الأربعاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم توفيق الرصافي

صـفير المـوت

رمى القلم بعصبة على المكتب و مشى في أرجاء الغرفة يلوك غيظه و حنقه، و يلعن في سره كل شيء. نظر إلى نفسه في مرآة النافذة فبدا له وجهه مرسوما في شجرة عملاقة تقف مثل هيكل دون حراك. تفحص الوجه الطويل بعناية فقرأ في عينيه ألما و حزنا قاتلا و مسح بيده قطرات من الشحوب الذي تجمع في تحد صارخ فوق أرنبة الأنف ثم عدل وضع الرأس فوق غصن الشجرة العاري وطفق ينظر في ذهول إلى لاشيء. الكون الفسيح أضحى خانقا مثل العيش في بالوعة، و أوجاع الرأس المثقل بهموم الدنيا و أحلام التغيير تفاقمت حتى باتت كابوسا مزعجا لا يفتر عن الانقضاض عليه في كل خلوة من خلواته...

عاد إلى مكتبه منهكا مجهدا كارها لكل شيء. حروب، حرائق، احتلال و قتلى في كل مكان.. إلى أين يريد أن يصل هذا الإنسان الأحمق.. رمى الجريدة في توتر و جمع يديه على المكتب ثم ألقى برأسه على يديه وبقي ساعة يصغي إلى الصخب والهرج المتزايد في رأسه و الذي يكاد يفتك به.

أظلمت الحجرة الصغيرة فبدت تفاصيلها مثل أشباح ترقص عارية على موسيقى عارية. تناهى إلى مسامعه طرق خفيف ثم صوت الباب وهو يفتح بهدوء،ثم صوت أقدام خفيفة لا تكاد تلامس أديم الأرض.

بقي جامدا حتى جاءه صوت:

ـ هذه رسائل وصلتك هذا الصباح..

و لما لم ينبس تابع الصوت الأنثوي الرخيم:

ـ أكيد.. كل الجرائد قد قبلت نشر قصصك و..

وسكت الصوت بإشارة من يده و هو مغرق رأسه في المكتب. شعر بالانقباض و هتف في صمت مميت:

ـ أرأيت.. حتى هذا الجسد احترق مثل الحلم بالثورة و التغيير..

ـ بل عقلك أرجح عقل..

ـ لا أحد يريد أن يستمع لصوته..

ـ إن لم يكن اليوم فغدا..

ـ الطمع و الفجور و الخبث سادة العصر..

ـ لا بد من يوم يسطع في نور الشمس في كل القلوب..

ـ أشك.. مادامت الرؤوس معلقة في أغصان عارية فلا تنتظري أي شيء..

شعر بالانقباض يسيطر عليه وهو يسمع صوت الأقدام الخفيفة يبتعد في ارتباك. ولما أحس بالباب قد أغلق رفع رأسه ببطء و قلب عينيه في الظلمة لوهلة فبدت له الأشياء حوله بلا معنى، تافهة، فاقدة لكل قيمة، أضاء مصباح المكتب و فتح الظرف الأول فوجد الرسالة بيضاء دون خدش، ثم فتح آخر فصفعه البياض المرسوم فوق السطور و عاد ففتح آخر وآخر.. جمد في مكانه لحظة ثم رمى كل الأوراق و هرع إلى النافذة و قد تهلل وجهه وظهر عليه البشر. نظر إلى الأسفل فبدا له الأسفل بعيدا قاتما لكنه سمع صوت صفير و كأن الريح تعبث بجدع الشجرة.

رفع رأسه و نظر إلى الأغصان اليابسة ثم إلى السماء و قال:

ـ الآن عرفت لماذا بدت صورتي شاحبة.. و عرفت لماذا تبدو كل هذه الأغصان يابسة عارية..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى