السبت ٥ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم أسمى وزوز

في مفترق خريفيّ

 

لقاءٌ غريبٌ في مساء لم يكن كغيره منذ أعوام طويلة، مساء يثقلني ويُشجيني ويُقلقني. ساعاته ليست كالساعات، ودقائقه ليست كالدقائق.

لم أكنْ على موعدٍ مع القدر بأن أتخيلَ لقائي به بعد كلِّ تلك المحطات التي تهنا فيها عن العناوين والأمكنة.

كان هذا المساء حافلاً بعطر رؤياه وبعبير ذكراه، ربما ليتعمَق في كل ذرة في كياني بعدما صارعني زمن الفرقة، وأتاهتني ضَبابية الطرق عن عنوانه. وربما ليرسم على جدار المغيب صورة للقاء مفعمٍ بالوجد والحنين لماضٍ احتلَّ الذاكرة.

ثمّةَ ساعات تأتيك بغتة وتعيشها بما لم تكن تتخيله، وثمة أمكنة تقودك إليها دون خيار منك، وثمة أنفاق في ذاكرتك تعبُرها دون تحديد منك، وثمّة أشياء تمر معك لا تجد لها تفسيراً، وثمّة إشارات تنبئك بما لا تعلم.

في ذات يوم صيفيّ من شهر تموز كنت أجلسُ على مكتبي في البيت أجالس أوراقي ووحدتي، فإذا بإحساسٍ غريبٍ يتملكني ويشجيني بألم شوق واندفاعٍ لسماع صوته ورؤيته، لم أستطع مقاومة هذا السيل الجارف من ذلك الإحساس.
صعبٌ أن تشتاق لحبيب ودعك وداعاً أليماً لا رجوع بعدَه،أسكنتَه عمق ذاكرتك وربما أسكنك في واجهتها.

كثيرٌ من الآلام استوطنَت عمقي في تلك الساعة، لم أذكرْ أني كنتُ بشوق له كما شعرتُ مثل هذا اليوم، لم أحتملْ هذا الجيشانَ العاطفيّ اللامحدود فشرعتُ بالاتصال به على مكتبه، حيث كان يعملُ محامياً في مدينة القدس، ولم يُجِبْ، وحاولت عشرات المرات دون جدوى.
أخذت أُشغل نفسي بالقراءة تارة، وبالكتابة تارة أخرى، فلم أستطع أن أخمد ولو جزءاً من هذا التدفُق النفسيّ الهائل.

بكيت طويلاً.... ثمّة حزن يسكنك عمراً ويصبح جزءاً من كيانك، وثمّة دموع تحفر أخاديد في حياتك.

ومضى وقتٌ طويلٌ، وأنا بقلق لا أجد له تفسيراً فإذا بهاتفي يرن، وما كدت أرفع السماعة حتى جاءني صوته، لم أصدق! المفاجأة كانت أعظم من قدرتي على فهم ما جرى؛ وذلك لأن كلا منا يحاول محادثة الآخر دون علم لأي منا بذلك.

صمتُّ وشردتُ بفكري بعيداً، فأخذ يسألني:

 هل أنت بخير يا صمود، ما بكِ؟
 بخير يا عمر...أين أنت؟
 أنا لست بالقدس جئت في قضية من الصباح إلى هنا فهل نلتقي؟
 نلتقي! بعد ثلاثة أعوام سأراك؟
 أتدري أني منذ ساعات وأعماقي تفيض بشعور يتيهني ويقلقني عليك
كأمواج تتلاطم وتتكسر على شاطئ قلبي. فكم أفتقد رؤياك!
 هل تدري أني أحاول الاتصال بك من ساعات على مكتبك ولم ترد.
 حقا! أيكون ذلك ما يسمونه الهتاف الروحي؟!
 ربما!

وأغلقت الهاتف، أصابني ذهول كبير، لم أسأله عن المكان الذي سنلتقي به ولا الوقت.
أخذني الشرود بعيداً، من اللحظة التي تقابلنا فيها أنا وعمر، حيث كنا في نهاية الابتدائية معاً، وفي كثير من الأوقات كنا ندرس سوياً، وكان مبدعاً في كتابة مواضيع الإنشاء، وفي ذات يوم طلبت المعلمة منا كتابة موضوع عن حرب العراق مع إيران، ولم أكن أميل إلى الكتابة في مثل هذه المواضيع، فكتب لي موضوعا أخذت عليه أعلى علامة بين طالبات صفي
ولم تكن المسافة بعيدة بين بيتنا وبيته، وكانت هناك قرابة عائلية بيننا لذلك كبرنا معاً.
وأصبح عمر شاباً جميل المظهر: عيون بُنية اللون تجذبك بسحرها وبشرة ذات سمرة وشعر بنيَ داكن، ومنكبين عريضين وطولٌ متوسط.

وأخذَ يسكنني وأسكنه ويوماً بعد يوم حتى صرّحَ كلٌ منا بمشاعره للآخر وبدأَت حكايتنا مع السنين والشهور والأيام والساعات.

أراه في كلِ شيء ويراني في كل مكان، وكانت الخمسُ سنوات التي لم نغبْ فيها عن عيون بعضنا هي الربيعُ الذي لا يأتي بعدَه خريف، ولكن... ماذا بعد لكن؟! بعدها كان الكثير من الألم والخيبة. سافرَ إلى الخارج بقرارٍ من والده هو نفسه لم يدركْ سببَه فأرسله عند أخٍ له في الكويت ليعيشَ عندَه ويكملَ دراستَه.

ولم يكنْ رفضَه هذا الأمر بالشيء السهلِ، قاوم ولم يُجْدِ ذلك نفعاً أمام حزم والده.
وهكذا دخلتُ أنفاق عُتمة الحياة، لم يبق قنديل واحد يضيء تلك العُتمة.
كل الدروب موصدة، وكل الأحلام أصبحت مبعثرة، لا مَوْقد نستدفىء به في أمسيات الشتاء، ولا عبير لقاء يفوح في جنبات المكان.

ومضت الشهور، كثير من الشهور بلا خبر عنه، سوى رسالة حملت حرقته وضياعه ودمعه أرسلها مع قريب له يصف فيها آلامه وضنى روحه، وأنه حتماً سيعود وهو باقٍ على العهد.
وتوالت السنون حتى أكملتُ دراستي الجامعية في قسم الخدمة الاجتماعية وكان معي طيفاً وروحاً في كل المفترقات، ذكرياته تؤْنِس روحي أينما أكون.
كنتُ مميزةً في شخصيتي لا أشعر أني أشبه من حولي بقناعاتي أو ما أحب أو أكره أو ما أرنو إليه أو أحيد عنه.

كنتُ متمردة على كثير من النظم الاجتماعية التي لا تعطي الفتاة حقها في التعبير عن رأيها، أجدُ عندي الجرأة في قول لا لكل ما لا أقتنع به ودفعتني تلك الشخصية لأن أكون مستقلة في قراراتي وطموحاتي لا أهاب أي شيء في تحقيق ذاتي.

ومن هنا لم أكترث بمرور الزمن وأنا أنتظر عمر دون علم بما آلت إليه الأيام، ولكن هناك أقداراً تحتم عليك ما لم تفكر يوما قبوله ولا تعطيك فرصة الاختيار، وإنما تضَعُك تحت جبروتها لتفعلَ ما تشاء.

وهذا ما كان، في منتصف الطريق فقد عُرِّيتُ من أي قوة للرفض، وأُدخِلت إلى عتمة الموت لأختار دون تردد "الزواج"، لم يكن هناك أبواب تُفتَح إليّ بعد مرض أمي الذي كان مصارعاً لها مع يد الموت ولا وجود لأب يحتضنك بالأمن وبذلك انتُزِعت مني الرغبة في الحياة، كل شيء أصبح معتماً.

أشتَّم رائحة الموت في كل الدروب، ولم يكن زواجي موفقاً، حيث امتلأت ذاكرتي بعمَرْ، ولم يكن أي رجل آخر قادراً أن يحتلّ ولو مكانا صغيرا في قلبي غيره.
تخيل أنك تعيش مع إنسان وكيانك ممتلئ بإنسان آخر تهتف باسمه وتحيا بأنفاسه، ولو كانت تأتيك من أقصى بلاد تمُدّك بالحياة وتروح.

كبرتْ متاعبي ومعاناتي في ظلِ زوجٍ لا أشعرُ إلا بأنانيتهِ ومزاجيته، وكلما حاولتُ التعايشَ معه ازددتُ بُعداً عنه، وأخذتُ ألملم بقايا نفسي المنكسرةِ حيناً وحيناً آخر أتصبّر بقليل من الأمل، مغتربةً عن ذاتي، وبقينا هكذا كل منا يعيش دنياه بمفرده حتى انفصلنا وذهبَ كل منّا في طريقه، واعتدْتُ على هذه الحياة. فثمّة آلامٌ تعتادُ عليها وتفتقدها إذا غابتْ عنك.

الريحُ عصفتْ بكل شيء، عبارةٌ وصلتني منه بعدما قدمَ من السفر وعرفَ عن زواجي، لم يحتمل ذلك وتمنى لو لم يعد، ومن هنا بدأت غربته الحقيقية، تلك الغربة التي احتلتني واستوطنت كلَّ كياني من أولِ يوم رحلَ فيه.

كم من الفرص نضيِّعها بإذعاننا لأقدارنا، وكم من الفقدان لذاتنا يرافقُنا في دروبنا ومفترقاتنا، غريبة هذه الحياة عندما تنتظرها يأتيك الموت على غير موعد، فكم من الأحباء خطف منا، وليس الموت وحده؛ بل السفر كذلك يأخذ أحبابنا ولا يعيدهم إلا بعد أن تُمحل قلوبنا في مفترق خريفيّ لا يوجد فيه إلا الأوراق المتساقطة الصفراء التي تتناثر هنا وهناك.

وكذلك كانت عودة عمر لي بعد غياب عشرة أعوام في مفترق خريفيّ.

آهٍ ما أشد إيلام الغربة! تحكم عليك دهراً وتستوطنك زمناً بالقهر، جاء صوت عمر في ذاكرتي من بعيد "أين أنت يا صمود" فانتزعني من شرودي، ولملمتُ أوراقي وكتبي، وكان قد مرّ وقتٌ وأنا لا أدري كيف لم أصْحُ على ذلك.

فأسرعت بتغيير ملابسي، ونزلت من البيت، وأوقفت عربة لتنقلني إلى قلب المدينة، حيث كنت أسكن بعيداً عنها، ووصلت.

ووقفت لأنتظره على رصيف يعجُّ بالناس والعربات، وأصوات الباعة تتعالى وتتداخل بأصوات المارة وصنوف من البضائع تزخر بها المحلات التجارية.

لم أشعر بارتكاز على الأرض، أحسست وكأن الطريق قد فرغ من كل شيء، وقد هلّت طلته من بعيد، ها هو عمر أتى بعيونه التي أقرأ فيها سطور حكايتنا، وتأملته وهو قادم، وعيونه تخاطبني بشوق، وكان فرحه ينتابه حزن وخلف ابتسامته تكمن دمعه.

في هذه اللحظة سافرَتْ ذاكرتي بقطار سريع قطع طريقاً طويلاً إلى الوراء، إلى ذاكرة الطفولة غير المنسية، ولكني الآن أراه عبْرَ نوافذ الماضي التي لا ولم تغلقْها رياحُ الحاضر.
حَضنني بوجدٍ عينيه ولهفة حنينه.
 اشتقت لكِ......
 وأنا كذلك تقتُ لرؤياكَ....
 ما بك شاحبة اللون على غير عادتك هل أنت مريضة؟
 لا أبداً ولكني متعبة قليلاً.

ومشينا سويا لا ندري إلى أين سنتجه، صمتنا معا، فكم من الذكريات حامت في مخيلتي.
وبينما أنا مسافرة بذاكرتي فإذا به يخرج من صمته وذهوله ويسألني:
 أين سنذهب؟
 لم أجبْ، صمتُّ وأخذتُ أفكر بمكان يسكن ويعشعش فينا ولو لساعات.
 البيت القديم الذي شهد طفولتنا وصبانا وحكاية حبنا !
 وهل يسكنه أحد؟
 جيران قدامى في جزء منه، والآخر قد تهدمت بعض جدرانه من القصف أيام الانتفاضة الثانية.
 وشجرات الزيتون؟ وحوض النعناع والحاكورة التي تتدلى فيها قطوف العنب؟ هل ستحكي لنا حكاية ونسمعها قصتنا؟
 نعم يا عمر سنسْمَعُ في كل مكان صوت الماضي.

ركبنا العربة وسارت بنا وقلوبنا كميناء ترسو فيه مئات السفن، حتى طلب من السائق الوقوف دون أن أدري لماذا!

وترجلنا، لم أسأله لماذا نزل في المنتصف، بل كانت الطريق هي التي تخبرني وتقول لي: كم مشيتم هنا! وكم وقفتم على أرصفتي! وافترقتم على مفترقاتي.

 أجل إنها شهدت خطواتنا ونحن نلهو ونلعب في العيد وبعد العيد.

لا يوجد مكان إلا وفيه ذكرى نقف في كل خطوة نتسامرمعها، تصافِحُنا ونصافِحُها ونستجديها بأن تدوم ولو لساعات، حتى يعود الماضي كله.

 ومشينا نتأمل، وطيور الماضي محلقة أجنحتها فوقنا، ونحن نناديها علّها تطير بنا ولا تعيدنا إلى الحاضر.

كل منا فرحَهُ مظلَلٌ بغيمة حزن ممطرة بدموع صمت بين اللحظة والأخرى.

وطلّت شُرفات البيت من بعيد، ولوحت لنا أغصان الزيتون مرحبةً بنا أحباباً طال غيابُنا عنها.
ها هي ما زالت تذكرنا، وهي تُظللُنا بأوراقها، ونحن متكئون على أغصانها، فما زالت تبكي حنيناً لقصتنا، وما فتئَت تعاتبنا على فراقنا، فهي مشتاقة لأن تضمَنا كما ضمتنا قبل أعوام بعيدة، وها هي الجدران التي طالما قفزنا عنها قد تصدَّعت من برد الاغتراب وصقيع الفراق.أخذت تبكينا بدموع فرحة اللقاء، صافحناها فعانقتنا بشوق وحنين.

نظرت إليه فإذا هو فَرِحٌ بحزن ومبتسمٌ بدمعةٍ ومُتأوِّهٌ بصرخه، يُطلق الزَفرةَ وراء الزفرة، ويُخرج الآهة تلو الآهة، وكأنه لا يصدق رؤية المكان الذي طالما حَفِل بلقائنا أعواماً طويلة.

فقد تربى فيه وترَعرَع في ظله طفلاً وشاباً، فالمكان هو المكان رغم ما بَلِيَ من الجدران وما تهدم من بعض البنيان.

ولم نتركْ أي ركن في المكان إلا واستذكرنا فيه كلَّ شيء منذ كنتَ شادياً الذي تغنت به فيروز إلى المسافر الحامل حقائب الذكرى على كتفين أتعبتهما الغربة.

كثيرٌ ما يفقدُنا الزمن حميمياتنا، قلتُها له عندما اخترق صمتي بسؤاله:
 هل تذكرين هذا الجدار الذي جلسنا عليه أعواماً نقصُّ القصصَ ونروي الحكايات؟ هل تخيلتِ سفراً في ذلك القطارالذي يحملنا عبر محطة بعيدة عن الحاضر وآلامه.
 لا لم يأتِ في خاطري عبر السنوات الراحلة سوى دمعة الرحيل والخشوع لترانيم الذكرى، لكن لم أكن أصدق أننا سنلتقي يوما في هذا البيت لنقرأ حروفا حفرناها على ذلك الجدار بعد الفراق الطويل ولو لمرة واحدة، لم أتخيل مصادقةَ القدر لنا ليغمرنا بلقاء بلا موعد.
 صمودُ، كل ما في نفسي يمنعني من الدُّنوِ من الحاضر، يا لها من مأساة وملهاة. هل هذه حماقة؟! 
 ربما تكون كذلك يا عمر، خيبات الزمن تجعلنا نتصادق مع الحماقات لنشعرَ بوجودنا الأول والأخير.
مرت ساعتان يا صمود، دقائقها جمرٌ ولهيبٌ أشعلني بالحنين لكل شيء في هذا البيت، لسطحه وجدرانه وحبات زيتونه، لغيمته وشرفته وشرفته، ولكن لا بُدَّ وأن نرحل.
 عمر، هل ستعود ثانية إلى هنا؟ أدري أن الساعة تدقُّ لتنذرنا بالرحيل ولا بُدَ للمحطة أن تتبدل.
 سأعود يا صمود ما دام فيّ حنين لذكراك.

وبدأ الظلام يفرد جناحيْه، وأخذنا نودع كل ركن بقلوب خافقة وعيون حزينة، نتأمل كلَّ شيء: الشجر والحجر والثرى والأغصان والجدران، ولم نترك مكاناً إلا سلّمنا عليه سلام المودع المرتحل.

وغادرنا كل شيء، وكلٌ منا يحمل في ذاكرته مدينةً بأسوارها وبنيانها وناسها، ولكن المدينة الآن خالية من كل شيء سوى الجنود الذين سيطروا على جزء كبيرمنها، ولا شيء أمامك غير أسلاك شائكةٍ تقسِّم الطرق، وبيوت تفرغ من ساكنيها وتعمر بغير أهلها.

وهو صامت، خيّم عليه شعور بصمت مطبق، هكذا هو، يصمت في أوقات أحتاج فيها لأي كلمة منه.

أخذت أحادث الطريق في مدينة تنام مبكراً، فالسَّمَرُ لم يعد جزءاً من يومياتها، فقد مات السُّمّار، ولم تعد قصص تروى عند أهلها.

لم نستطع احتمال هدوئها المغتصب، فأشار إلى عربة أَتتْ من بعيد وركبناها بشتى المشاعر التي تؤججنا.

حُزْنُ فرحتِنا بدأ يتسلل إلينا، دقائقٌ ويذهب كل منا في طريقه ودنياه، ألمٌ شرعَ يحيط بكل ضلوعي، وكان لا بُدَّ أن أقاومه كشريد لاهث يصارِع طريقاً لا يجد باباً يطرقه ليلتمس فيه أمناً يلجأ إليه.

وبينما أنا أتجول في غابة حزني، ناجتني فرحتي المسروقة أن لا أضيعها، وأكون معها في عمرها الذي أشرف على الذبول، وكذلك قرأت فيه كل ما أشعر أنا فيه، كانت عيونه تحمل سُفناً من الذكريات التي اقتربت من الشاطئ لترسو عليه، وبصوت ممتزَجٌ بِغَصّة الألم سألته:
هلّا أقدم لك شيئاً كجزء من ذاكرتي.

نظر إلي بشرود وصمت قائلا:

 لقد قدمت لي عمرك ولم أَصُنْه فما الذي ستقدِّمينه بعد؟
 ساعة يدٍ تحمل نبض قلبي في كل دقة من دقاتها، تحمل زمناً أثقلني بالمتاعب لبعدك عني وغربتك، وثوانيها جمرات اكتويتُ بنارها.
 أجل بل كان عمراً من الضياع يا صمود.

ومدَّ يده، فوضعتها على معصمه، فأخذ يتأمل بها رغم ضوء السيارة الخافت، وقلت له:
لتبعثَ الماضي الذي في قلبك كلما مات.
 صمود، تقولين كلما مات! لم يمتْ في يوم رغم السفر والغربة، فكيف يموت الآن بعد أن تعمّق بأخاديد وأنفاق سريّة أُسْكِنُهُ فيها!
 لحظات السعادة في هذا الزمن غير مسموح أن يُطمَعَ فيها يا عمر. ربما أحتاج إلى المزيد من قواميس اللغة لأن أبحث عن مُسَمّىً جديد للحظات هذا المساء.

نزلنا من العربة والظلمة تتهادى علينا من كل جانب، وكانت اللحظة الأخيرة لحظة قاسية كأنها الحلم الذي يوقظك من نوم هادئ.

شعرت بإحساسٍ ممتزج بالألم، لحبٍ مقهور في مدينة تُنَوَّمُ فيها الأحاسيس.

طلب من السائق انتظاره دقيقة أخيرة، وتَرَجَّلَ مودعاً وكان وداعه لي كراحل إلى بلاد بعيدة.
 عمر، لا تنس هذا المساء الذي كان بعد عهد من الزمان، احفره في عمق ذاكرتك.
 أنت يا حبيبتي وهذا المساء ستكونان المحطة الأخيرة التي سأضع فيها أمتعتي، وأنهي فيها سفري وغربتي.

ودعته ومشيت، وأخذ يلوِّحُ لي بيده مؤججاً داخلي بمشاعر شتى حتى وصلت بيتي، ورميت نفسي على الأريكة، وبكيت طويلاً، كان لا بد من البكاء في هذه اللحظات الحميمية، وأغمضت عيوني شوقا إلى النوم الذي يجافيني كثيرا في مضجعي، ربما يكون الآن هو المهرب الوحيد.
رن جرس الهاتف:

 آلو. عمر، هل وصلت القدس؟
 أجل، اسمعيني جيداً، أريدك لي يا صمود، لن أضيعكِ مرة ثانية، فهذا المساء أجج مشاعري ووجدي، سنتزوج يا صمود.
 نتزوج يا عمر!
— ما بك تقولينها وكأنك لا تعرفين ما يسكنني من حب لك, أيبقى حبنا مقهوراً إلى متى؟
عمر، أنا...أنااا
 صمود لقد أدهشتني بصمتك وترددك، ما بك، هل هناك شيء تتكتمين به عني؟ بعد كل تلك المشاعر التي نحيا بها ومن أجلها.
 عمر أعرف أنك لم تَنْسَني يوما، ولكننا الآن في مفترق خريفيّ، ولن أستطيع أن أكون لك؛ لحبي ووجدي عليك.
 صمود، حرقتني بكلماتك، ماذا هناك؟
 هناك مرض يطاردني ويتغلغل في أحشائي.
 مرض؟ أنت مريضة بماذا يا صمود؟
 لما لا يُرجى شفاؤه يا عمر.
 ماذا؟! ولم أخفيت علي؟
 لأني أحبك وأخاف عليك من الحزن، يكفينا ضياعاً يا عمر.
 ومن قال أنك لن تشفي؟ لن أتخلى عنك مهما كان.
 لا يا عمر، لن أعذبك بدموع الموت، فحبنا هو دوائي، وسأحيا به الأيام الباقية لي.
 المرض لن يأخذك مني، والموت لن يخطفك. يكفينا خيبات هذا الزمن، فقد كانت خيبتي الأولى حينما أتيت ووجدتك متزوجة، والآن ما بك تدخلينني في خيبة أخرى؟
 عمر، اجعلني أودع الحياة وأنا قوية بحبك لا ضعيفة بتعذيبك، لا تبك علي، ولا تحرق الذكريات بلهيب لعنة للزمن، اتركني في قلبك بربيع عمري لا بخريفه، إن عمري يشرف على الذبول.
 حبيبتي لماذا قُدِّر علينا العذاب؟ لماذا لا يتركنا الزمن وآمالنا؟
 يكفيك هذا الألم، إن ذاكرتي ممتلئة بك، اجعل حزنك عليّ بعد الموت لا قبله، فكل نَفَسٍ من أنفاسي أعيشه بك "فالغياب أشد حضوراً من الحضور" كما قالها أحد العظماء.
 كيف سأتركك وحدك مع قسوة المرض؟ كيف سأكون لو تخليت عنك؟ أريدك معي.
 لا أريد أن تراني هزيلة ضعيفة، أودّ أن أكون معك دوماً زهرة متفتحة لا زهرة ذابلة.
 عُدْ إلى البيت القديم كلما استطعت، وعش ذكرى هذا المساء.

 

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى