السبت ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

الأطفال والعصافير

خلقت العصافير لتغرد في الفضاء الرحب، و لم تخلق لتبكي بيـن قضبان الأقفاص.. خلقت العصافير لترفرف بأجنحتها فوق الأفنان، ولم تخلق لتنتف ريشها على أسلاك من حديد.

خلقت العصافير لتلاعب الأزهار وترشف منها قطرات الندى، وتلتقط منها البذار، وتتلقف حبات القمح والذرة بين أفياء الحقول والبساتين، ولم تخلق لتعلف كالأبقـار والعجول في حظائر تشل حركتها، وتنتزع البهجة والسرور من أفئدتها.. العصافير نبراس الأحرار في صنع الحرية، ومعلم النفوس الأبية في رفض القيود وأطـواق الحديد.. ورحم الله شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة، إذ قال:

لا تطيق السادة الأحرار أطواق الحديد إن عيش الــذل والإرهاق أولى بالعبيد

والأطفال كذلك عصافير الحرية، لا يغردون ولا يسرحون ولا يمرحون إلا على مساحات شاسعة، ليس لها حدود ولا سدود، لا جدران لها ولا سدول..

العصافير والأطفال صنوان لا يعرفان السعادة إلا بين الحقول والبساتين والحدائق.. ولا يتلذذون بجمال الأحلام إلا حين تدغدغ أشعة الشمس الذهبية منهما العيون.. وتوشوش نسمات الليل العليلة منهما الآذان.. وتهمس عناصر الجمال إليهما لتذوق لحظات الجمال والروعة والجلال.. ولنستمع إلى شدو عبقري العروبة بدوي الجبل في الطفولة مترنما بأجمل وأصدق الكلمات:

ويا رب من أجل الطفولة وحدهــا أفض بركات السلم شـــرقا ومغربا
وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها إذا غردت في موحش الرمل أعشبا
ملائك لا الجنــات أنجبن مثلهم ولا خلدها - أستغفر الله - أنجبا
ويا رب حبب كل طفل فلا يرى وإن لج في الإعنات وجها مقطبا

فما رأيكم، لو رأيتم طفلا يحبس في منزل أبويه وحيدا، بينما يخرج هذان المربيان إلى النزهة أو قضاء حاجات أخرى؟؟ فماذا تتوقعون أن يفعل هذا الطفل؟! إليكم القصة الآتية التي حدثت أمام عيني:

عدت من الشارقة إلى عجمان، وتوقفت عجلات سيارتي بي تحت البناء الذي أسكنه، و هو مؤلف من أربعة أدوار، نزلت من سيارتي، فسمعت صراخ طفل يستغيث: ماما.. ماما.. أنصت جيدا لأعرف مصدر الاستغاثة، فرأيت طفلا صغيرا يقف على النافذة في الطابق الرابع من البناء المجاور، يبكي بألم، وقد أشرف نصفه إلى الخارج، ولم يبــق بينه وبيــن الســقوط إلا لحظــات قصيرة.. فأسـرعت إليه مناديا بهدوء: لا تخف

يا عم.. لا تخف يا بطل.. أمك قادمة الآن.. أغلق النافذة واذهب إلى الباب.. وظللت أدغدغ مشاعره بكلمات الحب والحنان، كي يبتعد عن النافذة.. وحضر شاب عربي، فأخبرته عن المشكلة، وقمت بمراقبة الطفل، بينما ذهب الشاب لإحضار حارس البناء..

جاء الحارس ليعلمنا بأن هذه الظاهرة ليست غريبة على هذه النافذة.. فكل يوم يخرج الأبوان لقضاء حاجاتهما في الأسواق أو للتنزه والاستجمام، ويتركان طفلهما وحيدا في البيت يتسلى بالألعاب.

طلبنا من الحارس المفتاح الاحتياطي للشقة، فلم نجد عنده ما طلبناه، وسألناه عن رقم هاتف يوصلنا بأهل الطفل، فباء سؤالنا بالفشل، لكن الحارس الشهم أبى إلا أن يوصلنا للإمساك بأحد أطراف خيوط الحل المستعصي، فأرشدنا إلى سيارة والد الطفل أمام البناء، فأخذنا رقم السيارة واتصلنا بالشرطة التي لبت النداء بكل رجولة وأمانة وصدق، وحاولنا الاتصال بوالده بعد أن أخذنا رقم هاتفه من الشرطة، فلم يجبنا أحد.. وحضر رجال الشرطة بأقصى ما يمكن من سرعة، واستدعوا الدفاع المدني لإكمال المهمة، وبعد دقائق قليلة استطاع رجال الدفاع المدني الوصول إلينا واختراق الزحام الشديد على الطرقات.. وصعدوا إلى الطابق الرابع، وراحوا يناجون الطفل، وهم يفتحون الباب بطرقهم الخاصة، فتمكنوا من خلع الباب والوصول إلى الطفل الحبيس، فأخذوه بحنان، ونزلوا به إلى الطابق الأرضي، في حين كنا نراقب النافذة مستنفرين عزائمنا لتلقي الطفل في حال سقوطه من النافذة لا قدر الله.

وبعد أن تمت عملية الإنقاذ بنجاح، أتى والد الطفل يرتدي (الشورط)، فأخبره رجال الشرطة والدفاع المدني بالأمر، وكتبوه تعهدا بعدم تكرار هذا الإهمال المتعمد للطفل.. فاستنكر الأب خلع الباب، وعندما عرف بالتفصيل حقيقة ما جرى، ألقى باللوم على كل من ساهم في إنقاذ ابنه؛ لأنهم في رأيه الشخصي أثاروا حفيظة الطفل وأغضبوه، حتى وقف على النافذة هذا الوقوف الانتحاري.

هكذا يقابل الإحسان بالشجب والاستنكار.. وهكذا يعتبر إنقاذ طفل وحيد لأهله مسألة فيها نظر.. وتناسى هذا الأب العظيم أن ترك طفل وحيد منفردا جريمة لا تغتفر..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى