الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم فؤاد وجاني

أو هكذا خُيِّل إليه...

"كح... كح...كح"، أو هكذا قبض على صدره السعالُ القاحب. من السرير تدحرج ومشى على أربع كدابة معتلة، أو هكذا خيل إليه... تناول الأدوية التي طالتها كفه المرتعشة، غرغر بالشراب في حلقه، لا شيء ينفع ضد هذا الزكام اللعين. زحف إلى المطبخ كرجل في هيئة سحلية، أوقد نارا أحسها أخف لهبا من تلك الحمى المشتعلة في بدنه، وضع الماء في الإبريق، جعله يغلي حتى سمع له نشيشا ساخرا، أتى بكأس مرتجفة، نفخ فيها ماتبقى من أنفاسه المجهدة، لم يدرك أنها خاوية، ذهبت أنفاسه هباء منثورا، سكب فيه نصف الماء الحار وبالنصف الآخر بلل أرضا ظمآنة، وضع فيه أعشابا مبهمة، ثم استنشق ماشاء له صديق سوء أن يستنشق، تجرع الهراء كالسم الزعاف، لاخوف عليه وهو على هذه الحالة، لن تحدث فيه هذه الخلطة السرية أكثر مما به الآن.

زحف إلى جحر سريره كضب متعب امتلأت معدته هواء، تسلق السرير متثاقلا، يكاد يسمع جلجلة جيوش الألم الخاسفة بأعضائه وعضلاته الوهنة. أخيرا وضع رأسه على المخدة. ما أتعسه أو ربما ما أسعده، لوكانت المخدة صدر امرأة لمسحت بيديها على جبينه كل المعاناة أو بعضها، كثيرا ما فكر أن ينشئ لهذه المخدة الصامتة عينين، لو كانت عنده امرأة لربما كره النساء، سليطات اللسان هن، إن تكلمن سقط جمالهن، وإن صمتن خفيت سذاجتهن وزاد سحرهن، أو هكذا خيل إليه...

المخدة رفيقة درب محنة الزكام، نصيرته الوحيدة في هذه المعركة الخاسرة ضد جنود من جراثيم وفيروسات لا يعلمها إلا من درس الطب بعد الله، أخيرا رقد فوق السرير، هذه المخدة المطيعة تجود عليه بكل ما أوتيت من نعومة وحبيت من ليونة في كل وقت وحين، لكن ذراعي المرأة ألين لذلك تمتلأ المستشفيات بالممرضات، فالرجال لايتقنون خدمة البذل. اللعنة! عدنا إلى حديث المرأة الموجع، لايحتاج إلى المزيد من الوجع الآن ! لا يملك وقتا للتفكر في عوالم النساء الآن، حتى النساء لا يعلمن غموض أنفسهن فكيف له أن يتدبر في شأنهن.

جاهدا حاول حبس النور وراء قضبان رموشه، لم يكتحل غِماضا، لم تفلح أجفنه في تخدير جمر بدنه، أو هكذا خيل إليه... زحفت الذكرى إلى عقله المهووس بالحمى، ذكريات الصبا والفرح، تمنى لو خلد طفلا، فما أجمل الطفولة، ورب نار توقد الطفل الساكن بين أضلعه، وفينا إمام منتظر يخرج علينا من بين كل الساكنين فينا، يقفز ويلعب ويمرح، يتمرد على كل شيء تمردا بريئا كالطفل متخذا أرجوحة طرفاها الروح والبدن، دنياه بحر لا يُسمع فيه سوى صوت الموج والنوارس.

عاد إلى بؤس رشده، لم تُجْد الحبة السوداء ولا التمر الهندي من عند العطار مِشرار، ولم يقتنع بوصفة التعاويذ للشيخ السعلوني، لعل العِلم ينجح فيما خفق فيه العشاب ورجل الدين. قرر الذهاب إلى من لايحب عله يغدق عليه بشفاء، جر أذياله مترنحا مستعينا بمرفقيه بين كل جدارين، لهكذا أزمات تنفع هذي الجدران، لن يستطيع قيادة سيارته، سيتصل بأقرب طبيب ليخبره أنه قادم أو مستقدم من طرف سيارة أجرة.

رفع سماعة الهاتف، أرخى عليها شفتيه: ألو...ألو... ألو، أود رؤية الطبيب حالا!
رد عليه صوت امرأة رخيم: مهلا سيدي، أعطني اسمك، وسأضعه على لائحة الانتظار.
لو علمت أمينة سر المستوصف كم يكره كلمة الانتظار ماتفوه بها لسانها. لقد قضى حياته منتظرا، لاضير في الانتظار مرة أخرى، لا... لن يقوى على الانتظار، لابد من رؤية الطبيب حالا: لم أعد أحتمل الانتظار، أريد رؤية الطبيب الآن!

ارتجفت الأنثى من بحوح صوته المرعب، لابد أن المتصل في حالة حرجة: سأرى ما يمكنني فعله، تعال... والله كريم!

أغلق السماعة، نظر إلى ساعته بعينين مغتالتين، عند المرض لايهم الزمن لأنه أحد سبل الموت المهينة، أو هكذا خيل إليه... جمع ماتبقى من قواه النخرة، خرج إلى باب الدار ينتظر مرور سيارة أجرة لاهثة وراء لقمة خبز ضائعة في هذه الشوارع الضيقة. لاحياة هنا، لو أنه عاش في جزر جمايكا أو إحدى جزر الباهاماس لكان أسعد حالا من هذه المدن العربية المثقلة بالهموم، لو عاش هناك لوأد التفكير والتدبر واستمتع بالاستلقاء على رمال الشاطئ في غروب الشمس، وهرول وراء خواصر النساء إبان شروقها، وبالليل يستمع إلى موسيقى الجاز صحبة عاشقة عابرة وقنينة ملونة مسكِرة. لو أنه نفى نفسه إلى معقل بونابرت في جزيرة كورسيكا لأصبحت حياته أكثر واقعية مما هي عليه، سيتحدث بالفرنسية هناك بين أهلها. لو أنه نفى نفسه إلى مدغشقر، إلى جنة الله في أرضه، وظل يلطم من هناك على حال بلاده لربما وفروا له منصبا مرموقا إبان عودته بطلا وطنيا. لاشك أنه سيمل تلك الحياة الجميلة الرتيبة الخالية من حلاوة المشاكل، ويخنقه الحنين بعد أن يشبع من اللحظات المسروقة من قبضة الزمن. هو إنسان يحتاج إلى الذكرى، ولاتحلو الذكرى دون مرارة، لايمكن أن يعيش هكذا عابثا، ستجذبه هذه الأزقة الضيقة إليها أنما حل وارتحل، فيها طعم السعادة الموشومة بالحزن، أو الحزن الموشوم بالسعادة، أو هكذا خيل إليه...

تراءت له سيارة حمراء تتخبط عشواء في الطريق، لاشك أنه هيكل متحرك لسيارة أجرة، رفع يده اليسرى، لو رفع اليمنى ما توقفت له، أو هكذا خيل إليه... استجاب السائق لاستغاثته الملهوفة. فتح الباب وركب السيارة وهو يسعل: خذني إلى شارع التحرير، إلى مستوصف للا زينة قرب درب سيدي عاشور أمام مكتبة مولاي القنطاوي.

أومأ السائق بالموافقة دون أن تهتز لحيته الكثة ببنت شفة، تعوَّد على مفردات التبجيل التي تسبق شوارع ومرافق ودروب المدينة، وتساءل عن الوقت الذي يمجدون فيه العاهرات الفقيرات إلى الدرهم والدينار والدولار واليورو بوضع أسمائهن على رؤوس الشوارع والمعالم والأزقة أيضا.
نظرة السائق أراحت الراكب المريض، يبدو أنه اختار هذه المهنة ليهزأ من العالم حوله، أو هكذا خيل إليه أيضا... لو أسعفته حنجرته الملتهبة لتجاذب معه أطراف الحديث، يبدو أنه رجل من الزمن الجميل.

وصلت السيارة إلى المستوصف، مد يده إلى جيبه: كم يا سيدي؟

بدت كلمة السيادة سِبابا عمدا، لعل المريض تعود على الخضوع أيضا، أو لعله يريد أن يكرم السائق بإهانته: خمسة عشر درهما يا أخي !

نزل المريض مودعا السائق ولحيته وأُخُوته، دخل الباب المفتوح على مصراعيه، تلقفته موظفة الاستقبال: أنت من اتصل قبل قليل؟

هز أنفه المخنوق بسوائل جفت لها ساعات المرض: أنا العليل.

تصنعت الموظفة ابتسامة حزينة لن تكلفها قرشا واحدا: تفضل بالجلوس، ستراك الطبيبة الروسية نتاليا بعد قليل. استمرت بعدها في تقليم أظافرها.

مال بأذنيه يمينا ويسارا ليتأكد من سماعه لاسم النسبة "الروسية" واسم العلم "نتاليا". نظر حوله ليتيقن أن حلمه قد تحقق بالرحيل من هذي البلاد المقفرة بأهلها ووجعها إلى موسكو أو سان بيترسبرغ. قمامة هنا وهناك على الأرض، دخان ديزل منبعث من الخارج، شرطي واقف على الباب، سيارة لم تكترث للضوء الأحمر، زبون يتشاجر مع جزار، شعار ثلاثي: الله الوطن الملك. اللعنة على الشيطان المارد، إنه مازال في بلاده.

يالحظه الحسن، روسية وطبيبة بجلالة قدرها، لعل روسيا حصلت على الاكتفاء الذاتي من الأطباء وشرعت في تصديره لدول العالم الرابع، وهذه الطبيبة أول شحنة من الخير الكثير القادم. إذا كان الأمر كذلك فلابد أن يمرض في الشهر ثلاث أو أربع أو خمس مرات، سيتخذ من المستوصف داره الثانية، الأفضل له أن يحصل على عمل دائم فيه.

غيرت كلمة الروسية نظرته للطب والأطباء، أخيرا سيلمس بيديه النعومة الروسية بعد حلم طويل جناه من قصص أنطون تيشكوف، ستتحول أبيات ألكسندر بولوك إلى لحم وعظم وشفاه، وستُبعث دوقات إيفان أرغونوف من جمال لوحاته إلى ورطة الحقيقة.
سماها نتاليا بوشكينا على اسم زوجة بوشكين، حين يراها سيغني لها أبياتا من قصيدة بوشكين شاعر روسيا العظيم يرق لها قلبها فتشفي قلبا له عليلا:

لعل الشعلة لم تنطفئ بعد
تحترق داخل روحي احتراقا هادئا،
لاتشعري بالأسى لأجلي
فإني أحببتك حبا صامتا يائسا.

نتاليا، اسم تطرب له الحبال الصوتية، تبيض له الأسنان، يرطب به اللسان، نتاليا تجعلك تهيم فوق الأرض، تطير إلى متاحف موسكو، ترقص في مدرجات الباليه على وهج النور الخافت بعد إسدال الستار، نتاليا ملكة عرش المستوصف ودوقة الحي، تُرى ما أتى بالرقة إلى الغلظة؟ لعلها أنثى مولعة بسحر الشرق، أنفت الجمال واشتاقت إلى القبح، لعل بشرتها الباردة اشتاقت إلى لفح الشمس، لعلها بوهيمية تعشق الهيام على سطح الأرض. بعد قليل سيعلم سرها، ويكشف عن خبرها، أو هكذا خيل إليه...

اسم نتاليا تعويذة من كل مس وبراءة من كل سقم، لقد جاء بعِلة الأنف والحلق والعينين وسيغادر المستوصف بعلة قلب. تذكر أول حقنة بنسيلين أخذها بعد صفعة من طبيب، مات الطبيب وبقي دوي الصفعة، واشتعل رأسه شيبا وبقي يتلقى الصفعات الكلامية من دوي أسماء الممرضات: كبورة، فطومة، الهاشمية، عبوش... أسماء قنابل هذه أم نساء، أو هكذا خيل إليه...

جاء دوره: الطبيبة في انتظارك، تفضل بالدخول سيدي!

لو كانت لنبضات قلبه ساقان لسبقته إلى الغرفة حيث نتاليا، جمع عظامه ووقف على رجليه صلبا عتيدا كأنه عنترة، رسم ابتسامة على محياه لخوض معركة الغزل، صفف ماتبقى من شعر أهلكته السنون، حفر ذاكرته بما تبقى فيها من وحي بوشكين.

دخل الغرفة برجلي الوجل وقلب العشق وأنف الشعر، بحثت عيناه عن نتاليا، ليس لها وجود بين ملامح الموت من جدران وكراسي وسرير أبيض، استقبلته امرأة عجوز في السبعين من عمرها بلهجة عربية فصيحة، ظنها لأول وهلة مَنيّةٌ تقف على رجلين امتدت عروقهما الزرقاء في الأرض: تفضل سيدي فوق السرير، افتح فمك واغمض عينيك، وحين أدخل هذا العود قل : آه، آه!

من هذه العجوز الشمطاء التي جنحت لنصرة البياض في المعركة الطاحنة الدائرة رحاها في شعرها فلبست ثوب الاحتضار: أين الطبيبة نتاليا؟

ابتسمت العجوز: افتح فمك، أنا الطبيبة نتاليا!

فتح فمه فغِرا، وردد بصوت فيه نبرة حسرة ضاحكة: آاااه، آاااه، آاااه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى