الثلاثاء ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سمير صابر الجندي

أكثر اخضراراً...

كان يحيى يكبرني سنا، وبرغم قصر قامته فقد كان وسيما، يتميز بلون بشرته الحمراء، لطيف المعشر قليل الكلام، لا يتحدث إلا عند الضرورة، لكنه شجاع، عنيد في حبه للقدس، كان يملك شاحنة كبيرة، استخدمناها في إحضار دواليب السيارات المستهلكة من واد الجوز، ووضعها في أماكن التظاهر، وكنا ننقل فيها المواد التموينية التي يتبرع بها الناس لإخوانهم في القرى والمخيمات.

أنجزنا مهمتنا، ثم افترقنا كل في طريق، هو، إلى بيته في الصوانة، وأنا تدرجت إلى بيتي عبر باب الساهرة إلى حارة السعدية مرورا بطريق المئذنة الحمراء إلى حوش البسطامي، كان موعدي في ذلك اليوم مع رباب بعد الظهر، كنا نتقابل على ناصية شارع صلاح الدين، نجلس في مقهى، نشرب الشاي، نتحدث في خصوصيات الوطن، هي وأنا نكمّل بعضنا في عشق القدس، وقفت أمام المرآة التي كانت تشاركني الرأي في اختيار ملابسي، أأرتدي بلوزتي الزرقاء أم إنها تفضل رؤيتي بالخضراء التي تنعكس على عينيها فتكتسب لونها الأخضر...

كانت شمس أيار تعانق الحي، بأزقته، وأشجاره، وأطفاله، ونسائه اللاتي وقفن على فوهات النوافذ، يتبادلن أخبار الانتفاضة، في ذلك اليوم كانت الأجواء هادئة على غير العادة، اخترقت نفق نظراتهن وأنا أسير بخطى متسارعة حتى لا أتأخر عن رباب لحظة واحدة، وما كدت أصل الدرجات المؤدية إلى شجرة التوت، حتى رأيت مجموعة من خمسة جنود مدججين بالكراهية، يهرولون باتجاهي، لم أترك لنفسي القرار بل آليت الهروب من وجوههم، عندما سمعت أحدهم يصرخ قائلا: «bingo» أخذت أجري دون التفات، وهم يجرون خلفي، عبرت من أمام المئذنة الحمراء، وانعطفت يسارا عبر عقبة شداد دخلت أول باب صادفته على يمين الطريق دار الدسوقي، صعدت درجات السلم نحو السطح بلمح البصر، ثم قفزت من فوق الجدار للبيت المجاور دار الدباغ، ونزلت بضع درجات، لم تؤد إلى منفذ آخر، شعرت بنهايتي، كان أمامي باب أزرق مغلق بسلسلة حديدية، وقفل نحاسي، وفوق الباب نافذة زجاجية صغيرة تكسَّر جزء كبير منها، فيها فتحة بحجم كرة قدم، التصقت بالجدار المقابل للباب محاولا ضبط أنفاسي حتى لا يشعر بي الجنود، وقف جندي على حافة الجدار يملأه غيظ وحيرة، كانت بساطيرهم لا تبعد عني سوى سنتمترات قليلة، هم فوقي تماما، أخذوا ينظرون إلى الباب المغلق، ولم ينزلوا إلى الأسفل، لكنهم قذفوا أول قنبلة غاز من خلال فتحة الزجاج، ثم قذفوا ثانية وثالثة وخامسة، لم يكن بمقدوري تحمل الغاز، خنق أنفاسي، وأحرق عينيّ، لكنني لم أحرك ساكناً، حاولت تنظيم أنفاسي، أخذت أتنفس ببطء شديد، دارت الأحداث في رأسي، كنت سعيداً فأصبحت تعيسا بين الحياة والموت، كنت متأنقاً فصرت مهلهلاً، أنا الآن وحيد أواجه آلة القمع الصهيوني بربع نفس، وبرجل عرجاء لا تقوى على حمل جسدي المتهالك، أفكر برباب التي تنتظرني، ما تأخرت يوما عنها، قلعت بلوزتي الخضراء وأخذت أمسح ما يشبه العرق والدموع، الدخان ابيض كثيف يرتفع تارة إلى أعلى، وتارة أخرى يهبط ببطء شديد، فيلتصق بالجلد، والملابس، يكوي الجلد، ويحرق العينين، يتغلغل داخل مساماتي، كدت أغيب عن الوعي، أجفف عيني ببلوزتي الخضراء القطنية، بلوزتي التي تحبها رباب والتي أرى لون عينيها فيها، الآن قد تبللت بدموع العذاب، والقهر والوجع، قلقت على رباب ، خفت من ألمها وحيرتها، شعرت بأن الحياة تغادرني، وتقلعني من الأرض وتحطني فوق غيمة، ضاق بي الكون، وتملكني سكون غريب، سئمت الجدار، والسلاسل الحديدية، ودرجات السلم الحجرية، وحطام الزجاج، ورائحة الغاز الخانقة... غبت إلى عالم مجهول، سبحت في فضاء أحلامي، شعرت براحة مفاجئة لم أعهد مثلها...

تناهى إلى مسامعي أصوات أناس آتية من الحي، أيقنت أن لا جنودَ في المكان، صعدت الدرجات زحفا على قدم ونصف، باحثاً عن نسمة هواء خالية من رائحة الحقد، كان كل من في الحوش قد غادر مع أول موجة غاز مبتعداً قدر المستطاع، ظنّ الجميع بأنني قضيت، وصل الخبر إلى والدتي وإلى رباب ويحيى، انتشر كالنار في الهشيم، أُغلقت الحوانيت، ولم يبق أحد في المدينة لم يسمع الخبر...

رأيت بأمّ عيني بعضاً من مراسم موتي، رأيت الدموع والحزن والوجوم والحداد ومنشورات الرثاء ودعوات الانتقام، رأيت الحي يتحفز للانقضاض، لم أدرك كم من الزمن قضيت بين مأساتي ووخزات معاناتي ، استهوتني فكرة الموت، تركت لأحلامي العنان.

راودتني أفكار متلاطمة، تشدني نحو المجهول، أحسست بمشاعر من حولي، شعرت بقيمة الشهادة عند الأحياء، وعند من أحب، وجدتها في عيون يحيى والثوار، ارتقيت بنشوة الشهادة، وسما بي النصر، أن أرى هزيمة الطاغية، وانتصار الحق، أريد أن أكون همزة الوصل بين الشهداء والانتصار، أريد أن أرى كم أنا غال عند حبيبتي، أريد أن يسمى الحي الذي استشهدت فيه بأسمي، أريد أن أرى كيف يستمر النضال على خطواتي التي سرت عليها أنا والشهداء، ولكن، مهلا... فهل أنا حقا استشهدت؟

أحاول فتح عيني لأرى شعاعاً من نور، فهل هو نور القبر، أتحسس يدي بيدي الأخرى، أستطيع لمس جلدي، أنا أُحس جسمي باردا في هذا اليوم الدافئ من أيار، ولكن من أين هذا النور؟ لماذا لا أشعر بالعطش؟ وليس لدي رغبة بالطعام، لماذا لون الأشجار مختلف عما عهدته؟ إنه أكثر اخضرارا ونضارة، لا غبار في الأجواء ولا ضوضاء، سكون تام، لا يخلخله إلا صوت أمواج بحر وهي تصطدم بشاطئ بعيد، وإذا أمعنت بالإصغاء أستطيع سماع عصافير تشدو بأعذب الألحان، وأسمع حفيف أوراق شجر تداعبها نسمة عشق إلهية، وخرير جداول ماء يغوص بأعماق القلب، تلك الأصوات تتناغم في معزوفة تسكن القلب وتهدئ النفس، وفي البعيد البعيد أرى طيفا يشبه رباب، ترتدي فستانا أبيض، محلقة كفراشة ليلكية، أخذت أصرخ مناديا؛ ربااااااااااااب، ربااااااااااااااااااااب، رباااااااااااااب... هي لم تسمع ندائي ولم تتجاوب مع إشارات يدي، لكنها كانت تذرف الدمع مع كل مرة كنت أناديها، تجولت بين ذكرياتنا، عندما كنا نجلس أنا وهي وضوء القمر، نتبادل عناق الكلمات، نحلق بأحلامنا الوردية، ننسج أُسرة فيها طفل، نسميه وطن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى