السبت ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم بهمن هاديلو

الحزن والألم في شعر إبراهيم ناجي

بهمن هادیلو، طالب مرحلة الدکتوراه بجامعة إعداد المعلمین بطهران
علي حسین غلامي، ماجیستر من جامعةإعداد المعلمین بطهران

المخلص:

إبراهیم ناجي یعدّ من أعلام شعراء العصر الحدیث ومن الشعراء المصریین المجددین .جری مجری رومانسییاً و یرکن شعره إلی الشکوی والأنین ویمتاز بالجدة. یکون الشکوی والألم مع الإنسان ونری التعبیر عنه عند الشعراء وناجي من هولاء الشعراء الذين تترائ له أشباح الآلام و شعره حافل بتصأویرها کما من خلال دراسة أشعاره نصل إلی أنغام مختلفة في شعره وهذه النغمات تبین موقفه الأدبي وتأملاته وأحزانه مع تعابیره الخاصة .

یجد الشاعر في هذه الأغاني ما یغذي رومانسیته البکاءة وما یزید شکواه إلتهاباً حیث ینقل تجربته إلی الأذهان نقلاً حیاً موحیا.ً

نری في فن ناجي الغنائی التجربته التعبیریة والموسیقیة المنفعلة کما نلمح شخصیته القویة وذاتیته المعبّرة في وضوح وجلاء.

الکلمات الدلیلیة: الحزن والألم، إبراهیم ناجي، الرومانسية ، الحب .

المقدمة:

منذ وجد الإنسان هو یعانی أزمة الحیاة ویدرک ما فيها من خیر وشّر وسرور وحزن . شعور الإنسان بالألم و الحزن ظلّ رفيقه في الحیاة وهذه الآلام تکون لفقد عزیز أو أمنیّةأو نعمة أو تکون لحرمانٍ مما یحب ویرید في الحیاة. نحن نجد بیان هذه الإختلاجات في شعر الشعراء من العصر الجاهلي حتی شعراء العصر الحدیث و نراه خاصة في أشعار المذهب الرومانسي کالشعور الحاد بالألم عند أبي القاسم الشابي وإبراهیم ناجي و ... .

کان ناجي شاعر الدمعة المنسکبة علی مآسي الحیاة و من بواعث اختیارهذا الموضوع هی ان نعرف شعره الرومانتیکی وأغانیه الشجینة و أسباب هذه الأغاني مع میزاتها وتعبیرعنها.

إذا نظرت إلی الموضوعات التي نقشت حول شاعرنا رأیت أبحاثاً حوله و شاعریته نحو«إبراهیم ناجي شاعراً» ولکن ما وجدتُ موضوعاً یتنأول الألم في شعره بشکل موضوعٍ مستقل وأما المقال هذا فيتنأول الألم والحزن في شعره من عدّة جوانب و یبحث خاصة في خمس قصائد [1] .

أما هذا المقال بعد ذکرحیاة الشاعر فيبحث عن شعره ثم یشیر إشارة موجزة إلی الحزن في الشعر العربي ثم یتنأول الحزن في شعر ناجي ویذکر جوانبه المختلفة مع الأشعار التي حوله.

یهدف المقال هذا دراسة شعره وأیضاّ ماهي العوامل التي أثرت في إتجاهه الشعري وآلامه؟ وفي أيّ ّجوانب تکون آلامه ؟ وکیف یعبّر عنها ؟

حیاته:

إبراهیم ناجي شاعر مصری واسمه الکامل إبراهیم احمد ناجي القصبجی ولد بالقاهرة في 31دیسمبر1898 م بحی شبرا. التحق بالمدرسة الإبتداعیة والمدرسة الثانویة والتوفيقیة بشبرا ثم التحق بکلیة الطب في جامعة القاهرة وتخرّج منها عام 1923وعین طبیباً .عنی بالأدب العربي والأوربي وألمّ بالإنجلیزیة والفرنسیّة وعنی الشاعر بالمدارس الشعرية المعاصرة وانتسب إلی جمعیّة أبولو سنة1932م لرغبة ملحة في نفسه في التحرر من قیود التقلید وصار وکیلاً لها . [2].

ناجي في أوائل سنة 1953م أحیل إلی المعاش وبعدها بأشهر مات مارس 1953م. خلّف آثاراً منها دیوانه وراء الغمام ، دیوان لیالي القاهرة ، دیوان طائر الجریح، مدینة الأحلام :مختارت من محاضرات وقصص. [3].

شعر ناجي:

یقول ناجي عن شعره « هو النافذة التي أطل منها علی الحیاة وأشرف منها علی الأبد ومأوراء الأبد .هوالهواء الذي أتنفسه والبلسم الذي دأویتُ بها جراح نفسي عندما عزّ الإساءة.هذا هو شعري.» [4].

ان علاقة ناجي بالتراث الشعري العربي علاقة قویة وهذه العلاقة بالتراث القدیم والحدیث وفّرلجملته الشعرية سلامة في البناء اللغوي و قدرة علی الدلالة الفنیة کما نری هذه العلاقة في تاثّره بامرئ القیس ومعلّقته [5] وقرأ دیوان الشریف الرضي ولعل أهم من یعترف ناجي بتاثره من القدما هوأبو الطیب المتنبي و بالنسبة للمحدثین بالبارودي و قرأ أحمد شوقي و أیضاّ خلیل مطران الذي یعترف بأستاذیته أما فيما یتصل بالثقافة العالمیة نستطیع علی أن نؤکدعلی سعة إطلاعه علی الأدب الإنجلیزي والفرنسي. [6]

کلّ هذه الثقافات أثرت في تکوین شعره وإتجاهه إلی الشعر الرومانسي وإلتفاته إلی الشعر الوجداني کما یقول الدکتور شوقي ضیف في کتابه « الأدب العربي المعاصر في مصر» عن شعر ناجي « کان أهم ما یعجبه عنده شعره الوجداني و أقبل علی أصحاب المنزع الرومانسي یقرأ في شعرهم وآثارهم وتحمس لهم کما تحمس لأستاذه خلیل مطران إذ أعجب إعجاباً شدیداً بمنهجهم الذاتي الذي یقوم علی تصویر خلجات نفسه إزاء الحب والطبیعة دون العنایة بحیاة المدینة » [7]

من خصائص المنزع الرومانسي عنده هی‌‌:1]] الإنفعال بالطبیعة وکل مظاهر الجمال فيها 2]]ألتطلع إلی المثل الأعلی والحیاة الفضلی 3]] الشعور بالغربة في مجتمع تستبدّ به الشرور بالناس جمیعاً 4]] تحلیل العواطف الإنسانیة في نفسه وفي نفوس الآخرین ومواقفهم. [8].

ناجي کتب عن أعمق التجارب الشعرية مع إتجاهه بالبساطة حیث لا یعرف الزیف في شعره ویسعی أن یستمد من إحساسه من الجمال والحیاة ونری تعابیره الخاصة .

جدد ناجي في شکل القصیدة ومضمونها کما نری تجدیده في الموسیقی ، في الخیال ، في اللفظ وفي الافکار و الأسالیب [9].

شعر ناجي فيه الأصالة وعمق التجربة ودعوة واضحة للحریة وللوحدة العضویة في القصیدة وتبدأ القصیدة بإنفعال نفسي یستمر هذا الإنفعال مع عاطفته حتی نهایة مضمون القصیدة ویجذب القارئ مع عذوبته [10].

الحزن في الشعر العربي:

یختلف الشعراء في إحساسهم بالکون أو بأنفسهم وما حولها إختلافاً مبعثه العمق والحدّة في الإدراک والنفوذ إلی بواطنهم وبواطن ما یصوّرونه ونری الشعراء تارة یفيض شعرهم باللذة والفرح وتارة یفيض بالحزن والألم العمیق.

نری في الأدب العربي شعراء ممن نشدوا أشعاراً لبیان ما في حیاتهم من الألم والشعور بالحرمان طوال عصور مختلفة کما نلاحظ إمرأالقیس في المجتمع الجاهلي یقول عن همومه:

ولیلٍ کموج البحر أرخی سُدوله علیّ بانواع الهمومِ لیبتلي
فقلتُ له لمّا تمطّی بصلبه وأردف أعجازاَ و ناء بکلکل
ألاأیّها اللیل الطویل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منک بامثل

 [11].

کما نری في العصر الأموي دموع المحبیین العذریین من أمثال مجنون لیلی:

لم تزل مُقلتي تفيض بدمع یشبه الغیثُ بعد أن فقدتها
مقلة دمعها حثیثٌ وأخری کلمّا جفّ دمعها أسعدتها
ما جرت هذه علی الخدّ حتی لحَقَت تلک بالتي سبقتها

 [12].

وفي العهد العباسي یری المتنبی أنّ البؤس والشقاء شائعان في الحیاة :

صحب الناسَ قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولّوا بغصة کّلهم منه وإن سرّ بعضهم احیاناً
ربّماتحسن الصنیع لیالي ه ولکن تکدّر الإحسانا

 [13].

وفي العصر الحدیث نقرأ شعر حافظ إبراهیم في البؤس والشقاء وأحزان بدر شاکر السیاب کما نجد اباالقاسم الشابي فأخذ یشدو أغاني مشجیة ویحیطه الکآبة من کلّ صوبٍ:

ماذا جنیت من الحیاة ومن تجارب الدهور

غیرالندامة و الأسی والیأس والدمع الغزیر

 [14].

-الحزن في الشعر ناجي:

إذا ننظر إلی أشعار ناجي نجد تصأویرالحزن والیأس فيها وکلّها إشاعة الروح الرومانتیکیة الحدیثة وتتمثل فيها شخصیةالشاعر ملیئة بالشکوی والانات ودیوانه وراء الغمام خیر شاهدٍ علی هذه السمة في شعره کما یقول الدکتور شوقي ضیف « فقد کان یدمن قرأءة الآثار الغربیة فتتعلّق بهذا الإتجاه وظلّ ینمیه ومن أجل ذلک تتّضح شخصیته في شعره تمام الوضوح بجمیع ملامحها العاطفية وقسماتها الوجدانیة وهی شخصیة شاعر مجروح یئن دائماً ویشکو افلات سعادته منه بصورة محزونة [15].

حینما ندرس شعره نری هذا الحزن فيما یلي:

  1. في حبه الحزین والمحروم کما فيه أغنیة حزینة لحبیب رحل و جمال ِ زال.
  2. إحساسه المأسوي إلی الحیاة ورویته للکون کما یری عجز الإنسان من التصدی للواقع ویجد صورة الإنسان أدبها فردیة سلبیة حزینة .
  3. تارة أخری نری في حبه لوطنه [16]وحسرته علی ما أصیبت بها
  4. أیضاّ في قصائده التي یرثي ویبکي فيها علی فقیدٍ من الأعزّاء ویکون برهاناً علی إحساسه الفياض بالموّدة والألم .

الحزن في الحب وفراق الحبیب:

نری في شعر الرومانسيین بیان العواطف والمشاعر في الحب والصدق فيها إلی نوعٍ من إشادة المرأة والخضوع لسلطانها ولم یکن خضوعهم من ضعف بل کان ورائها حب عمیق وصدق العاطفة ومن روادف هذا الحب ومن مستلزماته الاحساس بالألم والغربة والحنین .

کانت حیاة ناجي قصیدة حب حالمة وأحادیث عاطفة مرهفة وفيها أنغام الهجر والوصال والرضاء.والألم ویعبر عن کلّها بصدق حرارة ولایجد سوی الدموع للتقرب بحبیبته ولایجد بلسماً لجراح شغافه إلا الوصال ولذلک یعدّ بحق « شاعر الحب » [17].

شاعرنا یصورحبه ومرارة الفرقة في قصائده المبثوثة في دیوانه وهذه النزعة عنده متنوعة نراه یبکي الأطلال ویقف علی معاهده ذکریات وملاعب صباه ویذرف دموعاً ویستمد من خلق صورخاصة لبیان ما في نفسه من الألم حتی یوحی للقارئ.

کما يقول في قصیدته الأطلال:

یافؤادي رحم الله الهوی کان صرحاً من خیالٍ فهوی
اسقني و اشرب علی أطلاله واروعني طالما الدمع روی
کیف ذاک الحب أمسی خبراً وحدیثاً من أحادیث الجوی

 [18].

هنا یبدأ الشاعر قصیدته بمخاطبة فؤاده بدیلاً عن کلمة القلب ویستخدمها علی أساس التشخیص و يخاطبه.

أطلال في القاموس هي التراث والبقایا المادیه لدیار المحبوبة لکنّها عند ناجي قدصارت لها دلالات معنویة جدیدة فهناک أطلال الحب ، أطلال الروح ، أطلال الذکری و... .

ونراه حیناً آخر یخاطب الریاح وهذه الریاح هي الثورة النفسية الناشئة من الحب ولکن مضی وصار کلّه خیالاً وقضی عمره في سبیل الحبیبة التي لا عهد لها:

یا ریاحاً لیس یهدا عصفها نضب الزیت ومصباحي انطفا
وأنا اقتات من وهم غفا وافي العمر لناسِ مأوفي
وإذا القلب علی غفرانه کلّما غار به النصل عفا [19].

والمقصود من الریاح أنها الثورة الفنیة ومراده من الزیت هو اللقاء والوصال والمصباح هو الحب وإشتعاله .
هذا الغرام کان مقدراً له کالموت وکلّه حزن ومأتمٌ والعمر قضی کلّه فيه:

یاغراماً کان مني في دمي

فدراً کالموت أو في طعمهِ

ما قضینا ساعة في عرسه

وقضینا العمر في مأ تمه ِ

لیت شعري أین منه مهربي

أین یمضي هارب من دمهِ [20].

ذهب العمر سدی ولم یکن وعدها إلاّ وهماً وهو یضحک ألماً وکمداً وقلبه مذبوح وهذا الألم یطحنه طحن الرحی:

ذهب العمر هباء فاذهبي لم یکن وعدک الاّ شبحاً
أنظری ضحکي ورقصي فرحاً وأنا أحمل قلباً ذبحاً
ویراني الناس روحا طائراً والجوی یطحنني طحن الرحی

 [21].

لعدم الوصال یتنغنی بالألم والشجن حتی تکوی عظامه هذه الآلام والذکریات الحزینة وکل ثانیة في فراقها جمرة حارقة في وجوده :

یا حبیباً زرت یوماً أیکه طائر الشوق اغنی المی
ذلک ابطاء الدلال المنعم وتجنی القادر المحتکم
وحنین لک یکوی أعظمي والثواني جمرات في دمي

 [22].

وأیضاّ:

قدم تخطو وقلبي مشبه موجة تخطو إلی شاطئها
أیها الظالم بالله إلی کم أسفح الدمع علی موطئها
رحمةٌ أنت فهل من رحمة لغریب الروح أو ظامئها
یا شفاء الروح تشتکي ظلم آسیها إلی بارئها

 [23].

ویعبر عن أشجانه في اللیل ویغني بها حتی الفجر ویرید بعد الهجران أن یصل إلی الوصال :

هذا اللیل ولاقلب إله أیها الساهر یدر ي حیرتک
أیها الشعر خذ قیثارتک وغزا السحب وبالنجم فتک
غنّه حتی تری ستر الدجی طلع الفجر علیه فانهتک
 [24].

عمره ضاع في سبیل أکاذیب المنی وهو أسیر الحب الذي ثمرته الحرمان:

حان حرماني وناداني نذیر ماالذي أعددت لي قبل المسیر
زمني ضاع وما أنصفتني زادي الأول کالزاد الأخیر
عمري من أکاذیب المنی وطعامي من عفاف وضمیر
وعلی کفّک قلب و دم وعلی بابک قید وأسیر

 [25].

والفراق لدیه عذاب ونار ملتاع ویحس حین الفراق کل أبواب مغلق أمامه ولیس سبیل إلی السعادة:

أزف البین وقد حان الذهاب

هذه اللحظة قدّت من عذاب

أزف البین وهل کان النوی

یا حبیبي غیر أن أغلق باب

 [26].

و نری صورة فراشة من الدموع وحامت فوق عرش من الورد [27]وهی مائلة سائلة وتکوّنت من النور والندی وتهفو إلی منهل عذب [28]وهذه الفراشة السائلة [29]بها [30]مثل ما بالشاعر من الحزن القاتل والکآبة الشدیدة والظمأ المهلک: [31].

ما راع قلبي منک إلا فراشة من الدمع حامت فوق عرش من الورد
مجنحة صیغت من النور الندی ترفّ علی روض وتهفو إلی ورد
بها مثل مابی یا حبیبی وسیّدی من الشجی القتال والظما المردی

 [32].
هذا النسق بعناصره المرکبة ودلالاته المتجددة صورة خاصة ومستمدة من رویته المنفردة وتعدّ ابدعاً بصاحبها.

الحزن في الاحساس المأسوي بالحيا‌‌ة:

أزمة الفرد التي يصوّرها ناجي من خلال شعره تتجأوز محنة الفرد إلی قضية الإنسان معذّباً في روحه ولسيت صحيحاً انّ الازمه ازمة عاطفية فحسب وانّما هي ازمة ماديّة حقيقية انعكست في تلك الصورة العاطفية ويري الحياة مقفرة والعمرسراباً ولايجد في الكون «ثقباً من رجإ » فكل سعادة فيها تنتهی إلی الألم وكل نعيم فيها إلی الشقاء والحرمان وانّ المخترعات الحديثة تفنی الإنسان ولاتسعده ولاسبیل فيها إلی اماله وفي الحياة مذلة من اجل حصول علي ما يساعد مواصلة الحياة ويستر الشقاءالعاطفي عذابات مادية اخري في الحياة. يواكب هذا الاحساس المأسوي بالحياة كثرة تردد مفهوم الغربة ولوازمها المعنوية من الوحد‌‌‌‌ة والیأس بما يوحي بانّ « هذه الدنيا هجير كلّها» وحين احسّ مرارة الواقع وخشونة الحياة وعدم القدرة علي التصدي لقسوتها جسّد ضيقه في الحياه ويأسه منها في روية رومانسية لها اطار فكري خاص [33].

وقد نری في شعره المفارقة الشديدة والتناقض المعنوي حيث يحسّ الجمال مع الزوال والحياة معا و الموت مع النقمة في آنٍ واحدٍ ولكن إحساسه بالجانب السلبي من هذا الجدال أكثر حدّة كما يقول في قصيدة «الحياة» [34].

انظرإلی شتي معاني الجمال
منبثّة في الأرض أوفي السماء
 
ألاتري في كل هذا الجلال
غير نذيرٍ طالع بالفناء

 [35].

وهذه الظاهرة تؤكد إحساسه المتواتر بالفناء ومشاعره المطّردة التشا‌ؤم .
شاعرنا حين إرتطم بصوبات الحياة عاد محطماً يائساً يضغط عليه خيبة الأمل والملل كما يقول في قصيد ة الأطلال :

ألمح الدنيا بعيني سئم وأری حولي اشباحَ الملل
راقصات فوق أشلاء الهوي معولات فوق أجداث الأمل

 [36]

ويري الكون قبراً ضيقاً فيه ظل الیأس والخيبة وليست الدنيا وما فيها الاّأكاذيب وأخيلة دون حقيقة وتبدو واهياً كخيوط العنكبوت « إنّ أوهن البيوت كبيت العنكبوت » [37].

قد رأيتُ الكون قبراً ضيقاً خيّم الیأس عليه والسكوت

ورأت عيني أكاذيب الهوي واهيات كخيوط العنكبوت

 [38].

وحينما يغني أناشيد المنی ردت إلیه نواح ولا يجد سبيل إلی وصال آماله فهذا العيش شجو عنده :

يا نداء كلما أرسلته رُدّ مقهوراً وبالخظ ارتطم
وهتافاً من أغاريد المني عادَ لي وهو نواح وندم
ربّ تمثال خيالِ وسنا لاحَ لي والعيش ُشجو وظلم

 [39].

وأيضاً :

عييتُ بالدنيا أسرارها وما احتیالی في صموت الرمال
أنشد في رائح أنوارها رشداً فما أغنم الاّ الضلال
 [40].

يعتقد أن المخترعات الحديثة لاتسعد الإنسان قدر ما تقضي علي وجوده وآماله وهذه المخترعات وسيلة لقتال الإنسان لا أداة سعادته كما يقول في قصيدة الحياة:
أنظر إلی سيارة كالاجل تخطف خطفاً لاتبالی الزحام
هذا الردی الجاري اختراع الرجل هل بعدصنع الموت شيء يرام
 [41].

الرجل هنا هو الإنسان والسيارة القاتلة هي المخترعات الحديثة التي تقتل البشر .
ويعاني من أزمة الحياة بما فيها من تنازعات وكفاح حتی يتالّم قلبه وتجري دموعه حين يري بؤس الفقراء في الحصول علي الرغيف:

وارحمتاه للفوي الصبور يقضي الليالي في كفاح سخيف
وكيف لاأبكي لكدحِ الفقير أقصی مناه أن ينال َالرغيف
 [42].

وتارة يعكس شعره إحساساً عالي الدرجة بالمذلة في الحصول علی ما يساعد الإنسان لمواصلة الحياة وفي سبيل الزاد والمأ كل:

كم صحتُ إذا أبصرت هذا الجهاد ومبتسم الذلة فوق الجباه
يا حسرتا ممّا يلاقي العباد أ كلّ هذا في سبيلِ الحياة
 [43].

وأیضاّ یقول:

وفي سبیل الزاد والمأکل نملأ صدرالأرض اعوالأ
کم یسخر النجم بنا من علٍ وکم یرانا الله اطفالاً
 [44].

الدنیا جسر یعبّرفيها الإنسان إلی دار النعیم والسعادة ولکن هذا الجسر عند ناجي جسر من لهیب ولیس عنده نصیب في هذه الدنیا :

حان حرماني فدعني یا حبیبي هذه الدنیا لیست من نصیبي
آه من دار النعیم کلّما جئتها اجتاز جسراً من لهیبي

ویری ما في الحیاة من التعساء والحرمان بسبب المقادیر وإرادتها ولیست بإرادة الإنسان کما یقول :

یا حبیبی کلٌّ شیء بقضا ء ما بایدینا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا ذات یومٍ بعد ما عزّ اللقاء
فإذا أنکر خلّ خله وتلاقینا لقاء الغرباء
ومضی کلّ إلی غايته لاتفل شیئاً أو قل لي الحظ شاء
 [45].

الحزن في سبیل الوطن :

بعد الحرب العالمیة الثانیة ألقت الحرب بظلالها القاتمة علی مصر إذا تاثّر ناجي بالظلام الذي غمر لیالي القاهرة وأوحت هذه اللیالي لناجي بمعانٍ وجدانیة أخری ودخل في حیاته حب جدید وینتقل إلی مستوی آخر في الرمز والدلالة وإلی الغزل العجيب لیس سوی معادل موضوعی لحبّ آخر انّه غزل في حب مصر وحسرة علی ما أصیب به وحسرة ألیمة علی سبیلها وعدم القدرة علی تحقیق آمالها وقهر أعدائها .كانت شعوره بالوطنية في ضميره ومخيلته كما نری قصائده في الظلام، أنوار، مصرو...رغم يظن بعضٌ بأنّ بلاده لا يستاثر بنصيبٍ كبيرٍ لديه.

حب الوطن عندالرومانسيين اديبا أو شاعرا ًيأخذ سمة التوهج العاطفي فرحاً أو حزناَ ،غناءً أو بكاءً ، فالرومانسي حين يعبر عن الوطن وعن مشاعره حول حب الوطن ، هذا التعبير يأخذ شكل الفرحة الصادقة أو النداء الحماسي أو البكاء الحزين ، نجده يتأرجح بين حالتي الرضا و الحزن كما ناجي يحس فقد الأمل حول الوطن ورغم حبه الشديد لمصرونداءاته المتكررة لابنائها يستسلم إلی حالة من الیأس والحزن وفي هذه السمة نراه يستعين «بالمعادل الموضوعي» أداةً للتعير غير المباشر عن يأسه وهو مستوي اقرب إلی الرمز بمعناه الاصطلاحي.

 [46].
مهما يكن الأمر ناجي يحسّ في داخله شعر الفيّاض من الوطنية وكان في الوطنية مثالاً للشاعر الغيور علي تراثه والداعي إلی التجديد والابتكار .
کما یشدو أغنیة حزینة علی مصر یشاهد فيها ظلاماً دائماً ولفّها رکود وحیرة وابهامٌ :

..
كانّ علی مصر ظلاماً معلّقا باخر من خابي المقادير مربدّ ا
ركود وإبهام وصمت ووحشة وقد لفّها الغيب المحجب في برد
 [47].

ومصرليس فيها سامر ولا شاعرٌ [48] وطال الفراق بينها وفقدانها [49] كفقدان الربيع وعودة إلی السقم والإعياء :

أيأ مصر فيك العشّيةسامر ولا فيك من مضغٍ لشاعرك الفرد
أهاجرتي طال النوي فارحمي الذي تركت بديد الشمل منتثر العقد
فقدتك فقدان الربيع وطيبه عدت إلی الإعياء والسقم والوجد
وليس الذي ضيّعت فيك بهيّن لا أنت في الغياب هينة الفقد
 [50].

و يخاطبها في مقام حبيبته :

بعيينك أستهدي فكيف تركتني بهذا الظلام المطبق الجهم استهدي؟
بحبك أستشفي فكيف تركتني و لم يبق غير العظم و الروح و الجلد؟
 
وايضاَ:
وكنت إذا انهارالبناء رفعته فلم تكن الأيام تقوي علي هدّي
كنت إذا ناديت لبيت صرختي فوا أسفا كم بيننا إلیوم من سدّ
 [51].

تحيّةٌ علی دار الحبيبة وعلی الخواطر وعلي الأمسيات وفيها تذكرةٌ لكل الذين ساروا إلی الخلد علي الدم والاشواك ومضوا بعد ان نقشوا الاسماء الخالدة في الحجر الصلب وكل هذه الدموع في سبيل المجد:

ويا دار من أهوي عليك تحّية علی أكرم الذكري علی أشرف العهد
علی الأمسيات الساحرات ومجلس كريم الهوی عفّ المآ رب والقصد
تنادمنا فيه تباريح معشر ٍ علی الدم والأشواك ساروا إلی الخلد
دموع يذوب الصخر منهاان مضوا فقد نقشوا الأسماء في الحجر الصلد
وماذا عليهم إن بكوا أو تعذّبوا فإنّ دموع البؤس من ثمن المجد
 [52].

الحزن لفقدان الأعزاء:

القصائد التي نظمها ناجي في مناسبات تتضمن الرثاء ، المدح ، الهجاء والرثاء يحدث أحياناً علي حساسيته وعمق عاطفته ان تعصي دموعه في الرثاء .

ليس لشاعرنا باعٌ طويل في الرثاء وطرقَ هذا الباب علی ندرة ولكن نجد في بعضها لوعة صادقة وانيناً موثراً .من قصائده في الرثاء نری رثاء شوقي في أربع قصائد .الأولي ألقاها علی قبره والثانية في تلبينه والثالثة والرابعة في حفلٍ الذكري لمرور عام علی وفاته ونشاهد في قصيدة « في ساعة التذكار » ألقاها في حفل جماعة الأدب المصري في الاسكندريه وقصيدته ألقاها علی قبره حرقة ولوعة حيث يبكي بلهفة الحزين [53].

وفي رثائه لخليل مطران نجده شاعراً ملتاعاً حزيناً ولكنّه قصير النفس ولم يكتمل نموها لتصيرقصيدة كاملة لأنّ رثائه لم يزد علی ثلاثة ورغم قلّتها تعد في العالم الرثاء اكبر برهاً علی الحساس الفيّاض بالمودة والألم. [54].

أيضاً نری في ديوانه القاهرة رثائه للشاعر محمد الهراوي
في رثائه لشوقي وقصيدته التي ألقاها علي قبره يبكي عليه ويتاسّف لمصر والشرق الأوسط لفقدان من هوقمة الشعراء والأدباء :

قل للذین بکوا علی شوقي النادبین مصارع الشهب

والهفتاة لمصر والشرق ولدولة الأشعار والأدب

 [55].

في ذهابه ذهبت الدنیا إلی اللحد وهو صحیفة المجد إلی الخلد ولایفنی:

دنیا الیوم في لحدٍ وصحیفة طویت من المجد

ومسافر ماضٍ إلی الخلد سبقته آلاءٌ بلا عد

 [56].

وربما دفين وفقید جعل ما حوله یقطر أسی ولوعة حتی هذه الصحراء جرت لها الأحزان:
َ
یا نازل الصحراء موحشة وریّانة بالصمت والعدم

سالت بها العبرات مجهشة وجرت بها الأحزان من قدم

 [57].

یعلو في رثائه ویشتد في وصف بلائه ویجعل یوم وفاة شوقي أول أیام الحزن :

کانّ یومک في فجیعته هوأول ایام في الشجن

کانما الباکی بدمعته مإذا قلبک لوعة الحزن

 [58].

وأیضا یقول:

فاذهب کما ذهب النهار ومضی قد شیعته مدامع الشفق

وأغرب کما الشعاع قضی ورفت علیه جوانح الغسق

 [59].

ومرة یشبهه أمة ذهبت أو بنور العین فانطفا:.

أما کنت إلا أمة ذهبت والعبقریة أمة الأمم

أو شعلة أبصارنا خلبت وضاء نصبت علی علم

 [60].

ولم یترک ناجي مکانه في هذه المرثیه ویؤکد بأنّه سوف یفيه حقه من الرثا فيما بعد کما نری في قصیدته ‹‹ساعة التذكار››
لکنّ حزني لوعلمت به لم یبق لی صبراً ولا جهداً
فاعذر إلی یوم نفيک به حقّ النبوغ ونذکر المجد
 [61].

النتیجه:

تبین لنا أنّ ناجي في دراساته جمع بین نتاج الرومانسيین العظام في الأدبين الإنجلیزي والفرنسي والبدایات الرومانسية العربية کما بلغتها محاولات خلیل مطران وجماعة أبولو في مصر وهذه الإتجاهات أتّرت في شعره حیث اتجه إلی النزعة الوجدانیة ویزخر شعره بالوجد کما یفيض بالذوبات الإنساني .

کما یقول ناجي الشعر عنده هو النافذة التي یطل منها علی الحیاة والبلسم الذي یداوی به جراح نفسه .یعدّ أسلوبه من أرقی الأسالیب في المدرسة الکلاسکیة المجددة تحت رایة الإبتداعیة فهو یحب الإحتفاظ بأصول اللغة وأسالیبها في حریة مجدداً في التجوز بالألفاظ عن معانیها الحقیقیة .

الألفاظ خیر تعبیر عن الحالمة المفعمة بالألم والحیرة ونراه غارقاً في اجواء تامّله ونری المرأة في شعره هی الإنسانیة الکریمة التي یحرص علی انسانیّتها وهو صادق في تعبیره عنها وتغمر قصائده رقة عاطفية وشعور حب دافقٍ و حزين .في جانب آخریمدّ نظره إلی العالم ویتیه في الدنیا ولایعلم عنها إلا الظلال ونجد بعض التناقضات في رایه حول الکون یبدو الجاب السلبی اکثر حدّةً ولا یری في الحیاة الا ما یزیده الشکوی ونری مشاعره حیناً آخر حول وطنیته وهو في حبه إلی الوطن شاعر غیور ویستعین بالمعادل الموضوعي أداة لتعبیر غیر المباشر عن ألمه مع عناصره ودلالاته المتجددة . وقد نری أیضاّ حزنه في رثائه ولولم یکن شاعر رثاءٍ ولکن نجد احیاناً إحساسه الفياض بالمودة والألم کما نقرأ حول أحمد شوقي.

فهرس المصادر والمراجع:

  1. القرآن الکریم .
  2. إمروالقیس،[[ابووهب،جندح) :الدیوان، عبدالرحمن المصطاوی،دار المعرفة، بیروت،الطبعة الرابعة ،1429ه ق/2008م 0
  3. خفاجی محمد عبدالمنعم : دراسات في الأدب الغربي الحدیث ومدارسه، دار الجیل ، بیروت، ط1، 1992م.
  4. خفاجي محمدعبدالمنعم قصةالأدب المعاصرفي مصرالحدیثة،المطبعة المنیریة، لاط،1956م0
  5. خورشا صادق: مجانی الشعر العربي ومدارسه، سمت ، طهران، ط3، 1386.
  6. رضوان محمد :إبراهیم ناجي شاعر الطلال وأحلی قصائده العاطفية، دار الکتاب العربي ، دمشق ، القاهرة، ط1، 2004م.
  7. الشابی ابوالقاسم : دیوان أغانی الحیاة، دار صادر، بیروت، ط1، 1996م.
  8. ضیف شوقي : الأدب العربي المعاصر في مصر ،دار المعارف، القاهرة ، ط10، 1992م.
  9. عویضة الشیخ کامل محمد محمد: إبراهیم ناجي شاعر الطلال، دار الکتب العلمیة، بیروت، ط1، 1993م.
    #- الفاخوری حنا : الجامع في التاریخ الأدب العربي ،منشورات ذوی القربی، قم، ط2، 1424ه.ق/1382ه.ش .
  10. فلسطین ودیع: ناجي حیاته واجمل اشعاره. دارومطابع المستقبل بالفجالةوالاسکندریةوموسسة المعارف، بیروت، لاط ،لاتا.
  11. المتنبی [[ابوالطیب ، احمد بن الحسین الجعفي): الدیوان، ابوالبقاء العکبری، دار المعرفة، بیروت،لاط، لاتا.
  12. مجنون لیلی،[[ قیس بن الملّوح): الدیوان،الدکتور یوسف فرحات، دار الکتب العربي ، بیروت، لاط، 2005م.
  13. ناجي إبراهیم: الدیوان ، دارالعودة، بیروت،لاط، 2008م .
  14. وادی ، طه:جمإلیات القصیدة المعاصرة، دارالمعارف، القاهرة، ط3، 1994م.
  15. وادي طه: شعر ناجي الموقف والاداة، دار المعارف، القاهرة، ط4، 1994م.

[1قصیدة الاطلال، الوداع، الحیاة، في الظلام، رثاءشوقي

[2خورشا،1386ش:ص143

[3الفاخوري،1424ق:661/2

[4خفاجي،1956م:ص58 و ودیع فلسطین ، لاتا: ص96

[5قصیدة دعابات نموذجاً

[6وادي،1994م:ص225

[7وادي،شعرناجي الموقف والأداة،1994م:ص156

[8رضوان،2004م:ص111

[9عویضة،1413ق:ص145

[10خفاجي،1412ق:ص108

[11امرؤالقیس،2008م:ص489

[12مجنون لیلی،1425ق:ص50

[13المتنبي،لاتا:ص239

[14الشابي،1996م:ص202

[15عویضة،1993م:ص178

[16مصر

[17رضوان،2004م:ص13

[18ناجي،2008م:ص132

[19نفسه:ص132

[20نفسه:ص132

[21نفسه،ص132

[22نفسه:ص136

[23نفسه:ص136

[24نفسه:ص141

[25نفسه:ص34

[26نفسه:ص36

[27الخدود

[28الفم

[29الدموع

[30الحبیبة

[31وادي،شعرناجي الموقف والأداة،ص107

[32ناجي،2008م:ص119

[33وادي،شعرناجي الموقف والأداة،1994م:ص57

[34نفسه:ص59

[35ناجي،2008م:ص21

[36نفسه:ص134

[37العنکبوت/41

[38ناجي،2008م:ص137

[39نفسه:ص142

[40نفسه:ص20

[41نفسه:ص22

[42نفسه:ص23

[43نفسه:23

[44نفسه:ص23

[45نفسه:23

[46وادي،شعر ناجي الموقف و الأداة،1994م:ص120

[47ناجي،2008م:ص120

[48اشار الشاعر إلی نفسه

[49مصر

[50نفسه:ص121

[51نفسه:ص123

[52نفسه:ص123

[53عویضة،1993م:ص72

[54نفسه:ص75

[55ناجي،2008م:ص63

[56نفسه:ص63

[57نفسه:ص63

[58نفسه:ص63

[59نفسه:ص64

[60نفسه:ص64

[61نفسه:ص64


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى