الأحد ١٣ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم سمير صابر الجندي

الأستاذ رؤوف

الأستاذ رؤوف يجلس كعادته وراء طاولته في المكتبة، يضع على عينيه نظارة بإطار شفاف تختفي بين معالم وجهه، يستعين بها كلما همَّ بالبحث عن معاني المفردات في لسان العرب، لا أعرف كيف أبادره بالكلام، فهو متجهم، عابس، ذو نظرة حادة تضفي على وجهه الوقار والهيبة، كلما قررت التوجه إليه بالكلام، وجدتني أتقدم خطوة وأتراجع خطوات، ثم أقرر تأجيل الحديث معه إلى يوم آخر، عندما يكون مزاجه صافياً، أنتظر فرصتي بفارغ الصبر، ارقبه من بعيد، وكلما أطلتُ الانتظار زاد ترددي، أنظر إلى وجهه المستدير، وعيناه المحاطة بالسواد، ورأسه المشتعل شيبا، حتى لون بشرته القمحية يبث في نفسي الرهبة بالبوح، إنه يطيل النظر إلى شاشة حاسوبه الشخصي، يخيل إلي بأنه صار جزءاً من الزاوية التي يجلس فيها كل يوم، يأتي إلى المكتبة وبيده حقيبة سوداء، فيها حاسوبه، وبعض أقلام، ودفاتر، يتناول كتاباً يبحث بين صفحاته، يتركه ويتناول آخر، وعندما يجد ضالته ترتسم على وجهه علامات الارتياح، فتخرج من بين شفتيه ابتسامة رقيقة تدل على فرحة غامرة، قررت انتظار فرصة كتلك التي يصل فيها إلى الابتسام.

انتظرت ابتسامة الأستاذ رؤوف لحظة بلحظة، ثمان ساعات انتظرته في ذلك اليوم، لم يطرأ تغييراً على وجهه، بل كانت نظراته أحدّ من السيف، كدت أفقد رغبتي بمكالمته، يئست تماما من نيل فرصتي، سألت أمين المكتبة أن يُقدمني له، ورجوته بذلك، فقال لي اذهب وتحدث معه بما تريد، فهو رجل لطيف، هممت بفعل ذلك، تقدمت بخطى بطيئة باتجاه طاولته التي تتكدس عليها المراجع، إلا أنني عدلت عن نيتي، عندما رأيت تقطيب حاجبيه، عدت إلى مقعدي في الطرف الآخر من المكتبة، أحمل خيبتي، لكن اليأس تحول فجأة إلى إصرار من نوع ما.

أخذت قراري لمحادثة الأستاذ في اليوم التالي، عندما سالت نفسي عن السبب الحقيقي الذي يمنعني من التوجه مباشرة نحو الأستاذ ومحادثته، فهل يعود السبب إلى حيائي من شخص الأستاذ؟ أم هو خوفي من ردي خائبا؟ أم الاثنين معاً؟ في اليوم التالي حملت نفسي وجمعت كل ذرة من شجاعتي، وأخذت نفساً عميقاً، ثم توجهت بخطى ثابتة نحو طاولة الأستاذ، وقفت أمامه مباشرة، لكن لساني انعقد، ونسيت كل المفردات، قلت في نفسي الآن عرفت الإجابة عن أسئلتي، لكن الذي أنقذني من هذا الموقف المحرج هو الأستاذ رؤوف نفسه، عندما سأل عن حاجتي؛ سألته بحياء: هل لي بخمس دقائق من وقتك الثمين يا أستاذ؟ قال: تفضل قل ما عندك. أنا محمود عبد الله، عمري ثمانية عشر عاما، تركت الدراسة قبل خمس سنوات بعد استشهاد والدي في الانتفاضة، خرجت باحثا عن عمل أكسب منه بعض المال لمساعدة أمي بتربية أخواتي الثلاث، وهذا الأمر لم يرق لأمي ولا لي فقد كانت رغبة والدي قبل استشهاده أن يراني محاميا قد الدنيا، لذلك فإنني جئت إلى حضرتك لكي تساعدني في دروسي، فلا مدرسة تقبل بي بعد أن تركت التعليم لمدة طويلة.

رماني بنظرة لم أدرك مراميها، ثم قال: وهل تملك تكاليف هذا الأمر؟ إذ أن أجرة الساعة الواحدة عشرون دولاراً. أليس كثيرا يا أستاذ؟ هذا هو الثمن فإن لم تستطع توفيره فلا داعٍ للدروس، قال ذلك ثم انكفأ على قراءة كتاب يسكن بين يديه.

سرت هائما، متألما، ساخطاً، مستغربا؛ فهو على عكس ما وصفه الجميع، تُرى ماذا حصل للناس؟ أصابتني أوجاع في كافة أنحاء جسدي من رأسي إلى أسفل قدمي شعرت بالتمزق في كل خلايا جسدي، اعتصر قلبي الألم وعقلي أصابه الفزع، أين تواضعه الذي وصفه الناس لي؟، فهل يمكن أن يكون الإنسان متكبرا ومتواضعا؟ بخيلاً وكريماً؟ قاسياً ولطيفاً؟ عالماً وجاهلاً؟ أسئلة حيرتني لم تُسكن نفسي بل أججت ثورة عارمة على المجتمع، فلماذا أنا بالذات الذي يتعرض للانتكاسات المرة تلو المرة؟ أين عدالة السماء؟ أين الرحمة؟

رجعت إلى البيت متأخراً، لم أدرك أن الوقت قد داهمني وخطف معظم ساعات نهاري وجزءاً كبيراً من ساعات المساء، كان الهدوء مخيما، الجميع نيام، حمدت ربي أن أمي وأخواتي، يغطون في نوم عميق، فتحت دُرج مكتبي المتواضع، وأخرجت صندوقي الخشبي الذي احتفظ فيه بجميع مدّخراتي، أخذت أحسب ما بحوزتي من مال، لم يكن جميع ما ادخرته كافياً لأكثر من عشرين ساعة أدرسها مع الأستاذ رؤوف.

أنا أريد تحقيق رغبة والدي، فقد صار تحقيقها حلم لا يغادر تفكيري، وأمل لا يوازيه أمل، أريد أن أصبح محامياً، وأن يكون لي مكتباً يطل على طريق واسع- مكتب المحامي محمود عبد الله- سأدافع عن الأسرى، والمظلومين، ولن يكون المال عقبة أمام أي مظلوم، سأكون نصيراً لهم.

اليوم الخميس وأنا أتفاءل كثيرا بأيام الخميس، خاصة وإنه يسبق يوم العطلة الأسبوعية، خرجت من بيتي في صباح ذلك اليوم، ارتديت أجمل ملابسي، لمَّعت حذائي، أخذت بعضاً من دولاراتي، سرت من باب الحديد إلى الحرم، مشيت تحت الأروقة باتجاه باب الغوانمة مروراً بجانب باب المجلس، صعدت درجات عقبة صهيون، باتجاه حارة السعدية مرورا بعقبة شداد فالمئذنة الحمراء، حتى خرجت من البلدة القديمة عبر باب الساهرة، متوجهاً إلى المكتبة كان شارع صلاح الدين مكتظاً بالسيارات، والناس، والبسطات المنتشرة على الأرصفة، اختلطت الأصوات فما عدت أميز نداءات الباعة من زامور السيارات من مكبرات صوت سيارات جيش الاحتلال الصهيوني، من صوت متظاهرين يستنكرون الحرب على غزة، من صوت سيارات الإسعاف، اختلط الحابل بالنابل، خاصة عندما علت طلقات الجنود فسكتت كل الأصوات، امتزج الغاز السام مع دموع ودماء ودعاء، رجال ونساء، أطفال وشيوخ، دخان وبصل ودموع، زجاج مبعثر في كل المساحات، حجار ورصاص، عصي وبنادق وصدور عارية، قمع وإيمان، صراع ودفاع عن البقاء والخلود، كلمات وملاحم خلدت أنكيدو، رغم طوفان الظلام، قتل وترويع، وأزيز أفٍ من الطائرات، قنابل بكل التسميات أسوأها ما يشبه العنقود، وما لا يوصف بالكلمات، طفل في العاشرة يتلوى بين هراوات الحقد، امرأة ترمي نفسها فوق الطفل فتأخذ نصيبها من اللكمات، تحاول تخليصه من أيديهم المسمومة، تلمست طريقي محاولا تفادي كل العقبات، حوّلت مساري، رجعت أدراجي، دخلت شارع الرشيد، تسارعت خطواتي، كانت المكتبة في مكانها، والأستاذ رؤوف في مكانه، والمراجع في مكانها، ورفوف الكتب تنتظر من يعبث بمحتوياتها، وأمين المكتبة في غرفته يشاهد على شاشة تلفازه الصغيرة طائرات اليهود تقذف بحممها على أهلنا في غزة، سرت باتجاه الأستاذ، جلست بجانبه قائلاً: موافق يا أستاذ متى نبدأ درسنا؟ كل أحد وثلاثاء وخميس في تمام الثالثة عصرا، فإن تأخرت عن الثالثة تفقد الدرس في ذلك اليوم وتدفع ما عليك من دولارات. وافقت على هذا الشرط أيضاً دون جدال أو مساومات.

يوم الأحد كان أول لقاء مع الأستاذ، الساعة الثالثة تماماً، قدم لي خطة دراسية أعدها مسبقاً، ساعة واحدة، كاملة، دون كلل أو ملل، لم يقف لحظة واحدة، ستون دقيقة متواصلة، كنت له ورقة بيضاء أخذ يرسم عليها بخطه الجميل، حفر المعلومة حفراً على جدار قلبي، عشرون لقاء انتهت، بسرعة الريح التي طارت معها دولاراتي.

اليوم الثلاثاء، قبل الثالثة بخمس دقائق، جلست كعادتي بين يدي الأستاذ رؤوف والكتاب والقلم والدفتر؛ وقلقي ويقيني وإيماني، الثالثة تماما، سألني ألم تنس شيئا يا محمود؟ لقد نفذت مدَّخراتي يا سيدي، إذاً، لا درسَ اليوم.

عاد الأستاذ رؤوف إلى كتبه، وحاسوبه؛ وتقطيب حاجبيه، ولم يعرني التفاته، عدت أحمل همومي، وحيرتي، وصراع أفكاري، تبعثرت لحظتها آمالي، كدت أنهار، فأنا ما زلت قبل منتصف الطريق بمراحل، وحيدا بين مطرقة وسندان، مرت أيام قاسية انقطعت فيها عن دراستي، كنت أسير أفكاري وخيباتي، لم يكن أمامي إلا البحث عن عمل ثانٍ، عملت في مطعم ساعات المساء، كنت أقف خمس ساعات متواصلة أغسل فيها الصحون والأواني مقابل أجرة ساعة واحدة للأستاذ رؤوف، عدت إلى دروسي مع الأستاذ رؤوف، حاولت جاهداً أن لا أتأخر عن الثالثة، برغم الثمن الباهظ الذي كنت أدفعه للأستاذ إلا أنني بعد كل لقاء معه كنت أشعر بتقدمي أميالا باتجاه كلية الحقوق، كان أمينا بإيصال المعلومة إلى فهمي وإدراكي، وكنت أنظر إلي علامات الرضا في عينيه يوما بعد يوم...

استيقظت مبكرا فاليوم إعلان نتائج الثانوية، بل لم تغمض لي عين تلك الليلة، تقلبت على لهيب انتظاري، تعبث بي أفكاري العاصفة، أُحملق بصندوقي الخشبي الفارغ، أمرر ناظري على الكتب المستلقية فوق المكتب، ثم أنظر إلى صورة والدي المعلقة بعناية وسط الحائط المقابل لسريري الخشبي، يخيل لي بأنه يبتسم من كل قلبه هذه المرة، ساعات الليل بطيئة كأنها تسير مكانها مثل جنود الحراسة أمام أبواب السلاطين...

فجأة وقبل أن يحين موعد الخروج من البيت تملكني القلق، وأصابتني قشعريرة غريبة، خفت من المجهول، فماذا سيحصل لي لو أنني رسبت؟ أيذهب تعبي وسهري ووقوفي ساعات طويلة أمام المجلى؟ لم أجد الرغبة بمعرفة النتيجة، كومت نفسي بالسرير وأسدلت ستائري.

نهضت مذعورا ارتدي ملابسي بسرعة خيالية، أريد معرفة النتيجة مهما تكون، أردت التخلص من براثن أفكاري السوداوية، تفقدت هاتفي النقّال، فوجدت عليه ثلاث مكالمات فائتة، لم أدرِ ممن ولم أعطِ بالا للأمر، لكنه رنَّ مرة أخرى، فمن يا ترى يُصرُّ على محادثتي، كان في الطرف الآخر -ويا للمفاجأة- إنه الأستاذ رؤوف، قال لي جملة واحدة لن أنسى وقعها في أذني: مبارك، لقد نجحت يا بطل...

عندها فقط تنهدت وتنفست الصعداء، ومن فوري أخبرت أمي وأخواتي فلم تسعهن الدنيا من شدة الفرح، ثم ذهبت من فوري إلى المكتبة، فوجدت الأستاذ رؤوف في مكانه، وعندما وقعت عيناه عليَّ استقبلني بابتسامة من وجد ضالته، وقال لي: اذهب من فورك للتسجيل في كلية الحقوق، فالمقاعد محدودة، أطرقت راسي دون أن أتكلم، فأنا لا أملك تكاليف الجامعة، فتح الأستاذ رؤوف حقيبته السوداء وأخرج منها مجموعة من الأوراق قائلا: هذا طلب الالتحاق، عبئه وقدمه إلى دائرة التسجيل، استغربت منه هذا الأمر، ذهبت من فوري فاستقبلني موظف التسجيل بوجه مبتسم كأنه يعرفني منذ ألف سنة، ناولته أوراق التسجيل فقدم لي وصلاً بمبلغ الساعات التي سجلها وبقيمة طلب الالتحاق، عجب الموظف من استغرابي فسألني: ما بك؟ قلت: أنت تعطيني وصلا باستلام رسوم التسجيل والالتحاق وأنا لم أعطِك فلساً واحداً ولا تريدني أن استغرب الأم؟

ابتسم قائلا: لقد دفع الأستاذ رؤوف جميع الرسوم وأوصى بك خيراً.

زاد استغرابي، فعدت إلى المكتبة حيث الأستاذ رؤوف، لم يكن موجوداً في مكانه، لأول مرة لم يتواجد الأستاذ رؤوف في مكانه، فقد التحق بعمله في كلية الحقوق التي صرت طالباً فيها، وبعد أول محاضرة لي في الكلية كانت مع الأستاذ رؤوف، لم أنظر نحوه طيلة المحاضرة حياءً، وعندما انتهت المحاضرة، انفرد بي جانباً ليقول: يا بني، أنا لم أدفع من جيبي فلساً واحداً؛ إنها دولاراتك التي احتفظت بها لك، كي تصبح محاميا قد الدنيا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى