السبت ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم مفيد فهد نبزو

القدس ذاكرة فنية عربية

لمحمد منصور

من الكتب التي اقتنصت إعجابي، ونالت اهتمامي بجدية، ووجدت من الضروري تعريف القارئ العربي بمضمون صفحاتها من خلال مجلتنا العربية الغراء كتاب القدس ذاكرة فنية عربية للكاتب محمد منصور، ولا سيما أن صدوره تزامن مع ظروف قاسية مريرة تمرُّ بها القدس الشريف، ويعيش مرارتها أهلنا في فلسطين العربية المحتلة، حين يقوم العدوان السافر بمؤامرات التهويد لتزييف الحقيقة، ومحاولة طمس المعالم والآثار العربية والإسلامية، دون رادع من ضمير، أو استجابة سوى للمطامع، والانقياد للغرائز الوحشية التي تلطخ وجه الإنسانية بأكف الإثم والغدر، والخطيئة والعار.

لقد أهدى المؤلف كتابه إلى سعيد برغوثي عذوبة فلسطين وأنس الشام، ثم انتقل إلى المدخل ليعرف القارئ كيف جاءت فكرة الكتاب حين قال:

بدأت فكرة هذا الكتاب، حين كنت أجري تحقيقا صحفيا عن الفلسطينيين الذين أغنوا حركة الفنون الدرامية في سورية، مسرحيا وإذاعيا وسينمائيا وتلفزيونيا... فقد حملت نكبة فلسطين عام 1948 آلاف العائلات على التشرد واللجوء إلى دول الجوار، وكانت سورية إحدى الوجهات الأساسية التي تدفق عليها اللاجئون، ليعيشوا محطة الانتظار الأولى... قبل أن يكتشفوا أن عليهم أن يؤسسوا لحياة طويلة الأمد،في وطن اعتبروه وطنهم الثاني، من دون أن ينسوا حلم العودة إلى الوطن الأم، الذي صار مع توالي النكبات حلما !

وفي دمشق – والكلام للكاتب – مارس العديد من الفنانين الفلسطينيين نشاطهم الذي بدؤوه على مسارح فلسطين أو في إذاعتيها:(إذاعة القدس وإذاعة حيفا)... فيما تشكل جيل آخر كان في أولى سني الطفولة حين جاء لاجئا إلى سورية، فنشأ وترعرع وتلمس خطواته نحو الفن هنا، من خلال الأندية والفرق الفنية الخاصة التي كانت منتشرة في دمشق منذ ثلاثينيات القرن العشرين،وحين أسست وزارة الثقافة السورية مطلع الستينيات فرقها المسرحية التي تعهدت الحركة الفنية بالرعاية الرسمية، أتاحت فرص العمل الفني أمام الأشقاء الفلسطينيين بلا أي تمييز، مثلما فتحت أبواب إذاعة دمشق من قبل، والتلفزيون السور لدى انطلاقة بثه في الثالث والعشرين من تموز (يوليو) عام 1960 من بعد. ثم يتحدث الكاتب عن جذور العلاقة الفنية بين سورية وفلسطين، وعناصر التشابك على أرض الواقع الفني التي كانت قوية بالأمس وما تزال قوية اليوم. وينتقل الكاتب ليتحدث عن ذاكرة القدس الفنية قائلا ً: ويبدو أن ذاكرة القدس الفنية، لم تكتب على أرضها فقط،وفي بعض مسارحها وعلى دار إذاعتها وحسب، بل كتبت أيضا عبر ذلك التواصل الحي الذي أبدته الأغنية العربية في غير بلد عربي، مع آلام وأحزان القدس، ومع ما شهدته وتعرضت له خلال تاريخها المأساوي الطويل، فتدفقت الأغنيات لكبار الشعراء والملحنين والمطربين العرب، كي تكتب بالكلمة واللحن سجلا ً شاملا لفصول الاحتلال وهجمات الاستيطان، وكي تجعل من هذه المدينة المقدسة، قبلة للغناء القومي الصادق، على اختلاف درجات نجاحه وتألقه بالطبع !.

وعما يطمح السيد المؤلف محمد منصور توضح بقوله: إن كتاب (القدس ذاكرة فنية) يطمح لتقديم تحية للمدينة التي نعيش معها الدلالات الرمزية العظيمة لاختيارها عاصمة للثقافة العربية لعام 2009، لنؤكد من خلال ما نعرضه من لمحات هذا التاريخ الفني أن القدس كانت في غير مرحلة من تاريخها المعاصر – عاصمة ثقافة عربية،حقيقية لا مجازا أو شعارا.... وأن الاحتفال بها ماهو إلا استعادة لماض عريق، يستحق أن يكون ماثلا للعيان، حاضرا في الذاكرة، متوهجا بالحنين، كي لا تنسى الأجيال الجديدة أسماء وتجارب وأغنيات، اختزلت تاريخ وتراث المدينة، قبل أن يأتي الاحتلال الاستيطاني الشرس، ليعمل على طمس معالمها وذكرياتها وتذكاراتها !.

 الأغنية الرحبانية تمردت على البكائية، وأنشدت حلم العودة... –من الباب الأول في الفصل الأول يؤكد الكاتب أن قضية فلسطين فجرت منذ أربعينيات القرن الماضي، مشاعر الكثير من عمالقة الأغنية العربية الذين واكبوا فصولها، وتفاعلوا مع أحداثها، إما بدافع الإيمان الحقيقي
والارتباط المصيري بها، أو بحثاً عن فسحة حضور وتأثير يسعى الفنان للتواصل مع جمهوره عبرها. ثم ينتقل ليعبر كيف أن العديد من كبار الفنانين على امتداد الوطن العربي، غنوا للقدس لا كحلم فقط، وإنما كرمز لتعانق الأديان السماوية حيناً، ورمز لمرارة الصراع الطويل الذي طبع تاريخ هذه المدينة منذ أول فصول النكبة.

ويأتي إلى التجربة الرحبانية التي اعتبرها المؤلف الحجر الزاوية في أغاني القدس والقضية الفلسطينية.... ولئن تقدمت بعض المساهمات الفنية المحدودة على هذه التجربة من حيث التسلسل الزمني،فإن ما قدمه الرحابنة مع السيدة فيروز شكل حالة ريادية على مستوى النوع، ونقطة علام في مسار الذاكرة الطويل منذ أول أعمالهم في هذا السياق مغناة (راجعون) ولذلك لا بد أن تكون البداية من حالة الإلهام الرحباني، نظرا لتنوع وغزارة الأعمال التي قدمتها في هذا السياق من جهة، ولقدرتها على البقاء في الوجدان بعد مرور عقود على ظهورها من جهة أخرى!

 راجعون – فن استنهاض الهمم !- يروي الفنان الراحل منصور الرحباني قصة هذا العمل الفني الكبير فيقول: بعد الزواج – زواج عاصي بفيروز – جاءت دعوة من إذاعة (صوت العرب) في القاهرة، فذهبنا..

عاصي وفيروز وأنا حيث التقينا أحمد سعيد، ووقعنا على عقد لتنفيذ أغان وأناشيد وبرامج خلال مدة ستة أشهر، وفي تلك الفترة وضعنا النهر العظيم وأعمالا أخرى، وذات يوم قال لي أحمد سعيد: إذا وفرنا لكما طائرة عسكرية إلى غزة هل تذهبان لتسمعا الأغاني الفلسطينية هناك ؟!

وكنا نخاف الطائرات كثيرا فطلبنا استحضار التسجيلات إلى القاهرة وهكذا كان. استمعنا إليها فإذا فيها نواح واستجداء وشكوى.

ثم يتابع الكاتب حديثه عن منصور الرحباني:

وضعنا (راجعون) وما فيها من استنهاض همم الفلسطينيين المشردين وسجلناها بأصوات فيروز وكارم محمود) والكورس ).

سجل الأخوان رحباني (راجعون) في إذاعة صوت العرب في القاهرة عام 1955، ويبدو أن التوزيع الذي قدماه،والذي تحتفظ به الإذاعة المصرية لم يكونا راضين عنه، فأعادا إصدار (راجعون) عام 1956 على أسطوانة وأطلقا عليها اسم مغناة، لكن الصفحة الأولى من كتاب التوزيع الموسيقي تسميها عملا موسيقيا كوراليا).

والحق أن (راجعون) والكلام للكاتب، تتجاوز الشكل المألوف للأغنية الوطنية،أوحتى البناء الموسيقي الميال للفخامة بالنسبة لفن القصيدة،لتتحول إلى عمل غنائي يقوم على حوار بين الفرد والمجموعة،وبين الصوت والصدى،وبين الأمل وبؤس واقع التشرد وقسوته على اللاجئين الفلسطينيين في تلك الفترة.

ويحلل الكاتب الحوار المشبع بالأصوات والنبرات التي تصارع واقعها، ومن ثم محاكاة الطبيعة في نبرة رومانسية تضج بالحنين، وهي تناجي نسيما من ربى تلك الديار السليبة:
أنت من بلادنا يا نسيم يا عبيرا يقطع المدى إلا أن هذا المطلع الذي يحاكي طقوس الحنين في الشعر العربي سرعان ما يتبدل في لحظة انقلاب درامي وموسيقي في آن معا ليطرح سؤالا استنكاريا ينطوي على موقف ثوري أصيل:

هل ننام وشراع الخير حطام
هل ننام ودروب الحق ظلام.

وبين تنويع على نبرة مشوبة بالحنين في مقطع تال:(بلادي زمانا طويلا أذلك الغاصبون) وبين تواصل أكثر اقترابا وتجذرا: (بلادي أطلي قليلا فإننا راجعون) يصل الرحابنة في النهاية إلى جوهر الحقيقة التي يفرضها التشرد،وإلى معنى الأمل الذي يؤسس لفعل المقاومة والأمل بالتحرير:

في الأمطار راجعون
في الإعصار راجعون
في الشموس في الرياح
في الحقول في البطاح
راجعون.. راجعون.. راجعون.

 الرؤية الرحبانية: محاور ومفردات ! -

قدم الرحابنة أحد عشر عملا غنائيا عن القضية الفلسطينية،عبروا من خلالها عن مفردات شتى، واختزلوا فيها صورا ووقائع وأحداث،بطرق مختلفة ومجددة. وقد قسم الكاتب الأعمال هذه في ضوء التحليل النقدي ضمن أربعة محاور:

1 - التشرد واللجوء

2 – ذاكرة المكان

3- أغنيات القدس

4 – حلم العودة –، وفي صراع الأم ولأمل يحدد المؤلف ثلاثة عناصر رئيسة اقترن فيها هذا الحلم:

الأول: النبرة الرومانسية التي تعبر عن اللحنين إلى المكان السليب.

الثاني: البعد التراجيدي الذي يستحضر آلام الغربة ولوعة الانتظار.

الثالث: الأمل الراسخ بإمكانية العودة وحتميتها،مهما طال زمن الانتظار.

 القدس العتيقة وما تبقى من الصورة – في عام 1964، زار الأخوان رحباني والسيدة فيروز القدس التي كانت تتبع للسلطات الأردنية في ذلك الحين، وكانت هذه الزيارة محرضا أساسيا لمجموعة أغنيات سيصدرها الرحابنة لاحقا، ضمن ألبوم (القدس في البال ).
وفي أثناء تجوال فيروز في شوارع القدس، استوقفتها سيدة وحكت لها مأساتها وروت فصول معاناتها، فتأثرت فيروز وبكت، فأحبت السيدة الفلسطينية أن تخفف عنها فأعطتها مزهرية ورجعت فيروز وحكت لعاصي الرحباني، فولدت الأغنية التي حملت عنوان (القدس العتيقة) والتي تقول كلماتها:

مريت بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
قدام الدكاكين
اللي بقيت من فلسطين
حكينا سوا الخبرية.. عطيوني مزهرية
قالولي هيدي هدية من الناس الناطرين.

وفي هذه الأغنية التي صورتها فيروز للتلفزيون اللبناني عام 1966، يتجاوز الرحابنة حالة الحنين الرومانسي الذي يمهد للنهوض الثوري.

عم صرّخ بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
خلي الغنية تطير عواصف وهدير
خبرهن عاللي صاير بلكي بيوعى الضمير.

 زنابق لمزهرية فيروز: أغنية تلهم شاعراً – أثارت أغنية (القدس العتيقة) التي تغلغلت في الوجدان الفلسطيني والعربي، قريحة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، فكتب في ديوانه (دخان البراكين) قصيدة مهداة للسيدة فيروز بعنوان (زنابق لمزهرية فيروز)قام الفنان البحريني المتميز خالد الشيخ بتحويل هذه القصيدة إلى دويتو غنائي عام 1989، لحنه وقام بغنائه بمشاركة الفنانة المغربية رجاء بلمليح، وقد أصدرها ضمن ألبومه الغنائي
(العب.. العب ).

- زهرة المدائن..

ملحمة الجغرافيا والتاريخ والدين – بالعودة إلى الفن الرحباني فقد قدم الرحابنة أغنيتهم الشهيرة (زهرة المدائن)عقب سقوط مدينة القدس بيد الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة
الخامس من حزيران.. والواقع أن هذه الأغنية ما نزال تتربع على عرش أغنيات القدس حتى بعد أكثر من أربعة عقود على صدورها. يا ليلة الإسراء يا درب من مروا إلى السماء عيوننا إليك ترحل كل يوم وإنني أصلي. وثمة براعة لافتة – قال الكاتب منصور – في المزج بين الديني والوطني في (زهرة المدائن)، وفي إضفاء صفة القداسة على الأمكنة والطبيعة،وحتى على الاستعارات والتشابيه الشعرية (كوجه الله الغامر) وهو أمر مقصود لتأكيد البعد الروحي لهذه المدينة،ولتعميق المفارقة بين القيم السامية التي تبشر بها الأديان السماوية،وبين قيم (القدم الهمجية) للاحتلال.

الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آت سأمر على الأحزان
من كل طريق آت بجياد الرهبة آت
وكوجه الله الغامر آت آت آت.

- مفتاح القدس

أضيف إلى رصيد الأغنيات السابقة التي قدمها الرحابنة والسيدة فيروز عن القدس فلسطين ما حدا بأهالي مدينة القدس أن يمنحوا فيروز مفتاح مدينتهم عام 1968،مفتاح القدس المصنوع من خشب الزيتون على صينية من صنع أهالي القدس رسمت عليها بالصدف صورة مصغرة لمدينتهم.

- التفاؤل الذي يصنع الانتماء

في(جسر العودة) يطلق الرحابنة على جسر نهر الأردن الذي سمي بجسر الأحزان،لكثرة ما عبر عليه من مئات آلاف اللاجئين اسما يحمل المعنى الحقيقي لهذا التفاؤل:

جسر العودة.. جسر العودة..
يا جسر الأحزان أنا سميتك الجسر العودة
والمجد لأطفال آتين.. الليلة قد بلغوا العشرين
لهم الشمس.. لهم القدس
والنصر وساحات فلسطين.

هكذا آمن الفن الرحباني بحلم العودة،وأصر على زرع معاني التفاؤل،من منطق الانتماء العميق لقضية فلسطين.

 القديم ينتصر على الجديد.. والفن يتراجع أمام الهتاف – في الفصل الثاني من الباب الأول ينتقل الكاتب ليعرفنا بأغنيات الأربعينيات مثل قصيدة (فلسطين) للشاعر علي محمود طه التي لحنها وغناها عبد الوهاب عقب النكبة في أربعينيات القرن الماضي:

أخي جاوز الظالمون المدى
فحق الجهاد، وحق الفدا

وقدم الفنان مصطفى هلال عدداً من الأغاني أشهرها (مصرع البطل) الذي نظمها الشاعر عبدالله البداوي وغنتها المطربة نهاوند، وأذيعت في إذاعة دمشق في التاسع من تشرين الثاني عام 1948، وقد بدت صورة القدس هي عنوان الخطاب ووجهة الجهاد:

يا روابي القدس نادي
وانشدي لحن الجهاد.

وشكل سقوط القدس الشرقية بيد الاحتلال الإسرائيلي إثر نكسة حزيران عام 1967، ذروة الألم والحزن العربيين، فقد أضحى الأقصى أسيراً يبد الاحتلال، وصارت المقدسات المسيحية والإسلامية في متناول عدوان يومي مستمر على التاريخ والجغرافيا والرموز، فتدفقت الأغنيات التي تحمل صورة القدس الجريحة والأقصى الأسير،وكان من أبرز ما قدم في هذه المرحلة أغنية عبد الحليم حافظ التي كتب كلماتها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ولحنها بليغ حمدي بعنوان (المسيح) وقد حرص عبد الحليم حافظ أن يغني هذه الأغنية بالذات في حفلته الشهيرة في قاعة ألبرت هول في مدينة لندن عام 1968، كنوع من التعبير عن إيصال صوت الألم العربي بسقوط القدس إلى العالم، وخصوصاً إلى الغرب المسيحي الذي تواطأ مع الصهيونية في إباحة المقدسات المسيحية لليهود.

وغنى فهد بلان للقدس مراراً فالملحن المصري محمود الشريف قدم له أغنيتين كتب كلماتهما الشاعر محسن الخياط (قدس العرب) و (المسجد الأقصى)، وغنى في فترات مختلفة (القدس بتنادي) و (فلسطين أرضنا) و ( في فلسطين لا مفر)، وجميعها من كلمات ظافر الصابوني، وألحان عبد الفتاح سكر،وإنتاج إذاعة دمشق عام 1975، وفي نهاية الستينيات من القرن العشرين شكلت ظاهرة العمل الفدائي الفلسطيني أملا ً حقيقياً في وجدان الشعب العربي عموماً،والفلسطيني على وجه الخصوص.. وقد انعكست تجليات هذا كله على صعيد الأغنية العربية من خلال عدد من الأعمال إلا أن أبرزها كان أغنية (أصبح عندي الآن بندقية) التي كانت اللقاء الأول بين كلمات نزار قباني وصوت أم كلثوم،وهي من ألحان محمد عبد الوهاب،وقد غنتها أم كلثوم عام 1969، لتواكب بها تصاعد ظاهرة العمل الفدائي في تلك الفترة.

- حريق الأقصى يلهب الأغنية العربية

في صبيحة يوم 22 آب (أغسطس) 1969، قام اليهودي المتطرف مايكل دينس روهن بإحراق المسجد الأقصى،وهز هذا الحدث الأليم الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج،
وكان من أجمل ما كتب حول حريق الأقصى قصيدة الشاعر حسن إسماعيل (قومي إلى الصلاة)التي يصف المشهد الحزين:

وعادت الطيور في المساء
فلم تجد في القبة الضياء
ولا صدى التراتيل والدعاء.

وقد تحولت هذه القصيدة البديعة إلى مغناة لحنها الملحن الكبير رياض السنباطي،وغنتها المطربة الكبيرة (سعاد محمد) فجاء هذا العمل على قدر الأسماء الكبيرة التي أبدعته كلمة ولحناً وأداءً. كذلك جاءت أغنية فهد بلان (المسجد الأقصى) وأغنية محمد رشدي (وفي قلبي ولا عينيا إلا فلسطين) من كلمات فؤاد حداد وألحان بليغ حمدي..وسواها من الأغنيات التي عبرت بحق عن المكانة التي احتلتها القدس في تلك الفترة في أولويات الفن العربي والإعلام العربي كذلك.

وهناك إسهامات مميزة لنجاح سلام،وهناك ثنائيات غنائية: من ينقذ الإنسان، وفي نهاية الثمانينيات جاءت انتفاضة أطفال الحجارة التي اندلعت أواخر عام 1987 لتكتب فصلاً ملحمياً
جديداً من فصول القضية، وتوالت إثرها القصائد والأغاني التي خلدت هذه الانتفاضة. وكان قد غنى كاظم الساهر مع الفنانة لطيفة التونسية (من ينقذ الإنسان) عن قصيدة للشاعر نزار قباني يقول مطلعها:

بكيت حتى انتهت الدموع
صليت حتى ذابت الشموع
ركعت حتى ملني الركوع
يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء.

- انتفاضة الأقصى:

الحصاد المر- في الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) عام 2000 دخل رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون إلى باحة المسجد الأقصى في القدس برفقة حراسه، الأمر الذي دفع جموع المصلين إلى التجمهر ومحاولة التصدي له،وجاءت نتيجة هذا العمل الاستفزازي لتعلن اندلاع الانتفاضة الثانية، التي بلغت ذروتها بعملية السور الواقي الإسرائيلية،وتدمير مخيم جنين عام 2002، وحضرت القدس مرة أخرى في قلب الحدث، فقد سميت هذه الانتفاضة انتفاضة الأقصى التي توالى التعبير الغنائي عنها سريعاً، فقدم المطرب اللبناني فضل شاكر أغنية (الأقصى) وغنى وليد توفيق (صوت الحجر) وغنى عمرو دياب من ألحانه وكلمات مجدي نجار أغنية (القدس أرضنا) وغنت نوال الزغبي من كلمات الفنان اللبناني وليم حسواني وألحان وتوزيع زياد مراد أغنية (يا قدس)، وغنى الفنان هاني شاكر العديد من الأغنيات:

القدس حتفضل عربية)و (فلسطين) وهما من ألحان الموسيقار الراحل كمال الطويل،وغنى في مواكبة الانتفاضة أغنية (أبواب القدس) كتب كلماتها منصور الشادي ولحنها حسن أبو السعود، وقدمت أصالة نصري أغنية (أولى القبلتين) من كلمات وألحان الفنان الليبي علي الكيلاني، كما قدم مجموعة من الفنانين المصريين أوبريتا غنائياً كتب كلماته الدكتور مدحت عدل ولحنه رياض الهمشري ووزعه حميد الشاعري بعنوان (القدس حترجع لنا)، وكان المطرب المصري طارق فؤاد قد غنى من ألحانه وأشعار سيد شوقي عام 1998 أغنية (ياقدس ).

ولم تدخل في كلاسيكيات أغنيات القدس التي قدمها عمالقة الفن العربي في فترات سابقة،باستثناء أغنية كاظم الساهر (يا قدس..يا مدينة السماء) وهي قصيدة للشاعر الإماراتي الدكتور مانع سعيد العتيبة،لحنها وغناها الساهر عام 2001،وهي تستحضر وتستعير بقوة مفردات قرآنية بديعة في تصوير الإسراء، مع التذكير: ( هذا كلام الله لا غنائي ) ويأتي هذا كله في سياق مواكبة لحنية تستلهم إحدى مقامات الأذان الشائعة في التراث الإسلامي للإبقاء على الأجواء الدينية،وتصعيد الحالة الوجدانية لدى المستمع بما يختزل قدسية وروحانية المدينة.

- القدس عاصمة ثقافية:

مساهمات تتجدد ! مع اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009، تتوالى دفعة جديدة من الأغنيات التي تمجد القدس، وتحتفي بهويتها العربية، فيغني الفنان هاني شاكر من ألحانه ومن كلمات الشاعر الفلسطيني رامي يوسف أغنية كان قدمها في الحفل الذي أقيم في مدين رام الله أواخر عام 2008،ومثله الفنانة أصالة نصري التي قدمت أغنية جديدة عن القدس كتب كلماتها الدكتور نبيل طعمة ولحنها خالد حيدر،وقد بالغت أصالة نصري، حين رأت أن هذه الأغنية التي صورتها كفيديو كليب ستقود الانتفاضة الثالثة.

إلا أن تاريخ القدس مع الأغنيات التي صورت قدسية مكانتها، واستلهمت ذاكرتها ومأساتها، لا يبدو أنه يبرهن على صحة هذه المقولة، وخصوصاً إذا عادت بنا الذاكرة إلى أشعار الأخوين رحباني ونزار قباني وسميح القاسم وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود حسن إسماعيل.. ومناخات أخرى صنعها زمن فيروز والرحابنة وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وبليغ حمدي وسعاد محمد ورياض السنباطي واجتهاد خالد الشيخ وكاظم الساهر،وبدا فيها العمل الفني الغنائي قادراً على رسم صورة أكثر فرادة لتحولات هذه المدينة المقدسة، ومكانتها في ذاكرة ونفوس العرب والمسلمين.

ويأتي بعدئذ الملحق الذي يتضمن أجمل عشر أغنيات عن القدس كلمات وألحان وغناء وتاريخ،أما في الباب الثاني من الكتاب، يعرفنا الكاتب محمد منصور بسوريين انطلقوا من إذاعة القدس التي أسسها الانتداب البريطاني،والفلسطينيون جعلوا منها أداة مقاومة، وفي الفصل الثاني يعرفنا بفلسطينيين ساهموا في إغناء الفن السوري مثل: يعقوب أبو غزالة صاحب 150 مسرحية، وبسام أبو غزالة الذي اختار اسما فنيا (بسام لطفي) ويوسف حنا مدير المسرح القومي السوري، والكاتب أحمد قبلاوي مدير المسرح الجوال، والكاتب أحمد شريم من الكتاب البارزين في الدراما السورية، وهاني السعدي من التمثيل إلى الكتابة،ومحمد صالحية وداود يعقوب حضور البدايات،وأديب قدورة نجومية سينمائية، وحسن عويتي ما بين التمثيل والإخراج، وكذلك تطرق إلى مخرجين فلسطينيين من ثلاثة أجيال، وممثلين من أصول مسرحيةحيث تم التعريف بسيرته وزمن مجيئه من منطقته في فلسطين، والأعمال التي قام بها، والحضور المميز لكل منهم.

لقد اندمج هؤلاء الفنانون في الوسط الفني السوري الذي أتاح لهم هامشاً واسعاً للعمل في مختلف القنوات الفنية، وتوالى ظهور أجيال شابة من خلال خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق،منهم من لا زالت لكنته الفلسطينية،ومنهم من لم يكن بالإمكان تمييز لهجته عما هو سائد في المجتمع الدمشقي، وربما لم يكن يتصور أحد أن يكون الممثل (نزار أبو حجر) الذي أتقن دور (أبو غالب) بائع البليلة في مسلسل (باب الحارة) للمخرج بسام الملا والذي يتقن اللهجة الدمشقية القحة بأكثر أصولها الشعبية قدما وعراقة هو فلسطيني الأصل أيضاً, وفي الختام مراجع الكتاب القيم الذي دفعني إلى هذه القراءة التي لاتغني عن قراءته، ومعرفة مضمونه، وكم أتمنى لو يتعهده المترجمون العرب لنقله إلى لغات أخرى، فتتحقق الضالة المنشودة.

شكراً من القلب للكاتب محمد منصور على جهوده، وتوثيقه الذي سيحفظه له التاريخ العربي بلا شك، وستحفظ له الأجيال العربية فضله وجميله وحسن غايته في هذا العمل الجليل الخالد.

 محمد منصور في سطور-

 صحفي وناقد ومعد برامج تلفزيونية – مواليد دمشق 1970

 إجازة في النقد والأدب المسرحي – المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق 1992

 يعمل في الصحافة الثقافية والفنية منذ عام 1990 –

 كتب القصة القصيرة وأصدر ثلاث مجموعات قصصية ( مشهد إضافي ) 1996 – (توت الشام) 1997- ( سيرة العشاق ) 1999 –

 صدر له في مجال الدراسات السياسية ( الصندوق الأسود للدكتاتورية ) دار
كنعان –دمشق 2004 –

 صدر له في النقد الفني:

(الكوميديا في السينما العربية) وزارة الثقافة – دمشق 2003 –

( فيروز والفن الرحباني) دار كنعان –دمشق 2004

 سلسلة الدراما التلفزيونية السورية:

علاء الدين كوكش:دراما التأسيس والتغيير دار كنعان دمشق 2009 –

 غسان جبري: دراما التأصيل الفني

 دار كنعان دمشق 2009 –

 بسام الملا: عاشق البيئة الدمشقية

 دار كنعان دمشق 2009 –

لمحمد منصور

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى