الخميس ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم ميمون حرش

أفـــواهنا تفضحنـــــا

أفواه تلوك علكة اسمها " التنديد".
 
 قيل لأعرابي: "في كم تعرف الشخص؟"

أجاب:" إذا صمت في يوم، وإذا تكلم في ساعة".

ولا بأس أن نقارن بين اليوم والساعة لنعرف أن الفرق شاسع بينهما، ولأن الكلام يفضح صاحبه فمن السهل معرفة كنهه، وتاليا الحكم عليه، فلو أحصى الإنسان، في يومه، كم كلمة ينبس بها في حواراته، في البيت، في الشارع، في المقهى، وفي كل مكان لأدرك أنه كائن مولود لينطق دون أن يتمنطق ؛ أمامه، في الكلام، لا يعترف بعلامة قف أبدا،إنه يخرقها بما يقوله، أما الأفعال فتينة مورقة لا تثمر أبدا عند غالبيتنا.

القائمون على أمورنا، ما أكثر ما يتكلمون ويثرثون أمام عدسات الكاميرات خاصة، حيث يدلقون رؤوسهم لتتدلى الأفواه حتى تعطي تصريحات في الشأن المحلي أو غيره بعبارات في أغلبها ليست منتقاة،لأنهم يعرفون مسبقا أن ما سيهرفون به مجرد كلام أو موضة يجب أن تُقال أمام جهاز لم يخترعوه اسمه ميكروفون، ومن سيسمعهم المفروض أنهم تعودوا على كلمات بعينها، تتكرر بقرف، وما يتغير كل مرة هو شكل الميكروفون ليس إلا.

ما أكثر ما يتكلم زعماؤنا( الرئيس المخلوع بن علي خير مثال)، لكنهم يكذبون ويكذبون ونحن نصدقهم ونصدقهم، وما أكثر ما يعدون، و أكثرهم يتجاوز عرقوب ولكننا كالبلهاء نعذرهم، والطامة الكبرى أن لا شيء يتغير ما دمنا نعيد الكرة مرة أخرى حين نصيخ السمع لهم كأن شيئا لم يكن، وهذا بالضبط ما يفسر تطاول بعضهم على المعذبين في الأرض.. نحن الذين من هؤلاء المساكين مثلهم تطبعنا على عادة إرخاء الآذان لهم،فقط لنسمعهم دون جدوى، وقد نفعل ذلك طمعا في انتظار معجزة ما، نحن في هذا أشبه بمن كذب على جماعته حين أخبرهم بأن هناك في مكان معين دلهم عليه يوزعون هدايا بالمجان، فركض الجميع وهرولوا في كل اتجاه، وحين رأى حالهم ركض معهم لينال نصيبه من الكعكة هي في الأصل أكذوبة من اختلاقه.

لحظة من فضلكم.

كم مؤتمرا عربيا حضن زعماء العرب، وتخيلوا معي كم من فم داخل بهوه المخملي انفتح ليقول رأيا حرص صاحبه على انتقاء كلماته، إنها أفواه مفتوحة تنبس بكلمات يتيمة يتضمنها بيان ختامي فيه غالبا:

نند، نشجب،...
باستغراب تلقينا اعتداء إسرائيل على...
فاجأنا قرار كذا...

تخيلوا قمة عربية تحضن كل زعماء العرب، وتتمخض كما الجبل لتلد كلمة يتيمة وهي " نــــنــد " ليس إلا...إنها كلمة تضمر إدانة، إنها فضيحة بألوان قوس قزح، بل إنها فضيحة تثقب الذاكرة، وتطيح بكل الرؤوس لتؤكد أن مَن داخل المؤتمر أو أي قمة عربية هم مجرد أجلاف لا يفقهون شيئا غير الكذب.
في أحداث 11 سبتمبر2001 طلع بوش الابن أمام كاميرا ت عدة، بدا حاد القسمات، تابعه العالم باهتمام، ولم تكن كاميرات كل القنوات تركز سوى على فمه، وما سيقوله، ما همهم شيء آخر غير فمه لأن أفواه أصحاب العيون الزرق، والرؤوس الشقراء تغري أكثر من غيرها لذلك فإرخاء السمع لها يصبح لها طعم آخر..

اقترب من الميكروفون، لم يندد بما وقع، ولم يطل في حديثه، إنما قال كلمة بحد السيف: " إما معي أو ضدي "، و لأنه كان يعني ما يقول فقد تبنى موقَفه كل العالم إن سرا أو علانية، والحق أن العرب من حقهم أن يصيخوا السمع لغيرهم، أولا لأنهم ثرثارون، وكلامهم مثل دوحة لا يرجى جناها،وثانيا لأن غيرهم يقتصدون في كلامهم بغية تنفيذ كل يقولون، وهذا ما لا يجيده العرب.

أفواه مكتوب عليها "للأكل والتنخيم فقط".

في المثل:" المرء بأصغريْه: قلبه ولسانه"؛ واللسان والقلب هما جارحتان صغيرتان لكنهما دولاب الجسم كله، بهما يفتضخ أمرنا، فلم لا يفهم القائمون على أمرنا هذا الأمر، ثم إلى متى نظل نوظف أفواهنا لمجرد كلام فضفاض، أو لمجرد الأكل لدرجة أن من قال "نحن نعيش لنأكل" كان محقا على الأقل بالنسبة لمن يجعل الأكل غايته في الحياة، رغم أن الأكل وسيلة وليست غاية، لأن مجرد الأكل حين يغدو غايتنا نصبح مجرد بهائم.

في مرات كثيرة، حين أتذكر" زوربا" بطل الكاتب اليوناني كازانتسكي، لا أملك غير الإعجاب به كرجل بتر أصبعه لأنه كان يعيقه في صناعة الخزف، وأنا أتخيل لو كان لسانه هو المعيق بدل أصبعه لما تردد أبدا في قطعه.

لا نريد أن نقطع ألسنتنا لأننا لا نقوى على تحمل أجسادنا دونها، فكيف نكذب بدونها؟.

مسألة أخرى أحب أن أؤكدها وهي أن الفم الذي نجهل كيف نوظفه فيما هو خير لنا بتره أحسن من أن ندعه يقوم بما يندى له الجبين، بعض الأفواه إذا الم تِنم فهي ستنفث سما اسمه التنخيم، بعضهم لا يجد حرجا في أن يبصق كل مرة في الأماكن العمومية و أمام مرأى الناس دون أن يحسوا بحرج، أو يؤلمهم وخز الضمير؛ بعضهم يفعل ذلك بصلف حين يلقي بقذارة يرش بها الأرض ومن عليها، قذارة تخرج من فم مرسوم في جسد، وهذا الجسد متسربل في بذلة أنيقة بربطة عنق..

 كثيرون لا يجدون حرجا في أن يتنخموا في شوارع مدنهم بشكل مرضي، وعلى الهواء مباشرة، بعضهم يفعل ذلك نكاية بزمن لم ينصفه، وآخرون تعودوا البصق ليس إلاّ، في الأول حصل ذلك معهم سهوا،ثم رغبة جامحة، وأخيرا احترفوا التنخيم مشاة،و قعودا، في الشوارع، والمقاهي، والأماكن العمومية...
و تكفي جولة واحدة، في شوارع مدننا،من الماء إلى الماء، ليقف المرء على هذه الظاهرة العجيبة،ونحن في النهاية بشر ولسنا ملائكة، والإنسان حين يكون وحيدا، في غياب الرقيب من حقه أن يتنخم، وينكش أنفه، ويضرط...وهذه كلها خصائص إنسانية طبيعية مشتركة بين بني آدم، وهذا مفهوم ومستساغ، ولكن حين يفعل ذلك أمام الملأ فهذا اسمه تصرف حيواني غير عاقل.

أكثر من ذلك بعضهم لا يجد حرجا في أن يشرب من ماء "مبارك" بعد أن يبصق فيه طبيبهم الشعبي و"العشبي" معا، وإذا كان اليأس هو ما يدفع البعض إلى ابتلاع ماء يعرف مسبقا بأنه دنس، فإن ما ليس مفهوما هو كيف يقبل على ذلك من ليس مريضا أبدا، إنما يفعل ذلك طمعا في بركة موجودة في قذارة بل ويحرص على ذلك كل مرة يبتلع فيها، وهو منتش، ريق الآخرين بدعوى نيل البركة ممن يعتبرون أنفسهم أولياء في الأرض، ومحظي من يشرب من بصقهم، وملعون من يجادل في بركة تنخيمهم.

أفواه تلفظ التحية كالشتيمة.

حين نزيل الكلفة بيننا، وحين يسود سوء تفاهم بيننا لا نجد شيء أفضل لنوظفه أحسن من" الفم" الذي نجعله يصوم عن الكلام المباح، أما غير المباح فنلفظه عمدا كالشتيمة حين نلقي التحايا بيننا ليس لنشر السلام، إنما لإعلان حرب باردة، يكون السلاح الفتاك فيها هو الفم، وما أكثر ما يردي الناس في غيبة، أو نميمة بالتعريض حينا، وبالتصريح أخرى...

إن لــفم زعمائنا سلطانا، وسلطة،و بامتلاكه لهذا السلطان يصبح مثل مسدس كاتم الصوت يتسلح به هؤلاء وهم يضغطون على الصدور بدل الزناد لتدبيج مقولات تخرج كالرصاص في قوته، منمقة قي مناسبات عدة يشحذون فيها الأفواه مادام هناك آذان مصغية متأهبة لأن تسمع منهم كلاما هو مجرد هرطقة، وباطل يراد به حق.

في غياب الرقيب وحتى في وجوده، لكن سيان لأنه أعمى غالبا، يصبح للفم دور آخر، وفي مقابلات شتى، في مكاتب مكيفة يلفظ بعض من ولينا أمورنا لهم في انتخابات مزيفة غالبا التحية كالشتيمة حين يستقبلوننا في مكاتبهم، أما قضاء شؤوننا الإدارية البسيطة فتقضى بتركها، وحين نلح لمعرفة مصير ملفاتنا يـُرد علينا بغلظة في شكل كلمات بذيئة، خشنة سرعان ما تلين الأفواه التي نطقت بها أمام كاميرات الأجانب لتنقلب الشتيمة حينئذ سمنا على عسل، حتى لنحار هل يتكلمون من أفواههم أم استعاروها فقط لتؤدي دورها ثم تعود سيرتها الأولى في المكاتب المكيفة حيث يستقبلون المواطنين بسحنات مخيفة، ووجوه متهجمة.

لو كانت أفواه زعمائنا ممن تردعهم، أو تكفيهم مجرد عبارة لقلنا لهم:" اخرسوا، فاقوا معاكم"..
 و أفواه تصنع الحدث ويدخل أصحابها التاريخ من أبوابه الواسعة.

الرابع عشر من أيار 2011 سيرسخ في ذاكرة الإنسان العربي أكثر من غيره، فعلى امتداد شهر تقريبا تابع العالم باهتمام انتفاضة سيدي بوزيد التي أشعل شرارتها محمد البوعزيزي الذي هان عليه أمره، وأحرق نفسه ليعيش أبناء بلده في حرية،لقد دخل حريقا، لكنه خرج منه أبيض ناصعا، لقد شوهته النار هذا صحيح، لكن كشف الحقيقة، وأماط اللثام عن سياسة النوم في العسل، حين أحرق نفسه تذكرت ما قاله الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت:

‘‘ إذا لم أحترق أنا
وإذا لم تحترق أنت
و إذا نحن لم نحترق
فمن ذا الذي سيبدد الظلمات؟!’’

لعل محمد البوعزيزي الخضار البسيط لم يقرأ أشعار حكمت، لكنه، صدقا، وعى ما يرمي إليه الشاعر بالفطرة، ذلك لأن التجربة، والمعاينة، والمشاهدة علمته الكثير، ولفتت نظره إلى الأشياء من حوله، وعى أن الظلم يجثم بكل ثقله على صدور البسطاء أمثاله، كان يدرك أنه يعيش في بلد تشتعل فيه النار، وتتوهج لتحرق أبناءها بارتفاع الأسعار، وطغيان الزبونية، وتكريس السلطة بمفهومها المخزني القديم، وانتشار الرشوة، وتطبيق القانون على المعذبين والبسطاء فقط بينما"المخمليون" من أصحاب السلطة والمال فهم في حمى عنه... بلد، فيه مثل هذه التناقضات في زمن السرعة،والعولمة واكتساح التكنولوجيا لكل المناخات، ماذا سيفــرخ غير من يستمريء حــرق نفسه ليبدد الظلمات.

محمد البوعزيزي أحرق نفسه، ولم ينته الأمر،الذي حصل هو أنه ترك إرثا ثقيلا لأنه علم الشباب كيف يهيئ لنفسه محرقته كما فنيق في الأسطورة تماما، الآن هنا وهنالك، في بلدان عربية مختلفة نحتار في أرقام المنتحرين من الذين يحرقون أنفسهم، منهم من مات، ومنهم من أكلته النار والناس من حوله حيارى في الظاهرة الغريبة وعلى ألسنتهم سؤال لا يعرف الجواب، فكيف يجسر المرء على إحراق نفسه؟ وهل تنقصنا الحرائق في أوطاننا العربية حتى يكون شبابنا حطبا لها؟..

إن الطائر الخرافي فنيق في الأسطورة اليونانية حين يقترب أجله يهيئ محرقته،فيدخل النار، ومن رمادها يفرع فنيق آخر..أنا أعتبر محمد البوعزيزي هو فنيق العرب،هو الطائر الذي غرد داخل السرب،ترنم وشنف الأسماع حتى الصماء منها، ومنح لكل الشباب جناحيْه، قال كلمته ورحل، لكنه ترك أثره، ترك رماده الذي من نسيسه ستشتعل نيران كثيرة، ستأتي على الأخضر واليابس إذا لم نفكر بجدية في بناء الإنسان بدل تكريس سياسة الهدم التي يجيدها زعماء العرب.

محمد البوعزيزي أحرق نفسه لأن حقوقه مهضومة، وأكثر لأن شرطية محسوبة على الجنس اللطيف صفعته، وبصقت عليه في الوقت الذي كان يرجو دعما، ويبغي كرما؛كرم،وكرامة،وخبز... لم يعرف وطنه يوما كيف يحققه له ولأترابه، وهو الذي يغرق في أوحال التوزيع غير العادل لثروات بلد هم جميع أبناؤه...

محمد البوعـزيزي أحرق نفسه، ولم ينته الأمر بمجرد دفنه، بل ارتفعت الحناجر وراءه، وبحت من صراخ، من أجل إسماع صوتها، لأن الصمت، والحال هذه، خيانة، لذلك أخلص أبناء تونس لشهيد 14 يناير، وملأوا الساحات والشوارع، وشغلوا بال كل العالم، المعذبين في الأرض خاصة.. لقد أخلص التونسيون لكل الأمكنة في البلاد حيث تركوا فيها أثرهم، ومن كل مكان حرصوا على أن ُيسمعوا صوتهم لكل العالم، وكذلك كان..، ولعل أول من توجس خيفة من أصوات حناجرهم هو الرئيس بن علي، ويبدو أنه لأول مرة يصيخ السمع لهم منذ 1987، وهذا ما يفسر حرصه على توجيه ثلاثة خطابات في أوقات قياسية، كان يسابق الزمن في الوقت الميت حسب تعبير معلقي كرة القدم، بيْد أن ضربة الجزاء الحاسمة من قدمه الهَــِرمة شاطت، وزاغت عن الشباك.
ولكنه مع ذلك أحسن السمع ليس لصوت هؤلاء فقط، إنما لصوت العقل الذي عبروا عنه، فقرر الرحيل، وسيظل الرئيس الوحيد في العالم على مرا لتاريخ الذي ُيقيله خضار بسيط.

و14 يناير تاريخٌ لم تصنعه إلا أفواه المعذبين في الأرض الذين خرجوا، وقد شمروا عن سواعدهم وقالوا كلمتهم، فكانت بحد السيف( رب كلمة قتلت صاحبها، وأحيت أمة)، ومحمد البوعزيزي هو صاحب الكلمة الفصل التي انتظرها الشعب التونسي طويلا، قالها ومات، لكن بها أشعل الشرارة التي اهتدت بها كل الأفواه من أترابه، وكل أطياف المجتمع التونسي،فظلت تردد شعارات على مدى أربعة أسابيع، تصرخ بضرورة تغيير المنكر، ورحيل الطغمة التي تستمريء الكراسي ليس لتخدم من صوّت عليها، إنما من أجل أن تطول أيديها حتى تتعلم الصفع في وجوه أبناء الشعب البسطاء كما فعلت الشرطية التونسية مع البوعزيزي.

حناجر رددت شعارات كثيرة، انتشرت في كل مكان، رابطت فيها، ظلت تصرخ، وتصرخ إلى أن أسمعت احتجاجها منْ بهم صمم، فدخلت التاريخ حين حملت رئيس تونس على التنحي، ومغادرة البلاد بعد أن عاث فيها فسادا.

وبعد،؟

وبعد انتفاضة شباب تونس هل سيستمريء الزعماء الميكروفونات، وهل سيواصلون ويكذبون على أبناء الشعوب العربية؟..

مادام هناك أصوات فليحذر كل زعيم من دويها، فيحين تصرخ الأفواه الجائعة تصبح كالسيل الهادر لا يبقي ولا يذر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى