الثلاثاء ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم فؤاد وجاني

أبراج مكة أم أبراج أبرهة؟

يبدو أن الفقراء المسلمين، وهم الغالبية العظمى من هذه الأمة المغلوبة على أمرها، سيضطرون خلال الحقب المقبلة إلى الطواف حول ثلاجاتهم -إن كانت لهم ثلاجات طبعا- بدل الكعبة في مواسم الحج والعمرة. وإذا كانت الثلاجات بيضاء للناظرين، فليكسوها بقماش أسود. أما الذين منهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء عوزا، ولا زالوا يحلمون بامتلاك ثلاجة فمابالك بشد الرحال الى الحج نُسكا، فليصنعوا لهم كعبة زُلفا تلائم الهندسة المعمارية لأحياء الصفيح التي يسكنونها. والنية أحيانا أبلغ من العمل، ولكل امرئ ما نوى، فقد يغفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم. فهو، على خلاف حكام الأرض، رؤوف بالعباد رحيم. أما بعض الغيورين على ما تبقى من هذا الدين العظيم من ميسوري الحال، من الذين يستطيعون للحج سبيلا، فقد يتخلون عن فريضة الحج وينضمون إلى قافلة الثلاجات الفاخرة.

وقد يحول الغاوون منهم وجهتهم إلى برج بيغ بن في لندن العملاق بجوار البرلمان البريطاني والذي قاوم محظوظا لعنة الحرب العالمية الثانية. وقد يقرر ذوو الحنين منهم إلى الاشتراكية الذهاب الى برج سباسكيا الروسي بموسكو والذي أُسس سنة واحدة قبل سقوط غرناطة في الأندلس. أما مسلمو آسيا فقد يكتفون ربما بالطواف حول برج رجابي جنوب بومباي بالهند أو برج خليفة بدبي.

لم لا؟ واليوم في مكة تبنى أبراج حول الكعبة شاهقة وفنادق باهظة المقام فيها للأثرياء فقط زمن الحج وغيره، أما الفقراء من الحجاج لبيت الله الحرام والمعتمرون فحسبهم من كل ذلكم التطلع إلى السماء بأعين حزينة وقول: ماشاء الله، وهم ينظرون لساعتها الكبيرة دون المكوث في حجراتها الفاخرة.

وبعد أن كان المرء في قديم الزمان وأفضله يشد الرحال إلى بيت الله الحرام ليشعر بالمساواة المفقودة على الأرض، سيجد نفسه أمام اللامساواة، والحج الأبر لمن يدفع أكثر. وماتلكم إلا البداية، فقد يفرضون ضريبة مقابل لمس جدار الكعبة أو رجم الشيطان عن قرب.

حين جاء أمر الله إلى إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام برفع قواعد الكعبة لم يك في الأمر بناء أبراج، ولو كان علو الدين يقاس بعلو الأبراج لعهد الله لهما بذلك ووفر لهما سبله. ثم إن مكة تراث ووقف إسلامي لايحق لمستثمرين التصرف فيها وتغيير ملامحها كما تهوى أنفسهم. ولو شاء الله أن يبنيها المتطاولون في البنيان الظالمون المفسدون في الأرض لقدر ذلكم على عاد وثمود، ولأبقاها شاهدة على عتوهم وفسادهم مذ ذاك الأمد بعد تدميرهم إلا مساكنهم.

لقد أصبح الدين تجارة مثرية تدر ملايين الدولارات على الأئمة والدعاة عن طريق إبرام العقود مع قنوات الإعلام المرئية والشركات الإعلانية، أما استثمارات رجال الأعمال والأمراء في الدين فعوائدها بالمليارات، والمستفيدون منها أيضا أثرياء. ولقد أصبح الدين سياحة بعد أن كان زهدا في الدنيا وصبرا ومصابرة وتحملا للمشاق لأجل ثواب الآخرة.

ولم تسلم أشرف بقعة على الأرض من جشع الجشاعى. فبعد أن كانت مكة جنة الروح في أرض الله، أصبحت بفعل الفاعلين أغلى بقعة على وجه الأرض، يضارب فيها المضاربون ويتفاخر المفاخرون. وإن كنت حاجا أو معتمرا فقيرا فمقامك مع الفقراء، وإن كنت ثريا فحظك مع الأثرياء. وهذه طبقية جعلوها في دين المساواة ماأنزل الله بها من سلطان.

إن الله حرم الظلم على نفسه، وتوعد المعتدين على بيته الحرام بالعذاب في معاشهم قبل معادهم، فلن تكون خاتمتهم أفضل من أصحاب الفيل بعد أن حجبوا عن الرؤية بيت الله بناطحات سحابهم، وغيروا سنة الله في مركز أرض الله، وحرفوا تضاريس مكة، وحولوا الحج من عبادة إلى صناعة، وصيروها من قدسية إلى سياحة.

ليت غيرة المسلمين تضاهي غيرة ذلك المسيحي الأمريكي الذي قال في شأن أبراج مكة:"ما كان لهم أن يبنوا تلك المباني في أقدس بقعة للعبادة، ألن تلهي الأبراج الشاهقة عيون الحجاج فأرواحهم عن العبادة ؟"

لم أجد ما أرد به عليه سوى هذه الكليمات التي قالها عبد المطلب جد رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام لأبرهة الأشرم وهو في طريقة لعدوانه على الكعبة: "للبيت رب يحميه".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى