الجمعة ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم الشربيني المهندس

القط يأكل أولاده ورؤية مختلفة لرواية رحيل النوارس

مع أمواج بحر الحياة المتلاطمة تتسع المسافات التي يقذفنا إليها الموج.. وما بين الجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف يأتي إعجابي بالأديب الروسي ديستوفسكي والواقعية الخيالية" التي يمكن أن توصف بها أعمال دوستويفسكي والتي تسبر أعمق أغوار النفس الإنسانية، ويختلف عالمنا العربي ويأتي أديبنا الكبير نجيب محفوظ ليجعل للأب الاجتماعي ومقام الأبوة مكانه الأثير في رواياته ويصبح سي السيد نموذجا..
ومن سلطة الأب الي السلطة بوجه عام غاصت الروايات في إبعاد الشخوص والأحداث الواقعية والخيالية وجاءت رواية رحيل النوارس للأديب العراقي عبد الاله عبد القادر ليظهر علي المسرح ما أطلق عليه البعض لقب الأب السياسي وتأويلاته عن الديكتاتور..لكن الشرخ الذي أحدثه إعدام الرئيس صدام حسين بما له وما عليه فجر عيد الأضحى والمسرح الذي أعده الرجل الغربي المريض بغرور السلطة أيضا تتسع مساحته مع مرور الأيام

كان هذا هاجسي رغم الهدوء الذي يلي العاصفة التي لقنت الإسكندرية درس منتصف ديسمبر وكالعادة غرقنا في الوحل والفساد الذي استشري في حياتنا لتقل قيمة الإنسان ولكنه كان أيضا كمون انتظار العاصفة الجديدة بترابها.. والعجائبي أنها لم تكن عاصفة الصحراء والأسماء الغريبة التي أطلقتها القوة الاستعمارية الجديدة أو ماما أمريكا التي تضربنا لتحررنا..

هكذا دلفت إلي مكتبة الإسكندرية مرحبا بضيف مختبر السرديات وتابعت بشغف البانورما التي نصب خيامها بمكتبة الإسكندرية الأديب العراقي المهاجر عبد الإله عبد القادر صاحب روايات رحيل النوارس وغريبان علي الشاطئ الآخر واروراق العاشق الأخيرة والجهجهون وهو رئيس اللجنة العليا للموسوعة الوطنية لدولة الإمارات، والمدير التنفيذي لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية فى لقاء حول آفاق الرواية والمسرحية في العراق أضواء على الأدب العراقي بعنوان "شموس القمر.. بين احتراق القلب وشموع الأمل"

جاءت رؤية الرجل رافضة لنظرية المؤامرة بحثا عن دور الإنسان العربي، فهو يحكي من قلب الأحداث التي ضربت الإنسان العراقي وآماله التي انتعشت في سبعينات القرن الماضي في مقتل.. ومعظمنا عايشها حلما قوميا.. وربما عاشها مهاجرا من مصر فقد كانت الكاظمية والمؤسسة العراقية للغزل والنسيج ببغداد متنفسا بل ومنقذا لأبناء مهنتي في السبيعنات من القرن المنصرم وقد تورم القطاع العام المصري تخلفا وخسارة يومية ثم جاء الانفتاح وأجواء السداح مداح لتعيش الصناعة إحزانها في طريقها الي الهاوية..

كانت هذه بانورامتي الخاصة التي أدخلني فيها ا عبد الإله بتجواله التاريخي وكيف تحول عراق السبعينات من أمل الأمة إلي مسمار في نعشها منذ الثمانينات مع نفس الرجل لتخرج من حرب وتدخل الأخرى دون إرادة منها.. وقد اقسم الرجل ان المواطن العراقي لم يستفد من النفط مصدر ثروات الآخرين والذي أصبح لعنة تطارد أكثر من جيل مما دفع النوارس للرحيل والتي جاءت شعرا للشاعر العقابي ورواية للأديب عبد الإله ومسرحا أيضا..

هل كان علي النوارس أن تعلن رحيلها هربا من الواقع...؟ كما تقول أحلام مستغانمي أم تستسلم لقدرها فتموت...؟ أم .....؟

جاء دور الأدب ليطرح رؤيته وتيمة الأب المتسلط سياسيا هذه المرة بجانب الطبيعة الاجتماعية من خلال بناء درامي جميل مكثف ورؤية واضحة استطاع المؤلف عبد الإله عبد القادر، أن ينقله من خلال الصراع بين الأب الذي يفرض إرادته وأفكاره أيضا علي الأولاد في أسرة ما، والذي وصل الي طوفان الدماء.. وكأنه يصور الواقع السياسي العربي، وتناقضاته، ومحللا نفسية المستبد وشخصيته تاركا حرية التأويل للقارئ وراسما الإطار العام للنظام العربي بصورة بانورامية، وارتباطها بالنظام الأبوي المتسلط، وإن كان يشير إلى نظام بعينه من خلال إشارته إلى الحربين اللتين زج بهما الأب أولاده للموت..

رغم تأكيد الهادي بطل الرواية بأن الهجرة لن تستطيع أن تخلعه من جذوره عندما يقول لزوجته زينب : " أحيانا أيتها الحبيبة، يسافر الإنسان نحو النجوم، لكنه لا يستطيع أن ينسى زهور الأرض، يهاجر بجسده، لكن روحه تبقى ترفرف فوق سطوح المنازل، تطير مع حمام الصباح، تتجذر مع جذر نخلة، ينساب مع ماء النهر ليبدو الصراع الحتمي والحلم والأمل أكثر بروزا خصوصا بعد حرق البيت والنخيل رمز الحياة..

تأتي الهجرة أو التغيير حلا لكن المرأة في الرواية تتمثل بزينب ـ الأرض كانت ضد الهجرة، ونجح المؤلف في طرح فكرته بحيث وحّد بينهما، فكلاهما مهيأ للإنبات، وكلاهما أصل الحياة، وديمومتها، فخلود الإنسان في المرأة، والأرض، بل جاء الأمل وعبقرية الخلق في الرحم البشري ليضيف إبعادا جديدة للرؤية.

ومن هنا جاء ارتباط الهادي الابن والأب الجديد بزينب والجنين، وتبرز قسوة الاغتيال للجنين الذي كان اغتيالا للإنسان في داخله، مما دفعه إلى الخوف على كل الأجنة في بطون النساء من التشويه، وهذه الصورة مع تطورها الدرامي، وحوارات معبرة عن الشخصيات والمضمون هي التي خلقت في داخله بذور المواجهة لاستعادة الحلم، كما سنرى في نهاية الرواية

في الأمسية مع تصاعد حدة المناقشات فإن الأستاذ عبد الإله قدم تفسيرا لعنوان الرواية يخالف التأويل المباشر حيث أن النوارس ترحل لتعود غالبا وهنا سر انتظارها علي الشط.. كذلك كان اختياره للأب السياسي من واقع عالم الحيوان حيث القط علي استعداد لأن يأكل أولاده لولا حماية القطة لهم وها يختلف عن الأب وقيمومته في أعمال نجيب محفوظ مثلا فهو لم يأكل أولاده ويبقي الواقع العربي وزمن محكوم بالتناقضات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، تهيمن عليه أنظمة أعلنت سيادتها على كل شيء، وضمن هذا الإطار يدور المواطن العربي باحثا عن ذاته، ووجوده، تحيط به الهموم اليومية لاهثا وراء الرغيف، ولقمة العيش، تدركه المقاصل والمشانق والسجون إذا حاول أن يدرك حلمه أو يرفع صوته احتجاجا وهنا يطرح الكاتب رؤيته بضرورة العودة للذات الجماعية الأكثر مقاومة وتأثيرا من الذات الفردية ووجهة نظر تقول الكثير


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى