الأحد ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم حميد طولست

الصرع السياسي

من يتابع المشهد السياسي في بلادنا يمكنه أن يلاحظ وجود مجموعة من الظواهر السلبية المفعمة بالتناقضات والاختلالات المرتبطة في شقها الأكبر بالهيئات السياسية التي تعمل على افتعال الصراعات الجانبية والهامشية التي ليس لها هدف سوى إشغال الساحة عن قضايا رئيسة ترتبط بهموم الناس وتطلعاتهم، وفي الشق المتبقي ترتبط بالتناقضات الصارخة بين خطابات الفاعلين السياسيين وممارساتهم التي تظهر بكل وضوح وبدون مبالغة أو مزايدة، في ما تغرفه الساحة من خلافات واهية، ومعارك هامشية، ونقاشات وخطب شعبوية، ومهاترات إعلامية فارغة، ترتكز في غالبيتها على مزايدة الأحزاب على بعضها -معارضة كانت أو من الأغلبية الحكومية- بالوطنية والقرب والوفاء لمشروع الملك، إلى جانب تبادل الاتهامات الزائفة داخل أروقة ودهاليز المؤسسة، النيابية بغرفتيها، وخلال جلساتها وأثناء أسئلتها الشفوية. وهي معارك لا علاقة لها بمصالح الوطن، ولا بمعالجة قضايا المواطن المصيرية، ولا تلبي حاجياته الآنية في الشغل والصحة والتعليم والحرية والعيش الكريم، ولا تضيف للحياة السياسية المغربية شيئا، ولا تزيد من منسوب الديموقراطية، ولا من الثقافة السياسية لدا المواطن. لأنها بكل بساطة، مجرد تسجيل لانتصارات واهية، تتجاذبها أياد أطراف متناحرة ومتخاصمة يشغلها كلّ هم إلا هم حلّ المشاكل القائمة، يستخدم فيها كل طرف إمكانات الأمة لفرض سياساته، واستعراض قوته والتأثير على واقع ومشاعر ضعاف النفوس لضمهم إلى صفوفه، الأمر الذي يفرز المزيد من الاحتقان والانقسام والتشرذم وتشتيت جهود البرلمانين، ويجعلهم ينكفئون على ذواتهم في مجالس منشغلة بالخلافات الداخلية التي لا تثمر ولا تعطي ولا تحقق تطلعات الناخبين، وتنزف الوقت والموارد المالية والبشرية وتقلص فرص التوافق والسلام وتترك الندوب الغائرة الدائمة في جسد المجلس النيابي بل والوطن برمته، في وقت يتربص بهذا الوطن خصومه وأعداؤه، ويتحينون به الفرص، ما يستدعي من الوطنيين الشرفاء وقفة حازمة وحاسمة لمحاولة لفهم مجريات الأمور وتداعياتها، لإعادة مارد الصراعات إلي قمقمه، حتى لا يسيطر على مجريات أمور المؤسسة التشريعية، ويأكل أخضرها واليابس.. فكل شيء قابل للتنظيم والسيطرة وتدارك الأبعاد السلبية لأي موقف أو عمل، بما في ذلك العمل البرلماني الذي ينبغي ألا يبقى رهين حروب وصراعات منبعها بعض من يتمسك بمكامن القوى والنفوذ -من أصحاب السلطات والمواقع المهمة في البلاد، الذين يتحكمون في الغالبية العظمى من أبناء الشعب،- ويتسم ٍ العمل النيابي بالجدية المطلوبة التي تفرضها أصول الديمقراطية، وهي أن يمثل كل نائب الأمة خير تمثيل، ويضع نصب عينيه مصلحة الوطن والمواطنين التي تفرضها عليه الثقة التي أولاها إياه الناخبون، ويعبر عن رؤيتهم وتطلعاتهم وهواجسهم دونما أي ضغوطات تكبل الأيدي وتكمم الأفواه وتلبس الأرجل أغلالا تعيق العمل الإيجابي البناء وتضيع الفرص القليلة المتاحة للملفات العالقة كالغلاء والتمييز والإسكان والبطالة التي من المفروض أن تكون ملفات هموم مشتركة بين جميع النواب المعنيون بالتصدي لها والعمل على حلحلتهاٍ.

الوطن ملك الجميع وهو فوق كل الفوارق والرؤى الضيقة والأجندات السياسية المغرضة، وأمن وسلامة المواطن هي مسؤولية وطنية كبيرة، وأمانة تاريخية عظيمة ومشتركة تتحملها كافة الأطراف التي يجب أن تلتحم كتلها، وتترفع أحزابها عن سفاسف الأمور، وتتوقف عن هذا الانتحار الحزبي المريع، وتوجه كل مجهوداتها نحو تنمية الوطن وضمان سلامة المواطن، خارج ثنائية الممارسة السياسية الحالية التي تقتصر على الاستفراد بالوطن ونحره، والتي لن يستطيع أي منتخب التنصل من تبعاتها التي ستلاحقه وسوف تحاسبه عليها الأجيال المقبلة.

أمر جيد جدا، أن نعد العدة ونستجمع قوانا ونكون أشداء على أعداء الوطن، وهو أمر مشروع ومحمود العواقب، بل والواجب ألا نتخاذل عنه أو نتهاون فيه، لكن أن نتناحر ونتحارب ويقصي بعضنا البعض للاستفراد بصنع القرار ضمن تيارات مختلفة في الوطن الواحد، فهو الأمر المستنكر الذي لا يقبله عقل ولا منطق وله عواقب وخيمة على الوطن، الضحية الرئيسية ويتبعه المواطن الذي ليس بخاف على نوابنا المتناحرين -عفوا، المحترمين- ما وصلت إليه أحواله المعيشية والاقتصادية من تدني وقلة حيلة وإحباط خطير لا يخدم الاستقرار الاجتماعي بأي حال من الأحوال في بلد يعاني من أزمات وقضايا كبيرة وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية.

وحتى لو اعتبرنا –تجاوزا- أن ما يحصل خلال هذا الحراك السياسي في شقة الحزبي، هو جزء من اللعبة السياسية وأن ذلك أمر اعتيادي ناتج عن اختلاف الإديولوجية وجهات النظر والتوجهات التي كثيرا ما تثرى وتثمر إذا ما تمت إدارتها بوعي وحكمة وتعقل، وتحكيم للعقل وترويض للنفس والالتزام بقبول الواقع ومسايرته والسمو بآلياته بأمانة ووطنية.

فإنه ليس من الحكمة ولا من العقل ولا من مبادئ العمل السياسي النافع للناس والوطن، العمل على إذكاء الصراعات وخلق حالة من التنافر المستمر بين أبناء الوطن الواحد تحت مسميات "متلونة"، وسياسات غامضة، وإجراءات "ملغومة" تنذر بالانزلاقات الخطيرة التي ينبغي على الجميع التفكير في وضع حد لها وإيجاد مخارج منها والعمل على علاجها أكثر من الاندفاع باتجاه تأزيم الأوضاع وتفخيخ الأجواء. الشيء الذي لن يتأتى إلا من خلال مشروع مجتمعي سياسي يؤدي إلى حالة راقية من الانسجام في العمل والأداء الذي يسمو بالأحزاب فوق المصالح الفئوية الضيقة لأجل مصلحة الوطن والمواطن وقضاياه التي تشغل المجتمع، المنطلق الذي تعمل الأنظمة السياسية ودوائر القرار في المجتمعات المتقدمة من أجله لتحفيز مجتمعاتها بشكل دائم واستنهاض همم مواطنيها حتى يرتفع مستوى التطلعات والطموحات وينشغل المجتمع بما هو أفضل من تتبع الصراعات وينطلق في آفاق المعرفة والإبداع على كل صعيد.

وهذه الإجراء ليست بالأمر البسيط ولا الهين، لما تقتضيه من توافر الإرادة الجادة لأطراف النزاع، تلك الجدية التي تعني تطابق الأفعال مع الأقوال -التي لا يرى المواطن لها أثراً على معيشه- وينعكس سلباً على الواقع السياسي والاقتصادي للناس خصوصاً ما يرتبط منها بقضاياهم وحاجاتهم اليومية والمعيشية. وبالنظر إلى التجربة الحزبية المغربية نجد أنها عرفت مند بدايتها ولازالت تعيش سيادة الثقافة العشائرية والقبلية والمصلحة الضيقة التي لا تدفع باستراتيجية تنظيمية وتأطيرية ولا تعطي للتنظيمات الحزبية معنى وقيمة، ولا تغنيها بالأفكار التي من دونها يصبح العمل الحزبي مجرد كيانات شكلية مليئة بالعيوب والاختلالات العديدة، التي أخطرها تغليب ولاء الأشخاص على ولاء المشاريع والبرامج والأفكار والآمال، والتي يعتقد الكثير من المحللين السياسيين أنها السبب الرئيس في 90 % من الصراعات الثنائية التي يصعب تصنيفها ضمن خانة ما هو إيديولوجي أو مرجعي، لأنها صراعات سياسية مصنوعة ومفبركة وقائم بالأساس على ما أسماه محمد ضريف بـ"الإستراتيجية الغنيمة" التي لا تنظر إلى العمل السياسي على أنه مشروع يسعى إلى تطوير البلد عبر تشكيل قوة اقتراحية لإيجاد بدائل للخروج من الأزمات الاقتصادية والسياسية والثقافية، بقدر ما تنظر إليه كمطية للانتفاع والحصول على غنائم سياسية باستغلالها للنفوذ الحزبي، المعتمد أساسا على إقصاء الكفاءات وإبعاد المخلصين -الذين لا يرون في الوطن خزينة بقدر ما يرون فيه حاضنا ناصرا عزيزا وعادلا- عن العمل السياسي ما يؤثر سلبا في الهيئات السياسية وجعلها أقل حضورا على الساحة الدولية، وعاجزة عن تقديم مبادرات لشرح المواقف الوطنية، والوقوف ضد التحرك الدبلوماسي الهجومي للهيئات السياسية للجارتين الجزائر وإسبانيا وما يروج له من أطروحات زائفة حول قضية الصحراء المغربية وأحداث العيون التي جعلها البعض مشجبا يعلق عليه أسباب صراع حزبي الأصالة والمعاصرة وحزب الاستقلال، اللذان لم يرق أداؤهما وباقي الفعاليات الحزبية المغربية الأخرى، إلى المستوى المطلوب في الدفاع عن المصالح العليا للبلاد في الداخل بتوعية المواطنين... وفي الخارج بإحداث نوع من التغيير، على الأقل، لدى الإطارات الحزبية الدولية التي تجمعها بها نفس المرجعية الإيديولوجية.

وعموما، وكما يقال: "رب ضارة نافعة" فالحياة علمتنا أن المصائب والكوارث لا تخلو من فوائد ودروس‏..‏ وما حدث في العيون، كشف أن المغرب وطن تسامح وخير وثقافة وعراقة وعزة، وليس "وش بهدلة" كما يقول المصريون، وأنه وطن قوي بتماسك مواطنيه الذين لا ينسون من يسيء إليهم و يمس مقدساتهم ويحكم عليهم بأن يدوروا في فلك العوز والتأخر وفقدان العدالة، كان من كان، ومهما طال زمانه، وأنهم يعرفون ما ينبغي عمله في الوقت المناسب دون تردد أو إبطاء، وما انتفاضة المغاربة في مسيرتهم المليونية السلمية التي رددت خلالها كل مكونات المجتمع وأطيافه وتلاوينه السياسية والاجتماعية، وبصوت واحد: أن الوقت وقت جد لا مكان فيه لصراعات الذين يحترفون استغلال الشعارات البراقة ويجيدون ارتداء الأردية الفضفاضة ويستهينون بأمر الشياطين القابعين بعيدا أو قريبا من حدودنا‏‏. إلا دليل على قوة وإجماع شعبي، وبرهان على أن هذا الشعب قد بلغ نسبة كبيرة من الوعي جعلته أكثر قدرة علي تمييز الغث من الثمين‏،‏ ووضع الخطوط الفاصلة بين من ينتمون بصدق لتراب هذا الوطن‏ ويدودون عليه بالغالي والنفيس،‏ وبين من يزايدون عليه بالوطنية وبالكلمة غير المسؤولة‏،‏ دون تقدير للمخاطر والعواقب‏. هأولاء هم الزائفون بكل معاني الزيف، الذين يضمرون الشر ويجاهرون بالخير.. ويخفون مواقفهم الحقيقية ويتظاهرون بعكسها، إنهم في الحقيقة أخطر على مستقبل هذا الوطن ووحدته من أولئك الذين يجاهرون بطائفيتهم وبعدائهم لوحدتنا الوطنية الذين نعرف حقيقتهم ونأخذ حذرنا منهم ونقدر على مواجهتهم.

كم أتمنى صادقا، أن يكون ما تعيشه أحزابنا المتناحرة مجرد غمامة ستنجلي حتما بعد أن يستفتي أتباعها قلوبهم ويحددوا أهدافهم، حتما ستعود الأحزاب المتصارعة إلى رشدها لتعمل على صون وحدتنا الوطنية وحمايتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى