الأربعاء ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم مهند النابلسي

مصائر الأشخاص وعبث الأقدار!

يلخص الروائي ربيع جابر في روايته «أمريكا» ومن خلال 430 صفحة و126 فصلا قصة حياة «مرتا حداد» الشابة الفقيرة الجميلة، التي هاجرت لأمريكا من جبل لبنان في بدايات القرن الماضي بحثا عن زوجها.ويستعرض خلال روايته الشيقة الأحداث والمغامرات التي واجهتها برباطة جأش، والتي صورت بدقة وتفصيل المعاناة الشخصية أمام خضم تأثيرات وتداعيات الحربين العالميتين ووباء الانفلونزا والأزمة الافتصادية العالمية في العام 1929. كما تناول بالتفصيل التسجيلي التطورات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرات ذلك على المهاجرين خلال العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين.

ما أدهشني في هذه الرولية الملحمية الطويلة طريقة السرد الشيقة «الغير مملة» التي تعتمد على الجمل والفصول القصيرة التي لا تتجاوز في معظمها الثلاثة او الأربعة صفحات، ومن ثم تقسيم الرواية لأربعة أجزاء. الرواية ممتعة وتدخلك الى الحدث بواقعية وضمن نمط وصفي ينبض بالحياة، وتشبه لحد بعيد اسلوب«هيمنجواي» وطريقة وصفه المذهلة، كما أنه يعتدمد اسلوب «التصوير السينمائي» من حيث تمكن الكاتب من اضاءة الأحداث والتفاصيل والاحاطة بالتفاصيل في سيناريو مترابط. والكاتب لا يلجأ للتنميق والفذلكة، وانما للتعابير المباشرة المؤثرة مستخدما في أحيان كثيرة تعابير عامية واصطلاحات امريكية دارجة، بغرض ادخال القارىء داخل الأحداث وكأنه يصيغ التعابير مستخدما اسلوب التصوير الثلاثي المجسم (الدارج حاليا في الافلام)، فعندما يتحدث عن شجرة التين العائلية يقول:غطوا أغصانها ببطانيات الصوف فلم يتمكن الجراد من أكلها! ثم يقول في أحد فصول جو حداد (الثلاثة) مصورا لحظات ما بعد الموت:

كانت هذه اللحظة أغرب ما عرفه في حياته: شعر أنه يخرج من جسمه ويطفو فوق الأسرة. ينظر الى الوجوه ويتعرف اليها...مع أن معظمهم نيام! ثم يصور ببراعة مشاهد الحرب الكونية الاولى: واخرجت من تحت الأرض جثثا متعفنة....وبينما يقطع المروج ويرى الرصاص ويحصد السنابل والرؤوس شعر أنه لا يقهر! ثم يتساءل عن «الانفلونزا الاسبانية»: لماذا طرد هذا الوباء خارج الذاكرة البشرية بالرغم من أنه حصد الملايين! ثم يصف الحياة الغريبة لجندي سوري— أمريكي: كلما أرسلونا الى معركة انتهت قبل أن نصل! لم يؤذ حتى يده لأن الحرب قررت أن تمر جنبه دون أن تلمسه! ويصور بطريقة سينمائية حدثين هامين، أولهما تداعيات الحرب الكونية الثانية: غواصات اخرى اختفت عقدين من الزمن في الدائرة القطبية، وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية ظهرت من جديد صدئة وشبه معطلة في بحر الشمال يقودها بحارة ابيض شعرهم وتخت عظامهم في سنوات الاختباء! ومن ثم ينتقل بنفس الكاميرا الروائية واصفا تداعيات الانهيار المالي المفاجىء في «وول ستريت» (في العام 1929): لم يرم أحد حجارة على المصرف. الناس داروا دائخين حول الابواب المغلقة ثم تبعثروا تحت المطر الحزين!

ويتحدث عن ومضات التواصل البشري: وصل الصوت اليه آتيا من مجرة اخرى. وافقها الرأي وهو يبحث في عينيها عن أثر من شعاع قديم . وخيل اليه انه يرى شيئا .في اللحظة التالية أظلمت نظرتها وغاب عنه كل أمل! وعن الشوق والحنين للعائلة يقول ببلاغة مجازبة: تراصت العائلة، تداخلت الحجارة مثل حائط الدك. نسجوا الخيوط المتينة وتعلقوا هكذا فوق النسيج المتين:كانت الهاوية تحت أقدامهم على الدوام، لن تذهب الهاوية السوداء الفاغرة الفم....لكنهم في الأعلى، على النسيج المتين، بنوا حياة جديدة. لم يكن بيت عنكبوت!

ويصف حالات الاسترخاء مابين خضم الأحداث المتواترة: كان الهواء يداعب وجهها ورائحة الملح والطحالب البحرية تنسيها العالم الواقعي! ثم ينهي روايته بطريقة مجازية وكأنه لا يريد لبطلة الرواية أن تموت: هكذا اريد أن اتركها، في الحديقة التي زرعتها تفاحا في «باسدينا»، تسمع خرير المياه وتحيا الى الأبد!

تكمن أحد مزايا جاذبية هذه الرواية في الاختيار الموفق والمعبر لعناوين الفصول سواء بالعربية أو الانجليزية مثل: «ناس الطريق وسبرينغ فالي وجزدان الحرير واخرجوا موتاكم أو الحياة الغريبة لجندي سوري—أمريكي...الخ»، وفي التتابع المتسلسل للأحداث وكأنه بنى «خارطة طريق» لروايته دمج فيها الأحداث الشخصية لابطال الرواية مع السياق التاريخي لأمريكا والحربين الكونيتين ووباء الانفلونزا وانهيار الوول ستريت، وقد ضمن الرواية جملة من المعلومات التاريخية القيمة التي تخص الجالية السورية تحديدا، منها الأسباب التي دعت لنمو عدد السوريين المغتربين الى خمسة آلاف وذلك عندما رفعت مصانع فورد الاجور، واشتباك السوريين بالسكاكين في مانهاتن السفلى في العام 1945 بسبب خلافات وانقسامات دينية ومناطقية، كذلك فهو يفاجئنا في الفصل 74 بمعلومة تتعلق بكيفية نجاح السوريين بالحصول أخيرا على الجنسية الأمريكية (في العام 1915)بالرغم من قناعة الرئيس ويلسون الذي كان يعتبر السوريين عرق أصفر صيني!

تمكن "ربيع جابر" خلال روايته أن يقود القراء في رحلة روائية ممتعة حافلة بالشغف والسرد التلقائي مستنطقا التاريخ، ساردا بجمل رشيقة الوقائع والتفاصيل اليومية، مثل تناوله لأحداث انتشار الانفلونزا الاسبانية وحالات التعامل مع جثث الموتى (الفصول المعنونة:اخرجوا موتاكم!)، وكذلك وصفه الدقيق للحالة السائدة بعد انحسار الوباء وانتهاء الحروب.

لقد استطاع بمهارة أن يسلط الأضواء على مصائر أبطاله وعبث الأقدار بهم، واعتقد أنه استند لكم كبير من الأبحاث والروايات والوثائق الصحفية والمذكرات الشخصية، مما أعطى لروايته نفسا تسجيليا شيقا، وحولها لنموذج "عملي" (يحتذى به )لكيفية كتابة الروايات الجميلة الممتعة.أخيرا تكمن المفارقة المدهشة في أنه بالرغم من براعة الوصف ودقة الالمام بالتفاصيل، الا أن الكاتب الشاب لم يزر أمريكا ولو مرة واحدة في حياته، وهذا مؤشر على"النبوغ الروائي"وخاصة اذا ما علمنا أن اولى رواياته قد صدرت في العام 1992 (سيد العتمة التي نال عليها جائزة الناقد للرواية).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى