الأربعاء ١٦ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم محمد متبولي

التحرير ميدان الطهارة والوعى الثورى

بداية فاننى أحمد الله عز وجل على أمرين، الاول هو ماحققته الثورة المصرية من مكتسبات حتى الان آملا ان تتوالى انجازاتها، والثانى هو استعادتى قدرتى على الامساك بالقلم مرة أخرى والتى كنت قد فقدتها تقريبا منذ بداية الاحداث فى 25 يناير الماضى، فقبل ذلك التاريخ ولسنوات لم أكن اهتم كثيرا بمصطلحات مثل الطهارة الثورية، والوعى الثورى والشرعية الثورية وغيرها من مصطلاحات مماثلة، والتى كنت أعتقد انها تنتمى لذلك العهد البعيد المتميز بالمد الثورى فى دول العالم النامى والذى أعقب الحرب العالمية الثانية وأستمر حتى سبعينات القرن العشرين وربما بعد ذلك، والتى انحرفت فيه الكثير من الثورات عن مسارها وتحولت الى ديكتاتوريات أرهبت شعوبها وقيدت حريتهم، وأكثر من ذلك فأننى كنت اضحك من قلبى عندما يتناول بعض الكوميديانات الكبار مثل عادل امام ومحمد صبحى مثل هذه المصطلحات بالسخرية، الا انك عندما تقف فى ميدان التحرير وسط الجماهير الزاحفه وتنادى بسقوط الظلم ستكتشف انك تخليت ضمنا عن بعض الصفات التى كبلت عقلك قبل ذلك واكتسبت أخرى جديده، تخليت عن الخوف والجبن فى مواجهة الطغاة، وتخليت عن صمتك تجاه ممارسات السلطة المنحرفة، وأكتسبت صفات جديدة اهمها وفى مقدمتها الشجاعة والاقدام وكره الظلم وحب العدل، وعندما تتغاضى عن بعض الهفوات العفوية لمن حولك الناتجة عن الزحام والتى كانت قبل ذلك مثار غضبك وثورتك، وتقف بجوار اناس لاتعرفهم فيهم الرجل والمرأة والشاب والطفل ومنهم من هم ينتمون لنفس معتقدك الدينى والسياسى والمستوى الاجتماعى ومن يخالفونك فى ذلك ولا تجد غضاضة فى ان تكون معهم جميعا فى نفس الخندق.

ستكتشف فى داخلك قيما جديده ربما لم تهتم بها من قبل، مثل التسامح وعدم التفرقة بين البشر على اساس الجنس او اللون او العقيدة او الطبقة الاجتماعية واحترام الآخر، وعندما تجد من بين المعتصمين والمتظاهرين من يتبادل مع الاخرين كل قدر استطاعته المشروبات والمأكولات، ويساعدهم فى اقامة الخيام ويتطوع من أجل المشاركة فى مستشفى ميدانى، وتجد من يتبرع لهم بالادوية والاغذية وغيرها، تشعر بقيمة جديدة وهى التراحم، وعندما تنظر حولك فتكتشف ان هناك من يبيتون ليلتهم فى العراء رغم الشتاء القارص، وان هناك من واجهوا الرصاص الحى ومدرعات الشرطة المدججة بالاسلحة ومن صمدوا امام هجوم النيق والجمال والخيول فى محاولة لتفريق وحدتهم واعتصامهم بالقوة، وترى الميدان قد زين بصور الشهداء وسط انات وآهات ذويهم وتشعر بان ارواحهم ترفرف فوق الميدان، تكتشف حجم ضئالتك وكم كنت متعلقا بتفاهات لامعنى لها، وعندما تقف مع الحشود تدعو من اعماق قلبك الله ان يكشف تلك الغمة تتذكر حينها كم كنت بعيدا عنه، وتكتشف ايضا ان بداخلك انسان ينزع بطبيعته للخير ويكره الشر، فتغوص فى اعماق نفسك لتؤكد على تلك الصفات الحميدة التى اكتسبتها وتسعى لاكتساب المزيد منها، وتنزع عن نفسك تلك الصفات الذميمه التى علقت بك وتطوق ان تستكمل تحررك الداخلى بان تواجه شيطانك الخاص وتدخل معه فى معركة حاسمة لا غنى فيها عن النصر، لتعرف حين ذاك انك بدأت فى تحقيق نقاءك الذاتى، مستغلا هذه الحاله من الطهارة الثورية التى حلت بك، حينها تعرف جيدا معنى تلك الكلمة التى لو قرأت عنها آلاف الكتب لما استطعت فهمها كما تفهمها فى ضوء هذه الحالة.

وعلى التوازى مع حالة النقاء والتطهر الثورى تلك، التى اصابت الكثير من المصريين كل على قدر تفهمه للموقف وتفاعله مع الاحداث ومشاركته فيها، تحقق قدر من الوعى للانسان المصرى لم يكن ليتحقق لولا قيام الثورة، لقد عرف الانسان المصرى ان ما كان يواجهه ليس مجرد عرض جانبى لممارسة النظام سلطاته وانه أمر وارد مع كل الانظمة بل كان نوع من الظلم، وان عدم مواجهته له لم يكن بسبب طبيعته المسالمة بل لأنه كان يخشى من تبعات تلك المواجهة، وانه دائما كان قادرا عليها الا انه لم يكن يرغب فيها آسرا ان يعطى النظام فرصا متتالية ليصلح نفسه من تلقاء نفسه، وان عدم وقوع الظلم عليه بشكل مباشر لا يعنى انه بمنأى عنه، فالظلم بكافة صوره يجعل المظلوم يشعر بالحنق والحقد على ظالميه وعلى ذلك المجتمع الذى صمت عليهم، فيتحول الى قنبلة موقوتة تنفجر فى وجه المجتمع كله، وهو ما ظهر فى بعض عمليات التخريب الانتقامية التى استهدفت جهاز الشرطة وأضرت بالامن وما استتبعه من خيانه ادت لأختفاء الامن، وان ذلك الانسان الذى كان يتشدق البعض بعدم قدرته على ممارسة الديمقراطية أثبت انه قادر على تحديد الاختيارات المثلى له ولمجتمعه لو حصل على قدر ولو بسيط من الوعى والمعرفة بالشأن العام، حتى انك تجد بعض البسطاء ممن لم يكن لهم علاقة بالسياسة من قبل قد انضموا للثورة رافضين الظلم الاجتماعى الواقع عليهم، مبدين رأيهم فى ضوء المعرفة التى تحققت لهم مؤخرا فى تعديل الدستور او طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، ثم فوجئ ذلك الانسان وعلى الرغم من الزحام الشديد فى ميدان التحرير وغياب الامن، بعدم وقوع حالة تحرش جنسى واحدة بين المتظاهرين، وعدم حدوث اعتداءات تذكر على كنائس او مساجد او احداث طائفية وهو ما اكد له ان الحرية هى الضمانة الاساسية للأمن، وان القمع الذى كان يتقبله كثمن للأستقرار هو السبب الاساسى فى الكبت والعنف ضد المجتمع والطائفية، ويؤدى بعد ذلك التصارع بين كبار رموز النظام وهم يحاولون القفز من السفينة قبل غرقها، والكشف عن كثير من مظاهر الاستيلاء على المال العام الى اقتناع ذلك الانسان بما لايدع مجالا للشك ان اقتران المال والسلطة، وعدم محاسبة شاغلى المناصب القيادية وطول بقاءهم فى مناصبهم هو مدعاة للفساد والاستبداد، واخيرا تأتى أكبر مظاهر الوعى التى حققتها تلك الثورة لذلك الانسان هى ان حكم الفرد العادل وان كان يبدأ بالنوايا الطيبة، فان مئأله فى نهاية الامر الى الديكتاتورية والطغيان، وان الديمقراطية هى الطريقة المثلى لحكم الشعوب.

لقد حقق الشعب المصرى وعيه فى العصر الحديث على عدة مراحل، اولها عندما واجه الاحتلال الفرنسى مؤكدا ان الحكم الاجنبى مهما حمل من امتيازات حضارية وثقافية لا يحقق مصلحة الشعوب، ثم أدى ذلك الوعى لمساندته محمد على فى تولى حكم مصر، والذى قام بدوره بانشاء دولة حديثة بها سواءا كان ذلك اعترافا منه بالجميل للشعب المصرى او حبه لمصر او حتى رغبة منه ان تكون الدولة القوية الحديثة التى انشأها بها هى سبيله للوصول للخلافة، ومع ثورة عرابى حقق ذلك الشعب مستوى جديدا من الوعى حين ادرك انه قادر على ادارة مؤسسات الدولة المصرية بنفسه متمثلة اساسا فى الجيش، وان تلك المؤسسات ليست اداة فى يد الحاكم لقمع الشعب والاستبداد ولكنها وسيلة الشعب للحماية من الطغيان وتحقيق مصالحه، وهو ما اصبح عقيدة سائدة للجيش استفاد منها الضباط الاحرار فيما بعد، وبعدها جاءت ثورة 1919 لتعبر عن وعى الشعب بوجوب رحيل المحتل الاجنبى وقدرته على صياغة مرحلة جديدة يمارس بمقتضاها نوعا ما من الحرية ويشارك بقدر أكبر فى حكم وطنه، ومع ثورة يوليو اصبح ذلك الانسان قادرا على حكم نفسه بنفسه رافضا كافة اشكال التدخل الاجنبى، وواعيا بضرورة وجود حدا معقولا من العدالة الاجتماعية وان مصر قادرة على قيادة المنطقة نحو الحرية، الا ان هذه الثورة لم يكن باستطاعتها تحقيق الديمقراطية والحرية لذلك الانسان، لتأتى ثورة 25 يناير معبرة عن فصل جديد من الوعى، تصبح بمقتضاه الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مطالب اساسية للشعب المصرى بعد ان كان المطلبين الاولين مجرد نوع من الترف من وجهة نظر البعض، لتصبح الثورة نابعة من ارادة الجماهير التى يحميها الجيش، وليست نابعة من ارادة الجيش التى تبنتها الجماهير كما كان الوضع فى ثورة يوليو، وهو ما يجعلها ثورة شعبية كبرى بالمعنى الاصطلاحى للكلمة، واذا ما كان البعض يعتبر ان الثورة الفرنسية هى بداية عصر الحداثة فى اوروبا، فاننا نعتقد ان اذا ما قدر لهذه الثورة ان تستمر بنفس الثبات فى تحقيق مكاسبها، فانها ستكون بداية عصر الحداثة لمصر والمنطقة كلها، لذا فان الحفاظ على مكتسبات تلك الثورة اصبح مسئولية الشعب المصرى كافة بصرف النظر عن موقف بعض ابناءه منها منذ بدايتها بين مؤيد ومعارض.

وتماما مثلما كان للثورات السابقة مفكريها ورموزها، فان التحدى الرئيسى لتلك الثورة الان هو ان تنتج من بين الثوار ومؤيديهم ومن تأثروا باحداثها دون ان يكون لهم موقفا واضحا منها وفوجئوا بما حققته من نجاح، كتاب ومفكرين وادباء وعلماء وفنانين وسياسيين واقتصاديين ونقابيين يعبرون عنها، ويحولون حالة الطهارة والنقاء والوعى الجزئى التى تحققت الى حالة كلية شاملة، عن طريق تعميق تلك الحالة واستثمارها فى رسم طريق الحداثة والتقدم لذلك الوطن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى