الأربعاء ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم عبد المجيد العابد

التعولم الجديد واقتصاد الهيمنة

تعد العولمة في أبهى تجلياتها بناء اقتصاديا يتوق إلى جعل العالم قالبا واحدا يسوده نمط مخصوص في المعاملات الاقتصادية، بالرغم من أن العولمة لا تقتصر على هذا المجال الحيوي، بل تعدته إلى مجالات أخرى اجتماعية وإيديولوجية وسياسية وقِيمِية، كان رافدها الأساس الهيمنة والغطرسة.
إن العولمة، إذن، تقوم على الإخضاع والقهر، فمنذ أن تخلى العالم عن دولة الرفاه أواخر السبعينات، لم تعد الحاجة ماسة إلى بناء اقتصاد عالمي عادل يضمن لكل فرد حق الانتفاع وتحقيق الكرامة، حيث ركن الاقتصاد العالمي إلى المنافسة وفق قانون العرض والطلب، لا يسمح للبضاعة المزجاة بالاستمرار. وتكرس العولمة أسلوبها في الهيمنة الاقتصادية من خلال آليات ضرورية لذلك، كالشركات المتعددة الجنسية التي تغرق العالم بمنتجاتها وقِِيَمها، حيث لا تستطيع كثير من الدول النامية أن تقف في مواجهة منافستها الشرسة لمنتجاتها المحلية، كما تستنزف هذه الشركات خيرات الدول المستضعفة من موارد بشرية ومالية ومصادر للإنتاج.

وتستند الهيمنة الاقتصادية، كذلك، إلى البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين يعدان أساس التبعية المالية ومنها الاقتصادية لكثير من دول العالم الثالث على الخصوص، من خلال الإغراق الدائم بالقروض المرتفعة الفائدة التي لا تستطيع في معظمها تسديدها في وقتها ومن تم طلب إعادة جدولتها، مما يدفع هاتين المؤسستين الماليتين العالميتين إلى فرض سياستهما المعدة سلفا لمثل هذه الظرفية، حيث تحث الدول المدينة على تغيير سياستها المالية باعتماد التقشف الاقتصادي الذي يحد من القيمة الشرائية للمواطنين ويرفع من معدل الفاقة والحاجة للأفراد، وفرض سياسة التقويم الهيكلي، وذلك بعدم الاهتمام بالقطاعات غير المنتجة كالتعليم والصحة، مما يزيد الدول النامية أمية وأمراضا وأوبئة، وهذا ما سيرسخ فيها، لا محالة، التبعية الدائمة والمديونية المستمرة. ويكرس الهيمنة الاقتصادية، إضافة إلى ما سلف، اعتماد فلسفات اقتصادية أخرى كالتجارة الحرة (مؤتمر الغات) التي عصفت باقتصاديات كثير من الدول، ولم يقف تأثيرها السلبي على الدول النامية، بل إن دولا قوية كالولايات المتحدة أصبحت تشكو من المنافسة الشرسة لمنتجات دول أخرى كالصين، مما دفع بها إلى نهج سياسة تجارية شبه احترازية حفاظا على القدرة التنافسية لمنتجها المحلي، ودفاعا عن أمنها القومي.

وبالرغم من تحذيرات كثير من علماء الاقتصاد من مثالب العولمة الاقتصادية المتوحشة وسلبياتها إلا أن ذلك لم يَثْنِ دُوَلا كثيرة مستفيدة من التسابق على مناطق النفوذ أسواقا ومصادر للإنتاج والتسبب في أزمات لا تطاق، مما زاد من حدة المناوئين للعولمة في الدول المنتجة لها ابتداء من خلال اعتراض سبيل المؤتمرات المعولمة، وهذا ما دفع إلى عقدها في بلدان نامية مثل قَطَر بعيدة عن أصل التعولم الاقتصادي طلبا فقط لمرورها في ظروف آمنة.

ولا تقف العولمة الاقتصادية على الهيمنة فقط، بل إن لها أضرارا كبيرة على الإنسانية ما دامت ترى في العامل الاقتصادية البداية والمنتهى، حيث إن عدم تخليق الاقتصاد وجعله يتماشى والتنمية البشرية في الأصل حَشَرَ العالم في مشاكل بيئية كالاحتباس الحراري وندرة المياه ومشاكل الأمن الغذائي والتلوث...إلخ، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية التي بدأت بعقر دار المهللين بالعولمة (الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا...إلخ)، واندلعت فيها مواجهات وثورات عاصفة، وهذا ما اضطر هذه الدول المتقدمة نفسها أخيرا إلى نهج سياسة تقشفية كانت بمنأى عنها لولا التهور الاقتصادي المعولم.
إن هذه التأثيرات السلبية لاقتصاد الهيمنة ستدفع كثيرا من الدول إلى تخليق الفعل الاقتصادي من خلال الاعتماد على دعامة الرأسمال البشري باعتباره محور التنمية المستدامة، فبدأ العمل بالشركات الخضراء التي تحترم الشروط البيئية المدعمة من قبل المنظمة العالمية لمعايير الجودة "إيزو" بواسطة منح الشركات والمصانع التي تحترم شروط البيئة السليمة علامة الجودة، عبر ما تبذله من جهود في إعادة تدوير منتجاتها وتصفية المياه العادمة، وغيرها من الآليات الإجرائية للحد من التلوث البيئي، وكذلك الشأن بالنسبة لعقد مؤتمرات للحد من الاحتباس الحراري كما حدث مؤخرا.

ويعد المغرب من الدول الرائدة في تخليق العمل الاقتصادي من خلال نهج سياسة التنمية البشرية والاعتماد على الرأسمال البشري كقاطرة للنمو، حيث أصبح مضرب مَثََل في هذه السياسة الرشيدة (التنمية البشرية)، حيث أصبحت تستفيد منها دول أخرى(مؤتمر أكادير الأخير)،ويضاف إليها سياسة المغرب الأخضر وحسن تدبير الموارد المائية بمختلف مواردها، واقتصاد الطاقة المعتمد بالضرورة على الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية والطاقة الريحية (العروي)، وغير ذلك من الاجتهادات الاقتصادية التي تخدم التنمية المستدامة في بلدنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى