الثلاثاء ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم كاظم الشويلي

الزيلفون

أكل رأسي هذا الولد الأصغر (جواد)، لا يفهمني مطلقا.... ياااااااه أصبحت روحه ساكنة في الزيلفون، ولأنني أحبه حبا جما، ولا أرد له طلبا، حتى لو شاء أن اقطف له نجوم الدنيا واضعها على طبق من ذهب ليلهو بها لما ترددت، لكن الزيلفون؟!!

 ليس لان الزيلفون غالي الثمن جدا – ثمنه يعادل إيجار الخربة التي نسكنها - وما بحوزتي من نقود لا تكفي أجرة هذه الخربة التي لا نقدر على معالجة رتوق سقفها، وليس لان أنغام الزيلفون ستصدع رأس زوجتي الراقدة منذ أمد في فراشها تشكو الآم الصداع.... كل ما في الأمر أنني متردد في شراء الزيلفون لأنني كرهت بائع الزيلفون، وأقسمت ان لا اشتريه منه...

كنتُ امر على عربة هذا البائع التي تحوي على لعب عتيقة في سوق (البالة) الكائن في الباب الشرقي، صحيح ان كل اللعب قديمة واغلبها مكسور وتالف، ولم التفت للزيلفون أبدا، لكن ما ان اصطحبت الجني (ولدي) جواد في احد الأيام النحسة إلى الباب الشرقي لشراء قميصا من (البالة)، وما كاد ان يقع نظر جواد على الزيلفون الملون في عربة بائع اللعب العتيقة حتى جن جنونه، وامسكني بقوة صارخا:

 بابا ما هذا

 هذا العاب يا جواد

 ارفعني يا بابا... هي احملني الى صدرك.. دعني انظر جيدا..

واخذ يحدق بشراهة ونهم إلى الزيلفون وأنا ابتسم ويدي على قلبي اخشى ان يقول لي اشتري يابابا هذا الزيلفون... والله... والله أذا قال اشتري لي لعبة، حتما سأضربه على رأسه... ههههه يظن أبوه عضو بالبرلمان راتبه أربعون مليون دينار... قال جواد وهو يبتسم ابتسامة تنذر بعاصفة من البكاء، وهو يمسك بأنامله الرقيقة صفحة خدي الخشنة:

بابا ما اسم هذه اللعبة؟

وقبل أن اقبره واقمعه وأنا أمط شفتي علامة الغضب والازدراء، ابتسم بائع الألعاب العتيقة ابتسامة ماكرة وهو يتصنع الشفقة لجواد، وهو يقول له:

 وليدي عمري هذه اللعبة اسمها زيلفون، وهي تعزف شتى الأنغام...

وبالفعل اخذ يعزف شتى الألحان على آلة العزف الملونة الصغيرة، وترتفع الألحان والنغمات، والناس تتجمع من حولنا وتحيط بالعربة ويستمر البائع بالعزف بالزيلفون... وهو يتصنع الابتسامة الثعلبية لجواد... وجواد يبادله الابتسامة البريئة، وأنا أتفقد نقودي، والباب الشرقي يجمع كل أطياف الناس من كادحين ونشالين وفقراء الله و...

 فجأة ابتسم الرجل البائع وأعطى المطرقة البلاستكية التي يعزف بها على الزيلفون إلى ولدي جواد... واخذ جواد يعزف بلحن جميل وكأنه عزف ملائكي...

وتجمهر فقراء الله في الباب الشرقي وطوقوا العربة بالضجيج والإعجاب...
وجواد مازال يضرب بالمطرقة، فتصدح

أنغاما

وأريجا كالرياحين،

وصفقوا له وأنا مازلت ممسكا بجواد وهمست في أذنه:

 كفى يا حبيبي لنذهب

 أبدا اشتري لي الزيلفون يا بابا

 اخرس... سأصفعك يا جواد

هتف البائع وهو يخاطبني:-

 يا عيني اشتري الزيلفون لابنك، ثم ان سعره زهيد ..

 وكم سعره؟

 ثلاثون ألف دينار فقط.

 لالالا... هذا كثير انه لا يساوي غير ألفان دينار... وأنا سأعطيك ثلاثة...

 أبدا... قلت لك ثلاثون ألف ولن اقبل بأقل.

 ثلاثة ونصف ؟

 أبدا... ثلاثون ولأتناقش بعدها

 صدقني في جيبي عشرة الآلاف دينار لا غير... أعطيها كلها لك ما عدى أجرة عودتي بالحافلة...

 سحب البائع مطرقة العزف من أنامل جواد الرقيقة، التفت جواد يحدق في عيني، وقد تكسرت ملامح وجهه الرقيق، وارتمى برأسه الطفولي على كتفي وبكى....

واشتد بكائه وأحسست بثقل رأسه على كتفي، وكتفي المرهق من العمل في المساطر وحمل الحديد والاسمنت لا يقدر حمل بعوضة، لم يكن رأس جواد ثقيلا، وإنما انا الذي كنت ضعيفا، اه... يا لجسدي الذي بدأ يتآكل يا لقسوة سنين الفقر، وهذا المسطر الذي يهلكني ويتعبني حتى احصل على عمل فيه وليوم واحد، وبعدها نفترش الأرصفة في ساحة الطيران لمدة عشرة ايام...
ههههههه طيــــــران! واين نحلق...

ورفع جواد رأسه بشدة وصرخ في وجهي وهو لا يفقه بسنواته الأربع إننا كيف نجمع الإيجار، ويوميات الأولاد الذاهبين للمدارس، ومعيشة يومنا، وأدوية مرضانا... وجواد يبكي على الزيلفون....

ومضت أياما وهو يقمعني ببكائه، ولأننا نحن فقراء الله لا نهتم كثيرا لبكاء أطفالنا ولا لرغباتهم مهما كانت ألوانها، مثل أولاد الأكابر، أولاد البرلمانات، فاستطعت ان اقمعه لمدة أيام إلى أن حان اليوم الذي تلاشيت وتقهقرت أمام جواد ورضخت للواقع، عندما اخبرني جواد وهو يكفكف دمعه:

  سوف اكبر... واكبر وأصير أطول منك... وأطول من عمود الكهرباء هذا النائم منذ سنين ... واذهب للمسطر مثلك بالضبط... واعمل كثيرا... واجمع أموالا... واشتري زيلفون... وزيلفونات.... وأعطيها للأطفال الذين لا يملكون العاب... بل ألان اذهب إلى المسطر... ألان اذهب... يا أمي تعالي شدي قيطان حذائي لأذهب إلى المسطر مع أبي واعمل معه....

 ومابين ان أكفكف دمعي ومابين انبهاري ببراءة جواد، ذهبت إلى خزانة الثياب البالية (الكنتور) وأخرجت مبلغ الإيجار المقرر أن أسدده في الأسبوع القادم...
هتفت لجواد الذي مازال مشغولا مع أمه التي تساعده في شد (قيطان) حذاءه، وأنا ابتسم له وأقول برفق:-

جواد... هيا... نشتري الزيلفون

 ومـا أن رأى جواد المبلغ في يدي حتى انفلت من يد أمه المندهشة وقفز إلى السماء فرحا منتشيا بلعبته المحببة، وخرجنا كالبرق إلى الباب الشرقي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى