصادية دعمت الاجراءات التى أدت الى التفاوت الرهيب بين الاغنياء والفقراء وظهور مجتمعات الاغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرا، وأصبح الغرب بسبب سياساته عرضه للأرهاب الدولى، والمخاوف من وصول السلاح النووى لأيد متهورة تستخدمه فى تدمير العالم، علاوة على ذلك فقد ادى انتشار القيم الاستهلاكية الى ظهور الانسان الذى يعمل كالآله ليحقق لنفسه أكبر قدر ممكن من الملذات الحسية وهو ما أفقده كثير مما تبقى له من قيم، و زاد من حرصه على تحقيق المنفعة، وهو ما كان سببا فى احساس الانسان بالاغتراب، وانتشار الانحرافات السلوكية، و ربما الرغبة فى الانتحار، وبطبيعة الحال يمثل ذلك وجها آخرا لذلك الوحش الكامن.

وهنا يظهر سؤال هام فاذا كانت الحضارة الاسلامية قد ذهبت ولم نعد قادرين على استعادتها والحضارة الغربية بها وحوش كامنه يمكنها ان تنقض علينا فى أى وقت فتدمرنا، اذا ما هى خياراتنا من أجل ان يكون لنا اسهام حضارى بارز يتفادى الأخطاء التى وقعت فيها الحضارة الاسلامية ويحول وحش الحضارة الغربية الى كائن مستأنس يساهم فى نشر العدل والسلام، وهل حقا نحن بحاجة لذلك الاسهام ام نكتفى بما تقدمه لنا الحضارة الغربية الان من تقدم ثم نحدد موقفنا طبقا لما ستكون عليه الظروف اذا ما تخلى عنا الغرب او ظهرت حضارة أخرى أحدث؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى