الأربعاء ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم محمود سعيد

المظاهرة والوسيم.

كانت صغيرة، جميلة، تتبختر برشاقة ساحرة، تخطو بنظارة وبهاء، مرفوعة الرأس، واثقة من خطواتها كأميرة فتيّة كاعب حسناء تدير الرؤوس. ذهلتُ لأناقةِ قبّعتها الورديّة الجديدة، وللشريطِ الحريريّ الورديّ الذي ينتهي بفراشة وردية تحت ذقنها، وكأنها رباط رئيس وزراء في عنفوان مجده. كانتْ تزنُ خطواتِها بتألّق وهدوء وراء عجوزٍ في سبعيناتها، تسير هي الأخرى منتصبةً تتحدى الشّيخوخة بصحتها، ونضارةِ وجهها، وأناقتها المفرطة.

يجذبني شارع ميشيجن العريض الأنيق ببهائه، يذكرني بشارع الرشيد في ستينات القرن الماضي، بالرغم من عدم وجود أيّ وجه شبه، إذ لا تنتصب أمام الأعين أعمدةٌ متواليةٌ، ولا شرفاتٌ يستظلُّ بها المارّة من جحيم الشمس في الصيف، أو المطر شتاءً قط. ولا تخترق الخياشمَ رائحةُ كبابِ بغداد المشهور أو "باجة"ها الأسطورية.

على امتداد النظر في شارع مشيجن لا يوجد غير ناطحات سحاب تتفاوت طبقاتها بين العشرين والمئة والخمسين. صروح معمار فريد استقامت بتناسق وانسجام ألوان مذهلة، يخلبُ اللّبّ، يختلف اختلافاً شاسعاً عن بناياتِ مدن أخرى لا تعرف أبراجها السامقات سوى تكرار يغتالُ النظر.

في هذا الشارع انفضّت قبل ساعة ونصف، مظاهرة كبيرة تحتجّ على التلوّث، على تنصل إدارة أوباما من عهودها، ووعودها، وتقاعسها عن توقيع معاهدات الحدّ من تدمير أمّنا الأرض بالكاربون الفاسد والسّخام، وعوادم السيّارات، ولما كانت السّاعة لم تتجاوز الرابعة، وكان الجو مشمساً معتدلاً، وفي رأسي ذهول تتموّج فيه شعارات ما زالت حيّة تملأ الأفق: نكبتم العالم كلّه بالتّلوّث. ساعدوا المدن التي أغرقتموها بالفيضانات والزّلازل والسّخام. تحرّكوا لإنقاذ البحار والأنهار. أيّها المنافقون قضيتم على السّلام في الأرض، دمرتم الغابات المطيرة. لا لاحتلال الشّعوب الأخرى، انسحبوا من العراق وأفغانستان. الحرّية لكلّ الشّعوب الخ.

لم اعد أفكّر حين انتهت المظاهرة. قدماي حرّتان تقوداني من حيث لا أشعر إلى مقهى في زقاق يفضي على نهر شيكاغو، أبعدني جمال النهر المتدفق عن الشّارع الأخّأذ، تذكّرت دجلة بعيداً عن دجلة وبهائه وألقه الخالد. لكنّه لم يبعدني عن الشّعارات التي مازالت تدوّم في مخّي.

لم أدرِ كم قضيت، وحينما تجاوزت السّاعة الخامسة، نهضت أيضاً من دون شعور، فإذ بي مواجها للحسناء، على بعد نصف متر مني، تتبختر في وقار، وقبعتها الوردية الأنيقة تزهو، ووردة الفراشة في عنقها وسلسلتها الذهبية الطويلة، يضفيان علهيا هيبة ورهبة تفرض احترامها على من يراها.

في مثل لمح البصر وازاها، رافقها، كان وسيماً جداً، عينان كبيرتان كحلّتهما الطبيعة بسخاء، تناسق أعضاء وجه ملفت للنّظر. ابتسمتُ رغماً عني، نسيت الشّعارات الملتهبة، كأن المظاهرة وتحفّزها وصياح المتظاهرين وانفعالهم لم يحدث هنا قط، لا هو ولا النّيران التي انغرزت في الدّماء، وهيّجت مآسي الوطن الدّامية المؤلمة.

كان الزوج الملكيّ المتبختر الجميل الأنيق منسجماً إلى حدّ لا يمكن تجاهله، يثير نظر الآخرين رغماً عنهم. لكن الغريب أن الملك لم يكن يملك سلسة. كان يسير مرفوع الرأس فخوراً بمن يرافق، حرّاً غير مقيّد. عندئذ فكّرت. الملك ملك، حرّ. عصيّ على التقييد، ما الغرابة؟

حينئذ لذّ لي بالرّغم مني أيضاً أن أسير الهوينا وراءهما، متمتعاً بجمالهما الأخاذ. لكن المفاجأة الثانية حدثت بعد بضع خطوات أخرى لم أحسب لها حساباً.

التفتت العجوز السّبعينية وإذ رأتهما يسيران مترافقينِ التهبت عيناها غضباً كصقر صحرواي. نظرت إليّ، صرخت بي بقوّة: خذ صاحبك بعيداً عنها.

لم ألتفت إليها، سدرت في سيري، كأنّها لم تخاطبني. إربدت ملامحها، عجنت بالدّم، صرخت: سيعديها صاحبك بشتّى الأمراض، ألا تراها نظيفة متألّقة؟

ابتسمت: لكنّه ليس بصاحبي.

- لا لا هو لك.

- ثقي إنه ليس لي.

- إذا لم تبعده عنها فسأطلب الشّرطة.

انفجرت ضاحكاً: سيدتي إن كان لي فلما أتركه من دون سلسلة؟

صرخت بقوّة: أنت كاذب.

لم يستفزّني صراخها، أو إهانتها قط. فتفسير الإهانة يحتمل أوجها عدة كأي اجتهاد يستدعي في أوضاع كهذه الضحك. لكنّها لم تسكت ظلّت تصرخ بقوّة وتعيد كلامها، وظللت أضحك بالرغم مني. بينما كان السابلة يتجمّعون حولنا نحن الأربعة. وبغمضة عين أخرى توقّفت سيارة الشّرطة قربنا. لم أدرِ كيف اّستدعيت ومن استدعاها! لكنّ الأمر واضح، فالنقّال عند الجميع. ربما سمعوا صراخ العجوز؟ إن كان كذلك فهذا يعني أنّ لديهم مناطق يراقبون الشّوارع منها؟

غادر السّيارة شرطيّان، أحدهما امرأة شقراء. سرعان ما اقتربا من العجوز السّبعينيّة، أخذا ينصتان باهتمام لها، ثم استدار الضّابط إليّ، قال لي بلهجة جافّة آمرة وهو يحرّك يده بقوّة: خذْ صاحبك بعيداً.

- ليس بصاحبي.

كنت أبتسم وأتكلّم، وربما ظنّ أني لا أقيم له وزناً. ضبط أعصابه. أعاد بلهجة معتدّة هادئة: قلت لك خذ صاحبك.

وبالابتسامة نفسها، وباللهجة نفسها أعدت: وأنا قلت لك ليس بصاحبي.

كادت أعصابه تفلت، لكنه ضغط على نفسه: لمن يعود إذاً؟

 لا أعلم. سله.

الشّرطي عملاق أفريقيّ أمريكيّ، يستطيع أن يقضي عليّ بلكمة واحدة. وربما كانت عدم مبالاتي به جعلته يفقد أعصابه كليّاً. التهبت عيناه شرراً. صرّ على أسنانه: سأعتقلك.

مدّ يده إلى حزامه ليفكّ قيد المعصمين منه، لكنّ الشّرطيّة الشّقراء التي كانت ترافقه، اقتربت منه وهي تبتسم. وقفت بيننا. كانت قصيرة، ممتلئة. فانحنى لها باحترام، حتى لم أعد أرَ سوى قبعته. بدا أنها همست بضع كلمات لم أتبينها. كانت عينيّ معلقتان على يديه اللتين جمدتا وراء ظهره لفكّ القيد ليربط كفيّ.

ابتعدت الشّرطي عنه فجأة بسرعة. اقتربت من الملك الوسيم. انحنت له. صفّرت بلحن جميل. حدّق بها، فتح عينيه المكحلتين على وسعهما، بدت نظراته متفهّمة عميقة، وبدا على جانب رفيع من ذوق يستطيع بوساطته تميّيز رائحة الأنثى. هرع نحوها بسرعة البرق. عانقته بقوّة، فبدأ يلطع بلسانه الوردي وجنتيها، فمها، شفتيها، وهي تضحك من كلّ قلبها، وتردد: عسلي. عسلي. عسلي.

ثم نهضت وهو بين ذراعيها. أسرعتْ نحو سيّارة الشّرطة فرحة، وكأنّها عثرت على كنز لم تحلم به، اغلقتِ الباب، فتبعها الشّرطي العملاق من دون أن ينظر إليّ أو إلى العجوز، أو إلى أجمل كلاب العالم المتبخترة. ثم اختفت السّيّارة من أمامي بما فيها ومن فيها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى