السبت ٥ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

القـُبْلة، شفاه من جمر

(بين قوسين)...

أي محاولة لتفسير الجمر بالجمر، تبدو حماقة، أو مغامرة غير محسوبة. الحديث عن أكثر الأشياء معنوية في الحياة شيء صعب.

قبل الخوض في ذلك الموضوع دعوني أسال ما يلي: هل القبلة رسالة من لهب، وشفاه الآخر هي البريد؟ هل القبلة دائما رسالة بالبريد المضمون؟ أم إنها قد لاتصل أبداً، كرسالة فتاة عاشقة وضعتها في زجاجة مع خصلة من شعرها، وألقتها في اليم، تحاول الدلافين معانقة الزجاجة بسبب رائحة العشق؟ هل يمتلئ البريد بالرسائل إن كثرت، وتصبح الرسالة مكرورة، تتشابه؟ هل للرسائل(القبل) مدة صلاحية؟ ومن تمسك بحوزته منتهية الصلاحية يزج به في السجن؟ هل للرسائل رائحة، وذبذبات تنتشر في الهواء؟ هل حرارتها قادرة على إذابة جليد الصمت، والكبرياء، والاعتزاز بالنفس؟

أيها القارئ المبجل، هذا ليس بحثاً سيكولوجياً ولا سيسلوجيا، إنه رأي شخصي، وأخلي مسؤوليتي عن أي سوء استخدام يحدث، إذ لا يـُعتبر هذا المقال (كتيب تشغيل)، لذا وجب التنويه وإخلاء المسؤولية.

تنتقل رائحة القبلة وتنتشر في الجو المحيط بنا ممزوجة بحرارة الشفاه، واللهب الصادر من القلب، والمحيط غير المتجمد في لحظة ما. للقبلة جزئيات كيميائية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة تماما كغبار الطلع بالنسبة للنباتات.هي الحديث بدون حروف، هي آلاف الكتب وملايين المجلدات، إنها رحلة جلجامش المضنية للبحث عن زهرة الخلود. لقد روض ملوك السومريين الأسود، لكن القبل جعلتهم كالقطط الوديعة، تنظر إلى أعلى بعيني صاحبها، تتسمح به وتموء بصوت يستدر عطفه..

قال لي أحدهم مرة : إن ابنة نجار هرم، عجز أبوها عن قطع أخشاب السنديان، فكانت تقوم هي ليلا بهذه المهمة الصعبة، ويأتي الشيخ صباحا وقد قطعت جميع أخشاب السنديان بدقة وعناية، وعلى ذمة الراوي، كانت الفتاة الجميلة تـُقبل الأخشاب قبل قطعها، فتصبح هشة لدنة يمكن قطعها بسهولة، و -على ذمته- لو أنها أطالت القبلة لساحت تلك الجوامد ولم يستفاد منها.

إن القبلة تعني السمو بالعواطف عن الغرائز الحيوانية، خيوط مطر خفيف تداعب تراب الشهوة. تجعلك شاعرا يتحرر من القافية ومن بحور الشعر، ليكتب جنونه على الورق، ويتعرّق عندها الحمأ المسنون، وهل نحن غير صلصال يمتزج ببعضه أثناء القبلة؟ ونتخلى عن الذات، والأنا، ونذوب أثناء هذا الانفعال في الـ(نحن)، ثم نعود لنقسم ذلك الوجود الآدمي الكـُلي، لنستطيع ممارسة حياتنا العادية، لكن على الرغم من الانقسام الفيزيائي يبقى ذلك التلاحم، والالتصاق الكيميائي، حتى وإن ابتعدنا.

اللسان هو طعم الجمر بين قوسين...كطعم الحياة بين شفتين.. بخار اللذة الذي يخرج من العينين... ألم لذيذ و انصهار عالمين.. تتذوق الريق، بطعم عسل خالص العذوبة، تضمن أنه ليس مغشوشا، لأنه يأتيك من المصدر لحظة بلحظة، تحت رقابتك الآنيّة، يغرقك بسبب انقطاع الهواء، لكنك لا تموت، ولا تستغيث، ترتجف وتنتفض، لست مقرورا ولا محرورا، لست منصوبا ولا مجرورا، بل مرفوعا إلى عوالم أخرى، تسبح فيها، بسبب انعدام الوزن، وليس انعدام الجاذبية. الريق ماء، وجسم الإنسان أكثره ماء- كما تقول البحوث- ،أليس الريق أحد جداول الماء التي تفيض أثناء اللذة؟ ألا يقول الناس طعم يسيل له اللعاب للذته؟ كذلك يكون الريق أثناء القبلة. أيها القارئ الكريم، بعد ما ذكرته لك آنفا يجب أن أخبرك بأن للقبلة إيحاءات، تستطيع اكتشاف الطرف الآخر عن طريقها.

قبلات لها معنى:

قبلة الغضب: باردة، جافة، تشعرك كأنك في المحيط المتجمد الشمالي، قبل ثقب طبقة الأوزون طبعا. لا تكاد الشفاه تنفرج عن بعضها، وتكتشف أن الطرف الآخر ليس راضيا عنك من خلالها، تنتقل لك حالته النفسية من خلال شفاهه.

قبلة الرضا: قبلة عاقلة، واعية، متفهمة، وموزونة، مشحونة بالعاطفة، لكنها محجمة، ومسيطر عليها، يمكن حجبها، وكبح جماحها إذا كانت هناك أي رقابة، أو طارئ، للعقل سلطة كبيرة في هذه اللحظة.

قبلة التسامح: تعبير عن انتهاء حالة عدم استقرار أو توتر، باختصار فتح صفحة جديدة.
قبلة الوداع: لا تشعر لها بلون، أو طعم، أو رائحة، حتى أنك تنسى في بعض الأحايين أنك فعلت ذلك، تماما كالوقوف على إشارات المرور، عند عودتك للمنزل.

قبلة الكهرباء: هذه الحالة ليس فيها أي تماس، تحدث عندما تنظر إلى الطرف الآخر، فتراه ينظر إليك بإعجاب ويتفكر فيك بعمق، وقد سرح بفكره، فتلتقي عيونكم، فتقبض عليه متلبسا، فيحاول فجأة أن يشيح بنظره عنك، لكن تحدث شرارة كهربائية، تفضح أي محاولة لطمس آثار تلك النظرة، فتشعر بطعم القبلة في شفاهك، على الرغم من أنك لم تذقها.

قبلة الجفاف: تحدث عندما يحاول طرف تقبيل الطرف الآخر بشوق، والآخر يتمنع، فيحس هذا الشخص كأنه عصفور ظامئ في حر الصيف، يحاول بمنقاره استدرار قطرة ماء من صنبور جاف، اعتاد على الشرب منه في يوم ما.

قبلة العشق والجنون: من أصعب حالات الهوى امتزاج العشق بالجنون، فالعشق وحده كاف لإذابة قلب العاشق، وأذكر عندنا يردد البدو بعفوية مقولة "الهوى قطع قلوب البعارين"، وهي جمع بعير، فالهوى أو العشق له تأثير حتى على قلوب غير الآدميين، وإلا لما قال المنخل اليشكري في وصف تلك الحالة:" وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري".

هذه القبلة سريعة الانشطار والانفجار، لها لهب يمتد وينتشر، يحرق، لا يذر شيئا، لذا وجب التنويه أن تكون مرتديا لملابس مصنوعة من (الفايبرجلاس)، المضاد للحرائق، تطول لدرجة أنك تحس كأنها لم تبدأ بعد حتى لو طالت دهرا، وتتمنى أن تكون من أهل الكهف،لا لتنام بل لتتوارى عن الأنظار، لمدة ثلاثمئة سنين وتزداد تسعا وتسعين. هذه القبلة تنسى نفسك فيها، لدرجة أنك لا تخشى الرقيب، مهما كان الثمن غاليا، لأنك تحلق في عوالم أخرى. في هذه الحالة تفقد السيطرة على نفسك، وتصبح حصانا قوقازيا جامحا. عندما تثوب إلى رشدك وتتذكر حالتك تلك، تقول: من المستحيل أن أكون أنا في تلك الحالة، حتما هذا إنسان آخر غيري، نعم هو كذلك، لأنك تحررت من جميع عبارات الموروث الاجتماعي وما رافقها من مشاعر، تعيش ذاتك الحقيقية.هذه القبلة لها طعم ولون ورائحة، لونها أحمر قاني، وطعمها كالثلج والنار، ورائحتها تتبدل في كل مرحلة من مراحلها، من الكرز، إلى الدراق، والمشمش، وتفاحة حواء تلك التي تجعلنا لا نميز، هل نحن من الملوك أم من الرعية.

المزاج هو أهم مقومات القبلة، يجب أن يكون مُرَكـَزا لهذه الفعالية، كذلك عليك العمل على حشد مشاعر ومزاج الطرف الآخر للتركيز في هذا الأمر، ومما يتوجب عليك، عدم تعكير صفوه، كي لا يخرج من هذا البرزخ، كي يبقى في حالة اللاوعي، اللازمان، واللامكان، وتستطيع أن تستشف مزاج الآخر من خلال عينيه، إن لم يكن مغمضا عينيه، أو من حرارة أنفاسه، ورائحة جسده التي تـُفرز، أو حركة يديه، والأصوات المصاحبة، كل تلك شاخصات على طريقك، إما تنبئك أن تمضي قدما، أو تحذرك وتدعوك للتخفيف من السرعة، أو أنك ستصل إلى طريق مسدود. كل هذه العوامل المساعدة تصنع شفاها وحريقا، والشفاه تصنع قبلة، والقبلة تصنع عالما.. القبلة لحظة صدق، لحظة حقيقة، أو ما يسمى باللغة الإنجليزية (The Moment of Truth)، لاحظ معي أيها القارئ، الأحرف الكبيرة في أوائل الكلمات (TMT)، بالطبع لو كانت (TNT)، لانفجر كيس المشاعر المخبوء، في الجسد وحدثت كارثة. هذه لحظة تتنحى جميع الأقنعة جانبا، (ويعود الشخص كيوم ولدته أمه)، طبعا حسب الأشخاص وحسب الظروف. لعلـّي أقول: إن القبلة بوصفها إبداع من فعل كاتبٌ وكاتبة ، ليس فيه أي تنظيم أو تخطيط ، أو أي إستراتيجية طويلة، أو قصيرة المدى، وتجد نفسك حتى لو خططت ستنسى كل ذلك، وتتصرف ارتجاليا، لذا لا تتطابق قبلتان أبدا في الدنيا، حتى لو كانتا لنفس الأشخاص، وذلك لاختلاف المكان (المكان الذي تقبله، والمكان الذي أنت فيه)، أو الزمان، أو المزاج.
للحديث صلة، نتطرق فيه إلى أنواع القبل، وأماكنها، ودلالاتها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى