الجمعة ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم إبراهيم قويدر

«فوبيا» الثورة الشعبية

إن الانتفاضة الشعبية التونسية نورٌ حرك الأمل عند شعوب الأمة العربية، ورفعت همم المناضلين من أجل الحرية، نعم إن الانتفاضة في تونس شعبية مائة في المائة لم يصنعها العسكر، ولم تصنعها الأحزاب المعارضة في الداخل، ولا حركات المعارضة في الخارج، بل صنعتها إرادة أفراد الشعب المظلوم المغبون، هذا الشعب- أينما كان- هو جموع الناس البسطاء، الذين ليسوا من أعضاء الحزب الحاكم، ولا من أعضاء الحركات السياسية التابعة له، وأيضًا ليسوا من رجال الأمن الحامي النظام، ولا من رجال المخابرات. ففي أي مجتمع من المجتمعات لا تصل نسبة هؤلاء 30% من إجمالي أفراد أي مجتمع، في أكثر الدول بطشًا وتنكيلاً بشعوبها، وتظل نسبة الـ70% من السكان هم المواطنون الأغلبية، الذين يعانون الفقر والجهل والمرض، ويشاهدون بأمّ أعينهم نهب ثرواتهم وخيراتهم.

هؤلاء ليس لهم مصلحة سياسية، ولا يطمعون في الجلوس على كراسي السلطة، ولا يرغبون إلا في إحقاق الحق، وأن يعيشوا في وطنهم أحرارًا كرامًا؛ ينعمون بما يكفي حاجاتهم الأساسية من خيرات الوطن، وأن يتحقق لهم العدل والمساواة، فهم مع أي فرد أو جماعة تحرص على تنفيذ هذه الرؤى والأهداف الحقوقية النبيلة.

من ينظر إلى مكونات الانتفاضة الشعبية في تونس، يجد أنها كانت من هؤلاء، وبطبيعة الحال فقد كان للاتحاد التونسي للشغل وقياداته دور أساسي في تنظيم وتوجيه هذه الانتفاضة، باعتباره أقرب التنظيمات للشعب، وأكثرها إحساسًا بمعاناته، وأنا شخصيًّا أعرفهم معرفة جيدة، فكان دائمًا لهم رأيهم المستقل المنحاز للعمال والشغِّيلة ضد كل الممارسات الخاطئة التي يقوم بها أصحاب الأعمال- أو (الأعراف)، كما يسمونهم في تونس- حتى لو كانت هذه الممارسات وراءها وزير أو حكومة أو حزب حاكم، أو حتى قصر الرئاسة.

وأتذكر في أحد المؤتمرات العامة للاتحاد العام التونسي للشغل حضرتُ ضيفًا، وألقيت كلمة في الافتتاح، ووجهت في البداية التحية إلى رئيس تونس، وبمجرد أن بدأت بذكر الاسم عمَّ القاعة هتافٌ من قِبَل كل الأعضاء: "الاتحاد مستقل.. مستقل"، مما جعلني أستدرك الأمر، وأقول: "أنا احترم استقلالية الاتحاد، وأعلم أنكم مستقلون، وأنتم نموذج لاتحادات العمال العربية، ومعكم لبنان؛ ولكن واجبي الرسمي يحتم عليّ في خطاب مثل هذا أن أوجه في بدايته التحية لتونس رئيسًا وحكومة وشعبًا".

وشهادة للتاريخ، فإن الاتحاد العمالي الوحيد في الوطن العربي الذي كان- وما زال- يمثل إرادة عماله، وتنتخب قياداته بحرية وديمقراطية، ولا يتبع السلطة التشريعية، أو التنفيذية- هو الاتحاد العام للشغل في تونس، ثم يأتي بعده من حيث الاستقلالية الاتحاد العام للعمال في لبنان، غير أنه يقع في مطب التأثر بالوضع الطائفي في لبنان؛ وفقًا لانتماءات قياداته الطائفية والحزبية.

إذن، فالثورة الشعبية التي انطلقت في الرابع عشر من شهر يناير عام 2011م رفَع شُعلتَها كل المحتاجين: كل الناس البسطاء، وبالتالي فقد كان التخوُّف من أن تُسرق الثورة بعد انتصارها، عندما ظهرت الأحزاب المعارضة في وسائل الإعلام تريد أن تساهم في هذه الثورة، فمنهم من هو صادق، ومنهم من يريد أن يكون له موطئ قدم في العهد الجديد.

والتخوف الثاني هو: محاولات القيام بثورة مضادة، وهذا تخوف وارد؛ لكن الأيام بدأت تظهر لنا أن الشعب الذي خرج مازال جاهزًا ويراقب الوضع، ومازال على استعداد للخروج إلى الشارع للدفاع عن ثورته ضد أية محاولة لسرقتها.

ونصيحتي هنا للأحزاب المعارضة في الداخل والخارج: اتركوا الشعب يواصل مسيرته الثورية، ولكم يوم الفصل في الانتخابات الحرة أن تقدموا برامجكم وتوجهاتكم ومرشحيكم، وحتمًا فإن هذا الشعب الواعي سيختار الأفضل بعين بصيرة متأنية علمتها التجارب ما ينفعها وما يضرها، ولن يضحك عليها أي مستغل مرة أخرى تحت أي شعار من الشعارات المزيفة.

هذه المقدمة كان لا بد منها للوصول إلى لبّ الموضوع، وهو انعكاسات الثورة الشعبية في تونس على المنطقة، حيث ظهرت بوضوح "فوبيا الثورة الشعبية"، وبدأت أنظمتنا العربية في إعادة النظر في ارتفاع الأسعار، ودعم السلع التموينية، وتخفيض أسعار المواد الضرورية، وصدرت في كثير من الأنظمة تعليمات مشددة لرجال الأمن بحسن التعامل مع الناس وعدم استفزاز المواطنين، وبدأت على قدم وساق الاجتماعات الأمنية والاقتصادية من أجل حل مشاكل الناس، والشباب منهم خاصة، وتقديم التسهيلات والقروض وحل مشاكل البطالة.. وبلغت قمتها في القمة الاقتصادية في الايام القليلة الماضية بشرم الشيخ ،التي أعلنت عن إنشاء صندوق لدعم وإقراض الشباب في المشروعات الصغيرة.

وأتذكر هنا واقعة- لابد لي أن أذكرها- أننا كنا في منظمة العمل العربية في عام 2002 قد وضعنا أيدينا على أن مشكلة البطالة في الوطن العربي تحتاج إلى تعاون كبير بين الدول العربية من أجل حلها، ولذلك وضعنا مشروعًا بعنوان "المشروع الفنى العربي لتشغيل الشباب"، وكان هذا المشروع يستهدف إنشاء شبكة معلومات في كل الدول العربية يتم ربطها بمقر المنظمة، ويتم من خلالها تقديم كافة البيانات المتعلقة بالباحثين عن العمل في الدول العربية، وكذلك احتياجات الدول العربية الأخرى المستوردة للعمالة والتنسيق في تشغيل الباحثين وفقًا لاحتياجات السوق العربي أو القيام بتدريبهم من قبل دولهم؛ لكي يكونوا قادرين على العمل في المهن المعروضة في الدول العربية التي تستورد العمالة من الخارج، وكانت موازنة هذا المشروع مليونًا وثمانمائة ألف دولار.

وقمت شخصيًّا بشرح المشروع ووضعت خطته، وسلمت ملفه لعدد من القادة العرب مباشر،ة كما أرسلته إلى الباقي منهم بالطرق الرسمية، كما أنه كان قد تم عرضه قبل ذلك على وزراء العمل العرب، وعلى لجنة تنسيق العمل العربي المشترك، وتمت الموافقة عليه. ورغم المتابعة الدائمة لإنجاح هذا المشروع، والتنبيه المستمر على أهميته وخطورته؛ إلا أنني خرجت من المنظمة في عام 2007م، ولم يصلنا دولارٌ واحد؛ لكن وصلنا ردٌّ واحدٌ من حكومة دولة الإمارات، أفادونا فيه أنهم يدرسون الموضوع!

بطبيعة الحال، فإن "فوبيا" الثورة الشعبية حولت بقدرة قادر المليون وثمانمائة ألف إلى مليارين.
ومع ذلك فأنا أتمنى أن تسند الجامعة العربية هذا الصندوق إلى يدٍ أمينة؛ لكي لا يحدث له ما حدث لبعض صناديق المشروعات التي سرقها من كُلف بإدارتها، الأمر جدُّ مهمّ؛ لأن هذا الصندوق يمكن له أن يمول الصناديق الوطنية في الدول الفقيرة بالوطن العربي المهتمة بقضايا إقراض الشباب.

وعمومًا، فإن "فوبيا" الثورة الشعبية حسنةٌ منَّ الله بها علينا، وسخر لنا شعب تونس الأبيّ لأن يكون الوسيلة؛ لأنني أعتقد أن الخوف من ثورة شعبية، جعلت- وستجعل- كل الأنظمة تراجع أنفسها، وتحارب الفساد وإهدار المال العام، والتوجه نحو الحريات وصون كرامة المواطن.
لكن هل ستنتقل العدوى؟!

كثير من المحللين والكتاب السياسيين يرون أنها بداية لانتفاضات شعبية ستحدث في الدول العربية، وحتى الأنظمة العربية أصبحت- كما أشرت- تقوم بالإجراءات الكفيلة بتطعيم نفسها وتخدير شعبها؛ لكي لا تنتقل العدوى.

ومن الناحية الموضوعية، فالمجتمعات العربية تختلف عن بعضها البعض من حيث البناء الاجتماعي، ومن حيث البناء والتنظيم الرسمي لكل بلد، والشكل السياسي، ومساحة الحريات الخاصة بالرأي تختلف- هي الأخرى- من دولة إلى أخرى، ولذلك فإن شكل الانتفاضة الشعبية حتمًا سيختلف محركوه من مكان إلى آخر، وما حدث في تونس- باعتباره نموذجًا للثورة الشعبية- ليس بالضرورة أن يحدث في أقطار أخرى بنفس شكل النموذج التونسي؛ لكن التغيير آتٍ لا محالة؛ لأن دأب الناس وديدنهم ينزعون إلى التغيير، ومن خلال التاريخ الإنساني فإن لكل طاغية نهاية.

على أية حال، إن إدراك الأنظمة الرسمية العربية أهميةَ القضايا الاجتماعية: البطالة، الزواج، السكن، ولقمة العيش. هي من الأساسيات التي تشعل فتيل الثورة الشعبية، وخاصة إذا التقت مع: إهمال مطالب الناس وعدم احترام آدميتهم، وانتشار الفساد ونهب الأموال، وظهور الغنى الفاحش، وانتشار الواسطة والمحسوبية، وقصر الرفاهية الاجتماعية على فئة بعينها أو قبيلة بعينها أو جهة بعينها. فمجموع هذه العوامل السياسية تحركها في الأساس وتفجرها العوامل الاجتماعية؛ لأن الإنسان من الممكن أن يتسامح في خطأ حدث له، أو ظلم في المعاملة وقع عليه من رجال النظام؛ لكن الأمر عندما يصل إلى لقمة العيش والمساس بمستقبل الأبناء والأسرة وحياتها الكريمة من: مسكن لائق، وتعليم متطور، ورعاية صحية فاعلة، فإنه لن يسكت، ولن يتحمل، وسيخرج ثائرًا إلى الشارع ليضيء لنفسه شمعةً تطيح بعصور الظلام والاستبداد والقهر.

فعلى كل من يرتعدون الآن من "فوبيا" الثورة الشعبية أن يعوا جيدًا أنه لا جدوى من التقليل من خطورة هذه "الفوبيا"، إلا بإحقاق الحق وإلغاء التمييز، وأن يكون الناس سواسية في كافة الحقوق، وإشراك أفراد المجتمع في تقرير مصيرهم بحرية تامة ونزاهة تامة، وإلا فإن "الثورة الشعبيه" التي تخافون منها الآن ستلتهمكم نارها غدًا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى