الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١

الحداثة: المفهوم والسمات والمستويات

نورالدين علوش

يكتسي النقاش حول قضايا الحداثة أهمية خاصة بالنسبة لمجتمعنا العربي والإسلامي، لاعتبارات عديدة منها:

 إن ظاهرة التحديث قد اكتست طابعا كونيا في ظل ما أصبح يطلق عليه بالعولمة.

 إن هذه الظاهرة التي أثارت نقاشات واسعة في الغرب والتي أفرزت وجهات نظر وأطروحات مختلفة ؛ما زالت لم تحظ بما تستحقه من عناية من طرف مثقفينا بل هناك مقاومة لهذه الظاهرة، تختفي وراء أقنعة الأصالة والهوية والحفاظ على القيم.علما بان فكر الحداثة كما سيتبين لايلغي هذه المرتكزات لان المنظور الديناميكي لعلاقة التقدي بالحداثة مثلا، يقر بتضمن التقليد لدينامكية داخلية تسمح بالانفتاح على الجديد وبالتكيف مع قيم المجتمعات العصرية وباستيعاب ودمج هذه القيم وفق الخصوصيات المحلية والذاتية.

 إن واقع التقدم في الغرب والوثيرة التي يخضع لها تطوره في مختلف الميادين هو بمثابة تحد لنا، نحن الذين ما زلنا نصطدم بتأخر مجتمعاتنا وبالعوائق التي تحول دون تجاوز هذا التأخر.

إذا كانت المجتمعات العربية لازالت في مرحلة التأسيس للحداثة فان الدول الغربية تجاوزتها وبدا الحديت عن عن مرحلة ما بعد الحداثة.

ماهية الحداثة

- تجليات المفهوم

هناك مفارقة كبيرة تبرز أمام كل باحث يعالج مسالة الحداثة، وتتمثل في الاستعمال المكثف لهذه الكلمة وسعة انتشارها في الأوساط الثقافية والسياسية والإعلامية من جهة ؛ وغموضها والتباسها من جهة أخرى. ويمكن إرجاع هذا الوضع المفارق إلى عدة عوامل:- أن صياغة الكلمة حديثة العهد، فلفظة حداثة حسب موريس باربي لم تظهر سوى سنة 1823 وكانت تعني ببساطة خاصية ما هو حديث. غير أن هذا النعت ظل عاما ومجردا ولم يخرج عن إطار ما هوراهن أو حالي. لذلك فان الحداثة تنطبق على الفترة المعاصرة في الغرب بما تمثله من تقدم في مختلف الميادين ؛ وهي تعارض الماضي باعتباره تجسيدا لما هو قديم.

 سينتج عن ذلك عامل أخر، وهو غياب الكلمة من القواميس الفلسفية أو حضورها الباهت ؛ علما أن مقولة العالم الحديث شكلت موضوعا فلسفيا بامتياز من كانط وهيغل وماركس إلى هيدغر وفوكو ودريدا مرورا بنيتشه وفيبر...

مثلا لم يخصص اندري لالاند لكلمة حديث سوى نصف صفحة، ضمن معجمه الفلسفي الذي يتجاوز 1300 صفحة؛ حيث اقر بان هذه اللفظة ظهرت في القرن العاشر الميلادي، ضمن النقاشات الفلسفية والدينية التي كانت قائمة آنذاك. وتعني ما هو جديد ومنفتح ومتحرر ومحب للتغيير. ولم يشر إلا بشكل عابر لمفهوم الحداثة الذي يفد التحولات الضرورية والتقدمية للفكر مع الإشارة إلى التاريخ الحديث والى الفلسفة الحديثة التي يقترن تأسيسها مع ديكارت وبيكون.

 أما العامل الثالث فيطرح علاقتنا نحن بالحداثة، فباستثناء بعض الومضات التي أبانت عن فكر تنويري متأثر بالغرب في أواخر القرن التاسع العشر وبداية القرن العشرين؛ ومواجهتها للتصورات التقليدية في مجال الفكر والثقافة والمجتمع. فان ما يدعوه فيصل دراج بالحداثة العربية المتأخرة التي برزت بعد هزيمة 1967 ؛ جاءت ملتبسة وضبابية واقتصرت على المحاكاة والتقليد زاهدة في السياق التاريخي وفي أسئلة الإنسان العربي ومشاكله. لذلك انشغلت بمجالات اقرب إلى الهموم الذاتية ( الشعر والإبداع الفني) ولم تر في الحداثة شانا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.

إن هذا الوضع المفارق يستدعي الوقوف على التمييز بين لفظتي الحداثة والتحديث ؛ حيث نجد جورج بلاديني قد لاحظ بهذا الصدد، أن اغلب الدراسات في مجال العلوم الاجتماعية قد ركزت على موضوعة التحديث أكثر من تركيزها على موضوعة الحداثة. ولم تؤد الدراسات على كثرتها من إزالة الخلط بينهما؛ علما بان الحداثة تتخذ هيئة بنية فكرية جامعة الخصائص المشتركة بين الدول المتقدمة على مستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. في حين يشير التحديث إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات والعمليات التي تسمح باكتساب هذه الخصائص لذلك فان مفهوم التحديث يتخذ مدلولا تاريخبا مقابل المدلول البنيوي للحداثة.

وفي هذا الإطار أيضا ميز المفكر العربي هشام شرابي بين التحديث الذي اعتبره بمثابة سياق التحول الاقتصادي والتكنولوجي كما جرى تاريخبا ولأول مرة في أوروبا، وبين الحداثة التي اعتبرها من الزاوية البنيوية مجموعة من العناصر والعلاقات التي يتألف منها الكيان الحضاري المدعو حديثا ؛ والنزعة الحداثية التي تعني الوعي بالحداثة وتحمل في طياتها فكرة تغيير الذات والعالم.

* المستويات الثلاث للحداثة

لايمكن الحديث عن الحداثة فقط في بعدها الفلسفي، بل لابد من الحديث عن أبعادها السياسية والاقتصادية والقانونية.

 فعلى المستوى التقني- الاقتصادي: تحدد الحداثة نوع العلاقة مع الطبيعة حيث أن هذا التحديد حسب ريمون ارون يتناول موضوع الحداثة بوصفها معرفة علمية محققة تساعد تنظيم الإنتاج عقلانيا. وذلك في سبيل إنتاجية تبلغ حده الأقصى.

إن تحويل البيئة الطبيعية هو في أساسه تغيير شروط الحياة المتعاقبة من جيل لأخر. في العصر الحديث لم تعد الطبيعة رحم كل نظام اجتماعي وأخلاقي ولم تعد انعكاسا ولا مقياسا للانسجام الأزلي. إنها مستودع القوى المنتجة التي يتصرف بها البشر. ويعطونها قيمة من خلال عمل مكثف وفعال أكثر فأكثر. ما عاد الإنسان يتموضع في الطبيعة بل في مواجهتها، وما عاد يعد نفشه عنصرا من عناصرها بل سيدا لها متابعا من خلال عمله مهمة الخلق نفسها. إن تقسيم العمل الذي تفرضه متطلبات الإنتاج غير تماما العلاقة التي يربطها المجتمع المع الوقت، هذ الوقت الذي لم يعد محسوبا بإيقاع الأشغال والاعياد المتطابقة مع دورات الطبيعة بل صار مقسما ومقدرا وفق متطلبا ت العقلية الإنتاجية.

 أما على المستوى القانوني -السياسي: تكمن الحداثة في الفصل بين دائرة الحياة العامة ودائرة الحياة الخاصة. وهذا الفصل بينهما في قلب الصيرورة التي يخرج عبرها الإنسان من قصوره المسئول هو عنه. هذا الانفصال يحدده كانط في الإجابة عن السؤال التالي: ما هو عصر الأنوار؟ كما يضع الدين وتعليم الكهنة في الدائرة الخاصة. ويقتضي دور الرئيس الدولة المثقف تامين شروط الممارسة العامة للعقل. ويشكل هذا الفصل بين الخاص والعام حجر الزاوية لمفهوم السياسة الحديث.

 على المستوى الاجتماعي -الأخلاقي: إذا كان المجتمع التقليدي مجتمعا مغلقا تحكمه أخلاقيات متشددة وتسوده منظومة عقدية ومنظومة قيم واحدة، فان المجتمع الحداثي مجتمع تداهمه مجموعة من القيم المنفتحة القائمة على التعدد وقابلية التغير والنسبية والحرية. فهو مجتمع متعلق بالمستقبل أكثر ما هو مشدود إلى الماضي.
ومجتمع يعلي من قيم المردودية والفاعلية على حساب قين الصدق والنية ومن قيم العمل والمسؤولية وعلى حساب قيم التواكل والقدرية.

* السمات الفلسفية للحداثة

للحداثة ثلاث سمات فلسفية: الذاتية والعقلانية والحرية.

 ترتبط الحداثة أيما ارتباط بمبدأ الذاتية، وهذا المفهوم متعدد الدلالات فهو يشكل مضمون ما يسمى النزعة الإنسانية. ومن ثمة فهو يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية وفاعليتها وحريتها وعقلانيتها. كما أن هذا المفهوم يحيل لدى هيغل على دلالات أخرى يوجزها هابرماس الفيلسوف الألماني في أربع دلالات:- الفر دانية وتعني أن الفرادة الخاصة جدا هي التي لها الحق في إعطاء قيمة لادعاءاتها

 الحق في النقد ويعني أن مبدأ العالم الحديث يفرض على كل فرد أن يتقبل فقط ما يبدو مبررا ومقنعا.

 استقلالية الفعل: فمن خصائص العصور الحديثة تهيؤها لتقبل ما يفعله الأفراد والاستجابة له.

 الفلسفة التأملية ذاتها فمن خصائص العصور الحديثة كذلك عند هيغل أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تجتاز وعيها بذاته.

يرى هيغل أن مبدأ الذاتية فرضته مجموعة من الاحدات التاريخية الكبرى: الإصلاح الديني والأنوار والثورة الفرنسية.
فمع الإصلاح الديني لدى لوثر أصبح الإيمان الديني مرتبطا بالتفكير الشخصي وكان العالم القدسي قد أصبح مرتبطا بقرارنا الشخصي فهذا الإصلاح قام على مبدأ سيادة الذات وإبراز قدرتها على الاختيار والتمييز كما أكدت على ذلك فلسفة الأنوار.
ومع الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقوق الإنسان فرضت مبدأ حرية الاختيار مقابل الحق التاريخي المفروض كقاعدة أساسية للدولة.

 العقلانية: بمعنى إخضاع كل شيء لقدرة العق التي هي بحث دؤوب عن الأسباب والعلل، ومن ثمة الارتباط الحميم بين مبدأ السبب بمبدأ العقل. وهذا المبدأ عبر عنه لأول مرة الفيلسوف والرياضي الألماني ليبينز في الصيغة المشهورة التي تقول لاشيء بدون علة، وبفضله يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولا بالنسبة للذات. هكذا يصبح كل شيء مفحوصا ومفهوما بل محكوما من طرف العقل وعبره يتحقق للإنسان سيادته النظرية على العالم الذي يغدو شفافا وخاليا من الأسرار.

 الحرية: ذلك أن حركة الحداثة مثلما نظرت إلى العالم نظرة ملؤها العقل وعنت بالإنسان أيما عناية، فكذلك عمدت إلى جعل الإرادة البشرية أساس بناء المجتمع والدولة الحديثين..
إن المجتمع الحداثي مجتمع اختيار المهن الخيرة ومجتمع الطبقات المفتوحة لا الطوائف المغلقة/ والمجتمع المدني الفعال النشيط لا مجتمع تبعية للدولة.. وان الدولة الحديثة هي الدولة الكونية المنسجمة المعقولة دولة المواطنين لا دولة الرعايا، ودولة الدستور لا دولة حق الملوك الإلهي في الاستبداد ودولة حرية الاعتقاد لاامبراطويية جبرية.

خاتمة:الحداثة حركة انفصال إنها تقطع مع التراث والماضي، ولكن لالنبذه وانم لاحتوائه وإدماجه في مخاضها المتجدد. ومن ثمة فهي انفصال واتصال، استمرار وقطيعة: استمرا تحويلي لمعطيات الماضي وقطيعة استدماجية له. هذا الانفصال والاتصال تمارس الحداثة حتى على نفسها فما يسمى ما بعد الحداثة لا يمثل مرحلة تقع خارج الحداثة انه اقرب إلى مراجعة الحداثة لنفسها لنقد بعض أسسها ومبادئها.

* المراجع:- محمد سبيلا الحداثة وما بد الحداثة دار توبقال للنسر طبعة ثانية 2007

 محمد سبلا وعبد السلام بن عبد العالي الحداثة دار توبقال للنشر طبعة ثانية 2007

 الدكتور عز الدين الخطابي أسئلة الحداثة ورهاناتها الدار العربية للعلوم ومنشورات اختلاف ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم طبعة أولى 2009

 الدكتور محمد الشيخ مسالة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر منشورات الزمن 2004

 مجلة مدارات فلسفية مغربية العدد 19 سنة 2009

نورالدين علوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى