الأحد ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١

ب (تونس) بيك

د. لمى محمد

وفي قرطاج (بيك) ولهذا (البيك) حكايا كثيرة تُعد بأكثر من ألف ليلة وليل لا صبح فيه...

وفي تونس (بيك) له كيس كبير فيه ملايين الجواهر المصاغة من عيون الصغار، وأساور العرائس العوانس.

وفي قرطاج حكاية الحكايا التي تبدأ ولا تنتهي.. تزرع بوارق أمل بنور أحلى من كل الصباحات.

**********

هنا في الولايات المتحدة الأمريكيّة تأتينا أخبار تلك الأوطان بزاد وقوت يبقي على حياة تلك الجلسات المملّة التي ندفعها ضريبة باهظة لابتعادنا عن جلساتنا الحميمة..عن أهلنا.. عن أصدقائنا، وعن أحبة قلوبنا.

نكتشف أننا في هذا البلد البعيد استرجعنا قدرتنا على الإبصار ..واكتسبنا حقاً مشروعاً بالإعتراض.

نكتشف أننا ظلمنا أوطاننا بابتعادنا عنها، وندرك فجأة أنها قدرنا.

**********

لبس «بوعزيزي» سرواله القماشي المكوي بأناقة، وعقد ربطة عنقه الحمراء.. ولم ينس أن يلّمع حذاء الجلد الأسود الذي قلما يتسخ في سيارته الخضراء.

كان عليه أن يتوجه إلى مكتب رئيس البلديّة قبل ذهابه للعمل في محله الصغير و مصدر رزقه، وهكذا قبّل زوجته وطفليه وغادر شقته البسيطة المريحة في تمام الثامنة صباحاً.

استقبله رئيس البلدية بوجه مبتسم، ووعده بدراسة شكواه حول الضريبة الكبيرة التي يدفعها لمحله الصغير.

غادر «بوعزيزي» مكتب رئيس البلدية مبتسماً، يشكر ربه على عيشته الكريمة وعلى كرامته الغالية.

هذه هي الصورة التي كنّا ملزمين بتصديقها لولا (البنزين) وعود الثقاب.

وباشتعال الحقيقة مع جسد «بوعزيزي» بدأ البحث عن سخائف أخرى:
 يقال أنه لو لم تكن من صفعته «أنثى» لما كان قد أحس بالإهانة.. هذه نتائج تحرر المرأة.
 أعتقد أنه مريض نفسي، مختل يحرق نفسه من أجل (بسطة) خضراوات.
 ليس لديه شهادات.. فعلته تنم عن قلة مؤهلات.

ملعونة هي الكنايات والصور...
نحن لا تؤمن بالكناية، ولا بالإستعارة، ولا بالتشبيه ..نحن شعوب منسلخة تماماً عن قواعد ودلالات اللغة العربية.. لأنها للأسف بعيدة بمعظمها عن القراءة والكتاب.. ليس لجهل ولا لغرور بل لفقر حقير يجعل من الرغيف سيّد الكتّاب، ومن اللحم معجزة أدبيّة.

لذلك أحرقوا في ذاكرتكم كل ما قلته واسمعوا معي:

لم يضطر «بوعزيزي» لتغيير ملابسه، فهو معتاد على النوم بذلك القميص فاقد الأزرار، والسروال العتيق.

نهض في الخامسة صباحاً، وضع معطفه القديم عليه، وحاول قدر الإمكان الاعتناء بهيئته، فخبأ زريّ القميص المفقودين تحت السروال، ووضع ياقته المهترئة تحت المعطف.

نظر إلى نفسه في المرآة.. التجاعيد بدأت تأكل وجهه الشاب، تحكي قصة البنت التي أحبها ولم يستطع تأمين مهرها.. حدّث مرآته: الله سيرزقني أفضل منها...

هكذا اعتاد أن يكذب على نفسه كل صباح، ليمنح روحه دفعة حياتية جديدة.

خرج من تلك الغرفة ومنتفعاتها - التي يعتبرها بيته-.. حرص ألا يصدر صوتاً يوقظ أمه المتعبة، وأخيه الأصغر.
برد هذا الصباح مرّ.. جيوبه المثقوبة لم تحمه من تذوقه، حرك أصابعه قليلاً : إلى العمل.. يا رب.

في سوق الخضار، كانت الحياة أخرى، ثانية.. ازدحام فظيع، اكتظاظ مليء بالغضب، السباب، و الكلمات النابيّة، سوق الخضار مشحون و ضيّق كأرواح جميع من فيه.

حمل خضراواته على عربته الخشبية العتيقة، وتوجه إلى تلك الناصية حيث اعتاد الوقوف معتزاً بشرفه الذي حافظ على فقره ولم يدفعه للحرام...

كانت سيارات (المرسيدس) و(اللكزيس) التي تمر بين الحين والآخر تهيج في نفسه مشاعر متناقضة من الغضب والدهشة.

عندما رأى « سعدي» يطل من شباك إحدى تلك السيارات.. عُقد لسانه .. ف«سعدي» ابن حارته المنتوف الهزيل الذي ليس لديه حتى عربة خضراوات خشبيّة.

ولم تستمر دهشته مطولاً قبل أن تصل «فادية» شرطية الشارع التي اعتادت مصادرة عربته البائسة.

« فادية» لم تفكر يوماً بأهمية القوانين ووجوب تطبيقها على الفقراء الشرفاء، كان فقرها هي الأخرى حجاباً منيعاً يجعل من تحصيل قوتها المهمّة الوحيدة التي تحتاج إلى تفكير.. لغة الحوار المنقرضة في ذلك البلد كانت مفقودة بينهما أيضاً..احتد النقاش .. وهوب ..صفعة مدويّة على وجه «بوعزيزي».

ذكريات مريرة من الصفعات استقبلها خده مع تلك الصفعة، مرارة وفقر وذل دفين..ليس من سبيل لنسيانهم سوى حرقهم.

اسمحوا لي يا أيها المعترضون.. فالثورة ليست للياسمين إنها ثورة الفقر..ثورة الحوار المقموع...

ثورة على قيادة عسكرية ل (كوافيرة) وهارب من المدرسة.. ثورة حفظت اسم قرطاج من أن يقترن بتاجرة (شنطة)...

**********

الآن في مصر بوعزيزي ثاني وثالث ومليون .. ثورة أخرى ..تقول لا للفقر أيضاً، لا للذل، لا للجدار الفولاذي..ثورة سينتج عنها هرب أحدهم إلى بلاد لا تقطع يد السارق إذا كان زعيماً...

د. لمى محمد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى