الاثنين ١١ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم محمود مرعي

نظرات في «شآبيب» الشاعر شفيق حبيب

أصدر الشاعر الفلسطيني شفيق حبيب، ابن قرية ديرحنا، مجموعته الشعرية الجديدة "شآبيب" وهي المجموعة رقم 16، خلال مسيرة شعرية وعطاء قاربت نصف قرن، أمد الله في عمر شاعرنا ليمتعنا بشعره وحروفه العذبة.

لا بد قبل الولوج والسفر في أحشاء المجموعة، من التوقف مع العنوان اللافت، فهو عنوان من مفردة واحدة، اختاره الشاعر بدقة متناهية، كما يظهر، فهذه المفردة رغم كونها لفظة واحدة، إلا أن معانيها متعددة، فمنها دفعات وزخات المطر، ومنها في العدْو ، والدموع ، والحسن كذلك.
في اللسان: "الشَّـآبِـيبُ مِن الـمَطر: الدُّفعاتُ. وشُؤْبُوبُ العَدْوِ مثله. ابن سيده: الشُّـؤْبُوبُ: الدُّفْعةُ من المطر وغيره"اه. واستعيرت شآبيب في الدموع، وأنشد الخليل في هذا الموضع:
"إذا ما التَقيْنا سالَ من عَبَراتنا شآبيبَ يُنأَى سَيْلُها بالأصابع"

الشُّؤْبوبُ: أوَّلُ ما يَظْهَرُ من الحُسْنِ، وشِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ، وطَريقَتُها، ج: شآبيبُ". اه.
حين نقرأ فهرس المجموعة، نجد أنها نتألف من أربعة أقسام، ولكل قسم عنوان، وهذا يشير إلى معنى من معاني الشآبيب، قياسا على معناها – دفعات- فهي دفعات من نفث روحه ودموعه، والدموع تكون في الحزن والفرح، والشعر مخرجه الروح والنفس، وليس طرف اللسان؛ لكن أيضًا، حين نطل على عناوين القسم الأول "شآبيب" نجد أنه أيضا يحمل وجها من المعنى، لكنها دفعات ودفقات من الحزن والقهر، وحتى في قصيدته الأولى في ذكرى مولده، لم يستطع الشاعر التخلص من حزنه وألمه وغضبه، ولذا نرى أن تفسير العنوان أقرب ما يكون إلى دفعات ، سواء من حيث تقسيم المجموعة إلى عدة أقسام – على القياس، أو دفعات الحزن وما يختلج في روحه.

ونرجح معنى دفعات من الدموع هنا، كتفسير للشآبيب، فقصائد المجموعة كلها، سواء ما حملت أنفاس القهر والغضب وما إلى ذلك، أو ما حملت أنفاس الفرح والوجدانيات، يمكنها أن تُسيل دمع الشاعر، كونها خلجاته في السرور والغضب.

القصيدة الأولى، على بحر الطويل، استعمل التصريع في البيت الأول والبيت قبل الأخير، وجريًا على منهج الشعر الأصيل، كونه حقًّا الشعر الأصيل، وسندع التسميات التي يكثر استعمالها حديثًا، مثل كلاسيكي تقليدي، وما شئت من تسميات، ونقول: إنه الشعر الأصيل الذي يستحق اسم الشعر؛ في القصيدة الأولى، ومن البيت الأول الذي يختزل فيه الشاعر تجربة عمرية ويصف حاله:

(على شاطئ السبعين حطت مراكبي
وناءت بأحمال الرزايا مناكبي) ص5.

لنقف قليلا مع قول زهير بن أبي سلمى:

"سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعش
ثمانين حوْلاً -لا أبا لك- يسأم"

إن بين السبعين والثمانين عقدًا، وقياسًا مع ما مر من العمر، يصبح هذا العقد قصيرًا، كغفوة؛ زهير في بيته سئم الحياة وتكاليفها، ومن يعش ثمانين حولاً يسأم، كما يقرر، لكن شاعرنا لا نرى عنده السأم، بل استعمل مفردة الشاطئ والمراكب، والمراكب تأتي للشاطئ ثم تعاود السفر والرحيل لترسو على شاطئ آخر، رغم أنه في ختام القصيدة أوضح أن المراكب ستمضي نحو المغارب، ونجد الألم لدى الشاعرين، رغم الفارق بينهما، فألم زهير يتبدى من خلال السأم وتكاليف الحياة، وإن لم يذكره، ولدى شاعرنا، من أحمال الرزايا، وهذه الأحمال لم يحملها طائعًا راغبًا، فلا أحد يرغب بأحمال الرزايا؛ فبدلاً من أن يكون شاطئ السبعين للاستقرار والراحة، نجده ينوء بحمل، أقل ما يقال عنه أنه بغيض إلى كل حر.
في البيت الثاني يفصح الشاعر عن حاله ورحلته، ليتضح لنا أن حمل الرزايا طارئ عليه وليس منه، ولا هو مسببه، لكنه حمله مكرهًا، وفي البيت الثاني يمكن أن نلمح تشبهًا بالمتنبي في قوله:

"الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم"

أما شاعرنا فيقول:

"مخرت عباب الليل والويل شاعرًا
ولم يثنني قهر وأحقاد غاصب" ص5.

(الخيل والليل والبيداء تعرفني) و (مخرت عباب الليل والويل شاعرًا)، التشبه هنا في البأس والإقدام وعدم الخوف والرهبة.

ويصرح شاعرنا عن هويته:

"أحب فلسطيني وأهلي وأرضها
إذا مسهم ضر، تنادت كتائبي" ص 5.

وقوله ( تنادت كتائبي) يكشف أنه مع الشعب ( أهله) ومنه، لا يتخلى.

في المقطع الثاني من القصيدة، نجد الشاعر الرقيق الذي تعذبه عيون الغواني، حتى وهو في السبعين، لكن تأخيره الغزل عن بداية القصيدة، ربما قصده عمدًا، فقد كان من عادة قسم من الشعراء قديمًا البدء بالغزل في مطالع القصيد، وقد قال المتنبي في هذا المعنى:

"إذا كانَ مَدحٌ فالنّسيبُ المُقَدَّمُ
أكُلُّ فَصِيحٍ قالَ شِعراً مُتَيَّمُ"

والنسيب هو الغزل والتشبيب بالنساء، وهو في الشعر حصرًا، لكن شاعرنا خالف هذا المنهج وأخر الغزل، وجرى على طريقة أبي نواس، الذي سخر من الشعراء السابقين الذين اعتادوا بدء قصائدهم بالوقوف على الديار والبكاء على الاثار:

"عاج الشقي على رسم يسائله
وعجتُ أسأل عن خمارة البلد
لا يرحم الله عيني من بكى حجرا
ولا شفى وجد من يصبو الى وتد
قالوا ذكرت ديار الحي من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد؟".

حتى من البيت الأول تظهر مخالفة أبي نواس وسخريته، بل يعتبر من يسأل عن الطلل شقيًّا، وشاعرنا يشارك أبا نواس في مخالفة الدارج، إن جاز القول، فقد أخر الغزل عن المطلع كنوع من المخالفة، لكنه لا يظهر ابن سبعين في تغزله، فهو شاب:

"تمر بي الأيام والعمر نازف
وما زلت في السبعين غض الرغائب
وإني جميل النفس حر عفيفها
ولكنها تزداد شهدًا تجاربي
أنا شاعر والشعر في كل نبضة
كبركان عشق ثائر في ترائبي
عيون الغواني كم يعذبن خافقي
ويصرعني عمدًا صدود الكواعب
عشقت حسان الحي عشقًا مراوغًا
وقاتلت حتى قيل: خير محارب
نشيد سليمانٍ صدًى في محابري
وأمطار قيس قطرة في سحائبي
تغنيت بالعشق الإلهي مدنفًا
وعدت قتيلاً في سيوف اللواعب" ص 7 - 8

في هذه القطعة، على جمالياتها، نجد ما يقال، فهو ما زال في السبعين غض الرغائب، ثم جميل النفس حر عفيفها، لكن تجاربه تزداد شهدًا، ثم يشكو من عيون الغواني، وصدودهن الذي يصرعه، وقد عبر عن الكل بالجزء بطريقة جميلة في قوله (ترائبي) كناية عن الصدر، والترائب جزء من الصدر وليست كله، ثم أمطار قيس قطرة في سحائبه، ثم آخر بيت، والذي نرى فيه نوعًا من عدم التوافق، فالعشق الإلهي أبعد ما يكون عن اللواعب وسيوفهن، ولا نرى جامعًا يجمع بينهما، إلا أن يكون تغنيه بالعشق الإلهي لسحرهنّ.

بعد هذا تعاوده أوجاعه وآلامه، وهي ليست أوجاع وآلام جسد، إنما أوجاع روح لحال أمته وما دهاها وأصابها:

"زرعت على التاريخ رايات نصرها
ونكستها حين استبيحت ملاعبي
وإني عدو العنف والقهر والخنى
وأعلو بنفسي عن صراع المذاهب
ويبقى أخي الإنسان في الكون سيدًا
ولا أرتضي إذلاله في الغياهب
رفعت لواء السلم فارتاع طامعٌ
وأصبحت صيدًا في شفار المخالب" ص 8 – 9.

تعبير عن موقف ومبدأ في الحياة (عدو العنف/ يسمو عن صراع المذاهب/ الأخوة في الانسانية/يسعى للسلم)، وفي البيت الثاني ، كلمة ( وأعلو) لا نجد شاعرنا وفق فيها، ولو قال

(وأربا / وأسمو) لأصاب المعنى المقصود بدقة أكثر، ويجوز شعرًا تخفيف همزة ( وأربأ)، وشاعرنا يعلم ذلك.

ويختم الشاعر القصيدة ببيتين:

"على شاطئ السبعين ترسو مراكبي
ستقلع عند الفجر صوب المغارب
وماذا سيبقى غير حرف كتبته
على وجه ماء في بحار النوائب" ص 9.

ونحن لا نسلم بقوله (ستقلع عند الفجر صوب المغارب)، بل ستقلع في رحلة متجددة لترسو على شاطئ الثمانين والتسعين إلى ما شاء الله، ونتمنى لشاعرنا العمر المديد، وأن يكون الحرف منقوشًا في الصدور وعلى صفحات الخلود، وليس على ماء النوائب، والدهر دولاب يعلي قومًا وينكس آخرين، لكنه يدور ، ولن يبقى المعتلي صهوته فوقها، وسيحل محله سواه.
هذه القصيدة تمثل برأينا عصارة حياة وخلاصة تجربة واختزال معاناة ممتدة في الزمن عمرًا، صورها الشاعر فأجاد واختزل فجاءت من الروعة والإبداع بمكان، وبحر الطويل يناسب موضوعها جدًّا، من حيث مضمون القصيدة، ففيه حسرة وتفجع وآه، ويصلح لها الطويل، ويظهر جودته لحن الشروقي الزجلي، فبينهما قرب، رغم أن الشروقي الزجلي على البسيط، ولا عجب أنهما يخرجان من نفس الدائرة.

القصيدة الثانية في المجموعة ( يا غبار الزمن) وهي "إلى روح الشاعر محمود درويش .. إنسانًا وزمانًا ومكانًا"، وقد جمع فيها وزنين، المتدارك ومجزوء الخفيف، وهذا الأسلوب سلكه محمود درويش بكثرة أيضًا، بل استعمله كثير من الشعراء، والمزج بين الأوزان أسلوب قديم وليس جديدًا، وما زلنا نسمع النشيد الوطني المصري:

"بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي"

فالصدر من مجزوء المتقارب والعجز من مجزوء الرمل.
يقول الشاعر :

"يا غبار الزمنْ / عاصفًا/ هادرًا في الوهنْ/يا غبار الزمنْ/يا مرايا وجودنا/ يا خوابي المحنْ/كلما لاح بارقٌ /أو غزا الليل طارقٌ/ضيعتني خيوله/في صحارى الذي مضى/في حنايا الفتن"ص 10.
اللون الأسود متدارك والأحمر مجزوء الخفيف، وجاء المزج خفيفًا على الشدو ولا يبدو غير مستساغ، تمامًا كنشيد (بلادي)، لكن الإيقاع واختلاف الوزنين سيخفى على غير ذي العلم بالوزن.

ورغم كون القصيدة تفعيلية إلا أن سطوة القافية ظلت مسيطرة على الشاعر ولم يستطع منها فكاكًا، فتراه يعود إليها بعد كل سطرين أو أكثر، وحتى عندما يأتي السطر على مجزوء الخفيف فإنه أحيانا يستعمل نفس الروي :

"أنكرتني منابري / وتلاشت شعائري/ في ثنايا الدمنْ/ أين صوت الذي/ذاب في عشقه الوطنْ/ كل ما حولنا غدا/ زائفًا/راعفًا/نازفًا/ وانهيارات قادم/ من مهادي إلى الجننْ" ص 11.
قوله ( في ثنايا الدمن) متدارك، وقوله ( ذاب في عشقه الوطنْ) (من مهادي إلى الجنن) مجزوء الخفيف.

القصيدة الثالثة (الغول والعنقاء)، جاءت على الكامل الأحذ، ولكن عنوانها وهو جزء من مثل، يعبر عن المستحيلات، وقد قالت العرب ( المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي)، وقد حذف الشاعر الأخيرة وأبقى اثنتين، وقد ورد العنوان في بيت من القصيدة، سنأتي على ذكره

"تعب أنا بعروبتي تعب
تغتالني الأحزان والنوبُ
يا أمة هزلت وما برحتْ
تجتر مجدًا كاد ينعطبُ
ما المجد إن لم يسقه خلف
بحضارة تبني وتكتسبُ" ص 16.

وتطفح القصيدة بالمرارة والألم لحال الأمة، ويصل حد الهجاء لشدة ألمه ولما يراه، كقوله:

"فاسجد لأمريكا وزمرتها
من أنت؟ لا حسب ولا نسبُ" ص 17.

بعد هذا البيت وقسوته والألم الذي يكتنفه، لدرجه السؤال من أنت؟ وإنكار الحسب والنسب، يصرخ بعده مباشرة في البيت الذي يليه:

"حدق بشمسك وانتزع قدرًا
يسمو .. فدأب الخائر الهرب" ص 17.

ويمضي حتى يختم القصيدة بقوله:

"الخزي ينخركم ويقتلني
أنتم طعام السوس يا خشبُ
أقلامكم خرق ملوثة
أحلامها الياقوت والذهبُ
تتمرغون بقبو حاكمكم
أنفاسه الطاعون والكَلَبُ
هذي جباه المارقين هوتْ
نقشوا عليها: إننا الذنَبُ" ص 19.

في المعتاد والمعروف أن السوس ينخر، لكن هنا بلغ الحال أن الخزي هو الذي ينخر، واستعاض عن نخر السوس في عجز البيت بقوله ( أنتم طعام السوس)، وما داموا طعام السوس، فهو أيضًا ينخرهم، لأنهم خشب.

ومن شدة وطأة الحال ومرارته على الشاعر ، ترك خطاب البشر واتجه بالخطاب إلى سيد الأكوان:

"يا سيد الأكوان! صرختنا
وصلاتنا يا سيدي! عتبُ
إنا نلومك كيف لا وهبت
كفاك نصرًا؟ إننا السببُ
هذا الرماد أنا.. فلا عجبٌ
أني أنا النيران والحطبُ
الغول والعنقاء وحدتنا
لا الدين يجمعنا ولا الأدبُ" ص 20.

قبل أن نغادر القصيدة إلى غيرها نتوقف مع قوله:

"الدين لله الذي هدمتْ
أركان دوره وانتشت ريَبُ" ص 18.

حتى يستقيم الوزن، يجب قراءة (دوره) بتسكين الهاء، لأن تحريكها يخل بالوزن، وهذه الهاء هي هاء ضمير الغائب، وقاعدتها: الإشباع بعد متحرك والخطف بعد الساكن، وعليه فالبيت فيه خلل وفق قاعدة هاء ضمير الغائب، والتسكين في الحشو ورد في قصائد الغناء منه.
قصيدة (زاد الغريب)، وهي كغيرها لا تخرج عن إطار الحزن والألم، وما زاد الغريب سوى لحمنا الذي يأكله ويدخره الغزاة الذين احتلوا العراق مؤونة لهم، وانظر إلى وصفه الحال يوم احتلوا العراق:

"قالوا/ أتينا بالخلاص / وبالرصاص/ يدق أعناقًا رصينهْ/ ويدك أسوارًا حصينهْ/ جاء الغزاة / ورأس حربتهم طوابير خؤونهْ/ لحمي غدا زاد الغريب/ وفي خزائنه مؤونهْ" ص 24.

ولا بد من وقفة قبل المضي، فقد ورد في القصيدة قوله:

"والجذع ضيع في ليالي القهر / والجور غصونهْ" ص 23.

في قوله ( والجور غصونه/ جور غصونه= مُفْتعلاتنْ) اعترى (متفاعلن) الإضمار والطي فسكن الثاني وسقط الرابع وهو الألف، وأغلب العروضيين حديثًا، والشعراء لا يستسيغون طي (متفاعلن) ، ولا ندري وفق أي قاعدة لا يستسيغونها، والقراءة الإيقاعية الإنشادية لا تظهر أي نشاز في الطي هنا، وذلك لأن الراء متحركة، ولا يمد في الحشو إلا هاء ضمير الغائب بعد متحرك، والطي هنا سائغ وليس فيه أي نشاز.

قصيدة (قصائدي منزوعة السلاح) وهي قصيدة تفعيلية على السريع، وسنتوقف معها عروضيًّا لبيان وزنها.

القصيدة تشيع أنفاس مظفر النواب في جانب من مفرداتها، وكذلك معانيها، وحتى سخريتها اللاذعة، كقوله:

"وأمتي مشغولة بالجنس/ واللواط والنكاحْ
فالحبة الزرقاء بيضت وجوهكم
وغذَّت الأعضاء والأشلاء/ في مخادع الملاحْ" ص 31.

ندخل إلى باب عروض القصيدة، وفيها مواضع لم تسلم من خلل في الوزن، كقوله:

"وشوهتْ ملامحي الصروفُ
والظروفُ..
في صحارى الجدب والنواحْ"ص 32.

القراءة الصحيحة هي القراءة المتصلة، لكن سيختل الوزن في السطر الأخير، لأن (في) تكملة للتفعيلة السابقة، وسنخرج إلى تفعيلة أخرى مع بداية (صحارى)، وإشباع حركة الفاء من (والظروفُ) لا يبدو مستساغًا.
قوله:

"وفي الخفاءِ
أنتمُ سادة النفاقِ والجناحْ" ص 34.

كلمة (أنتمُ) يجب تحريك آخرها، لتتم التفعيلة التي تبدأ بهمزة (الخفاءِ)، لكن بعدها يختل الوزن.
وردت (فَعو أو فعَلْ ) في أكثر من سطر، كقوله:

"فالحبَّةُ الزرقاء بَيَّضتْ وجوههمْ"ص 31
مستفعلن مستفعلن مُتَفعلن فَعَلْ
"من خبز جدتي"ص 35.

مستفعلن فعَلْ.

وفي كثير من الحوارات حكمنا أن (فعو) لا يمكن أن تكون من تخريجات مستفعلن، لأنها ليست منها، فـ(مستفعلن) بعد دخول علة القطع تصبح (مُسْتَفْعِلْ = مفعولنْ) وهنا أصبح آخرها سببًا خفيفًا، وتلزمنا علة أخرى هي علة الحذف، فالقطع يدخل على الأوتاد والحذف على الأسباب، وبإدخال الحذف (مفعو = مُسْتَفْـ) والخبن سقوط الثاني، السين، تبقى (مُتَفْ = فَعَلْ)، لكن هنا فات من يقول بهذا أمر هام، وهو أن التفعيلة تعاقبت عليها علتان متتاليتان ، فبعد دخول علة القطع دخلت علة الحذف؛ أما مفعولاتُ في السريع، فالتخريج عليها هو الصحيح والمقبول ولا يشذ في شيء؛ فقد دخل عليها الخبن فصارت (معولاتُ) ثم اعترتها علة الصلم فسقط الوتد المفروق فبقيت (معو) ، وتقرأ(فَعَلْ أو فعو). وعليه، حكمنا على القصيدة في حال اشتملت على (فعلْ) أنها من السريع وليست من الرجز.

قصيدة (ضاع مني)، وهي على المديد التام، وهي كغيرها في أحزانها ومراتها والغصة التي لا تفارق الشاعر، بدأها بقوله:

"ضاع مني ذات صحو ضياعي
وانزوى خلف الظلال يراعي" ص 56.

ويطابق اللحن الشعبي الذي تغنى عليه في الأعراس الشعبية أغنية ( شيعوا لولاد عمو يجولو) وهو لحن عذب سماعه.

وقد خالط الخفيف أحد أبياتها، وذلك في قوله:

"من يعيد الإنسان سيد أرض
وقبور الأهل ملء البقاع" ص 58

صدر البيت من الخفيف وعجزه من المديد، وقد وقع لشعراء سابقين مثل هذا، ولعل السبب في ذلك، أن اللحن يناسب الوزنين، لذا قد يلتبس الأمر على الشاعر، وهذا البيت رغم أنه من بحرين مختلفين، إذا أديناه غناء على لحن ( شيعوا لولاد عمو يجولو)، فلن نشعر بخلل في الغناء رغم زيادة سبب في الخفيف.

قصيدة (يا هداسا) وهي إهداء لطبيب جراح في مستشفى هداسا، وجاءت تفعيلية (فاعلاتن) بجوازاتها، ونجد فيها شيئًا من الشبه في الحالة مع محمود درويش في (جدارية)، يقول شاعرنا :

"حقنة كالسحر/تغذوني شرودًا.. ونعاسَا/هل أنا في الأرض؟/أم فوق الطباق السبع؟/لا أدري/ضياعًا/وصراعًا/ووجومًا.. واحتراسَا/إنني أبكي على الملقى هزيلاً/بين أسدافٍ تؤاسيني/وأحلام تواسيني/وآلام بكتني/تطحن الأخضر واليابس/في عمري/ وتذروه انهيارًا/وانحسارًا .. وانتكاسَا" ص 74 – 75.

ولدى الشاعر محمود درويش، نجد نفس الحالة تقريبًا، بفارق أن بعض الجمل عند محمود دوريش تسبق ما عند شفيق حبيب، يقول درويش:

"أرى جسدي هناك، ولا أحس
بعنفوان الموت، أو بحياتي الأولى.
كأني لست مني. من أنا؟ أأنا
الفقيد أم الوليد؟" جدارية/ص 28.
"تقول ممرضتي: أنت أحسن حالاَ.
وتحقنني بالمخدر: كن هادئًا
وجديرًا بما سوف تحلم
عما قليل" جدارية/ ص 29.

الشبه في المشهدين واضح، وهناك سواه في القصيدة لدى شفيق حبيب، كأنه مر بنفس حالة درويش من قبل وهو ملقى على السرير في المستشفى بين يدي الطبيب.

قصيدة ( كن جميلاً) على بحر الخفيف، وهي مهداة إلى شفيق حبيب الحفيد، فشفيق الجد يهدي شفيق الحفيد، وفيها يظهر شاعرنا حكيمًا ومعلمًا ومربيًا وواعظًا للصغير يعلمه الخير والبعد عما يشين، وجاءت بعض الأبيات حكمًا بليغة، تصلح أن تدرس في المناهج، وأرى أن هذه القصيدة تستحق أن تدخل مناهج التعليم، لما فيها من جماليات وبلاغة وحكمة.
يبدأ الشاعر القصيدة بالعرفان للباري عز وجل على النعمة – الحفيد – وقدومه إلى الدنيا، ويصور أثر ضحكة الطفل في نفس الجد :

"ضحكة تملأ الحنايا حبورًا
بسمة منك ذاب فيها السناءُ
بسمة تبعث الصحارى اخضرارًا
إن همتْ منك دمعةٌ.. فالدعاءُ
يا حفيدي، وكل طفل حفيدي
أنتمُ الخير غامرًا والصفاءُ
إنك الغيث في صحارى وجودي
أنت شهد الحياة .. أنت الرجاء
أنت لحن الربيع ينساب بشرًا
فالحساسين سجدٌ والغناءُ
لثغة منك يا خمر الدوالي
يا ترانيم صوته يا دواءُ" ص 81 – 82.

بعد هذا التصوير والوصف للأثر النفسي عند الشاعر وفرحه بحفيده، الذي لثغته تعادل الخمر، ينتقل إلى لون آخر وهو التعليم والتربية الحميدة لهذا الحفيد أو الوصايا وما يجب أن يتخلق به الحفيد في حياته:

"جدك الصلب لم يهن لسفيهٍ
من يهن ذل.. فالهوان انحناءُ
جدك السيف لم يداهن نفاقًا
زمرة الفحش إن طغى الأغبياءُ
صادق الخيرين واطرح لئامًا
يستوي الصدق عندهم والرياءُ
لا تكن للنُّضار عبدًا ولكن
كن عفيفًا كما الإله يشاءُ
واطلب العلم فالجهالات بؤسٌ
والحضارات نورنا واللواءُ
كن وفيًّا ولا تهادن حقيرًا
عزة النفس كنزنا والوفاءُ
يا امتدادي على صدور زمان
غادر ساد في حماه الشقاءُ
كن جميلاً كخالق الناس وانبذْ
ظلم قوم إذا بغى الأدعياءُ" ص 83 – 84.

هذا المسلك التربوي الجميل والأصيل، الذي سلكه الجد مع الحفيد مقتفيًا آثار الأجداد في التربية وزرع الخير والعزة والكرامة في نفوس الناشئة، جدير أن يكون ضمن منهاج الدراسة، فما أحوجنا للأصالة مقابل ما نراه اليوم.

قصيدة ( سماهر وعلاء) وهي (بمناسبة زواج كريمته سماهر حبيب وعلاء غنطوس) وقد جاءت على المتدارك التام، وفيها لزوم ما لا يلزم، حيث التزم ترفيل العروض والضرب على طول القصيدة، كذلك جاء فيها بـ (فاعِلُ) إلى جانب (فاعلنْ)، وهناك من لا يتقبل هذا، ويعتبر المتدارك وزنًا والخبب وزنًا آخر، وكثيرًا ما قلنا إن الخبب ليس وزنًا، بل هو إيقاع نجده في المتدارك وغيره، حتى لو اختلطت أشكال فاعلن، وفاعلُ أحد أوجه فاعلن وليست شاذة، ويناسب المتدارك لحن الأغنية الشعبية التي انتشرت في سوريا وفلسطين (شفتك يا جفلهْ عالبيدر طالعهْ)، ولاحظ أن مطلع الأغنية متدارك خببي، جاءت تفاعيلها (فعْلُنْ) ما عدا الأخيرة، جاءت (فاعِلُنْ)، وعندما قرأت القصيدة غناء لم أجد أن (فاعلُ) أحدثت نشازًا، بل جاءت سائغة منسجمة مع اللحن.

القصيدة كما قلنا بمناسبة زفاف كريمة الشاعر، فهي تعبر عن نفسه وفرحته بالحدث وصاحبته وزوجها، لذا جاءت رقيقة تفيض حبًّا وترحابًا وجاشت فيها عاطفة الشاعر فأظهر مكنونه بجمالية لا تخفى، وفي أحد أبياتها :

"جوقة شنفت أسماعنا بأغانٍ ** حالماتٍ فردت عليها السماءُ" ص 85.

كلمة (أسماعنا) تخل بالوزن، وربما هي خطأ مطبعي، ولو وضعنا مكانها ( سمعنا) لاستقام الوزن.

أما البيت الذي اشتمل على (فاعلُ) فهو آخر بيت في القصيدة:

"ليلة العمر زانت جميع الليالي ** فالعروسان سماهر وعلاء" ص 86.
ظهرت (فاعلُ) في عجز البيت، ولم تخل بموسيقى القصيدة، وذكرنا اللحن المناسب لها.
قصيدة ( يا أجمل الناس) وهي رثائية لـ (سالي ذياب وأليكس بوبان) اللذين توفيا في حادث طرق، وفيها خرج الشاعر عن البسيط العروضي، إلى وزن مستنبط منه، ربما بسبب الحالة النفسية للشاعر عند سماعه الحدث، أو محاولة للخروج على المألوف، والخروج هنا، استعمال ( متفاعلن) مكان (مستفعلن)، وقد ذكرنا الوزن في كتابنا (العروض الزاخر واحتمالات الدوائر)، ونرى شيوعًا للوزن على مستوى العالم العربي، بل إن للمطرب العراقي أغنيةً على هذا الوزن، وقد جرى حوار بيني وبين زميل عروضي من العالم العربي، يرفض حلول (متفاعلن) مكان (مستفعلن) في البسيط، ونحن نرى الوضع أشبه بالرجز والكامل، أو الرمل والمتوفر، وسنذكر شيئًا منه للفائدة؛ استمعت يومها إلى أغنية كاظم، وكانت جمية جدًّا، ومنها هذا البيت:
(صفعـت وجهـي أهـذا يازمـان أنـا... أنا الذي الحـب أخرسنـي وأعمـانـي)
وردت متفاعلن في عجز البيت (رسني وأعـ/متفاعلن)، وكان أداء الفنان العراقي كاظم الساهر، رائعًا جدًّا؛ اضف إلى ذلك، اللحن الشعبي عندنا في فلسطين وديار الشام ( سبل عيونو ومد ايدو يحنونو) وهي أغنية تغنى في ساعة حناء العريس، ويمكن لمن شاء التجريب وغناء البسيط والمنبسط على لحنها، وهنا نشير إلى أن اللحن الشعبي سينقطع في حال جاءت (مستفعلن) المتوسطة (متفاعلن)، لكن وجدناها في أغنية كاظم رائعة الأداء، ويمكن ابتكار الألحان بسهولة.

بدأ الشاعر قصيدته بقوله:

" أرثيكما.. ورثائي الدمع ينهمرُ
والحزن في جنبات الصدر يستعرُ
ألَمٌ يحرقنا من هول فاجعةٍ
أدمت قلوبًا مدى الأيام تنشطرُ" ص 91.

مطلع البيت الثاني (ألم يحر/متفاعلن)، وقد استعملها الشاعر أكثر من مرة :

"أمَلَلْتُماهُ مُقامًا في جوانحنا؟
وكنتما النور والآمال تزدهر" ص 92 .
" فإلى جنان إله، حيث عشكما
ففي السماوات لا موت ولا قدرُ" ص 93.

نذكر الآن ما أشرنا إليه من الرمل والمتوفر، وأن اللحن هو الحكم الفصل في جواز أو عدم جواز أي وزن، والمتوفر موجود في أصل الدوائر وليس طارئًا مستحدثًا، وتركيبه ( فاعلاتُكَ فاعلاتُكَ فاعلاتُكَ)، والأخيرة تسكن كافها لأن العربية لا تقف على متحرك.

لنأخذ لحنًا شعبيًّا عندنا ونطبق الرمل والمتوفر عليه، فمثلاً في الأعراس نغني خلال صف السحجة:

(خيلنا تدوس المنايا خيلنا) ونغني أيضًا ( يا صديقي لا تْبيع مْودتي) ( يا هلا حيِّ الضيوف/ بالرماحِ وْبالسيوفِ) الوزن في جميعها الرمل.

لنأخذ هذا المثال: (خيلِنا تدوس المنايا خيلِنا) ( يا صديقي لا تِبيع مْودتي):
( يا صديقي لا تُنَكِّسْ رايتي)، هنا الرمل واللحن سائغ ، ولنأخذ أيضًا ( يا صديقِيَ لنْ تُنَكَّسَ رايتي)، هنا المتوفر، وهو واضح واللحن سائغ أيضًا.

لنأخذ الآن مجزوء الرمل ( يا هلا حيِّ الضيوف/ بالرماحِ وْبالسيوفِ) ونأخذ كمثال ( طلع البدر علينا) فاللحن سائغ؛ لنغير في تشكيل البيت الشعبي (( يا هلا حيِّ الضيوف/ بالرماحِ وَبالسيوفِ)، لاحظ ( بالرماحِ وَبالسيوف) مجزوء المتوفر ولحنها سائغ مستعذب.

نلفت الانتباه إلى أمر هام، وهو أن الألحان الشعبية هي ألحان العروض الخليلي، حملها الزجل معه منذ الأندلس، وبقيت على بساطتها وحلاوتها، لذا يستعذبها الناس، وبقي الزجال حاضرًا ينشد بين الناس، فمال الناس إلى ألحانه، التي هي ألحان العروض؛ أما الشعر الفصيح، فخلال مسيرته تخلى عن أمرين هامين، هما حضور الشاعر والإنشاد، ولهذا نرى الزجل بسبب الإنشاد والغناء مستحبًّا لدى الجمهور ويجتمع عليه، بينما الشعر الفصيح أصبح يقرأ قراءة، وقل مستمعوه؛ وقد قال الخليل:

"تغن بالشعر إما كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ"

بقيت أمور قليلة نشير إليها، وهي ربما تندرج ضمن الأخطاء المطبعية، وصدرت عمن طبع المادة، لكن لا يعفى شاعرنا - وهو العارف باللغة - من هذه المسؤولية، ففي المجموعة تثبت همزة القطع في مواضع لا يجب أن تثبت، مثل ( ألغول والعنقاء) وهذا عنوان القصيدة، وقد أثبتت الهمزة في بداية كلمة (الغول)، وتكرر إثباتها في ثنايا القصيدة ( أَلغول والعنقاء وحدتنا)، كذلك، وفي نفس القصيدة أثبتت الهمزة في فعل الأمر ( أُقتل أخاك)، وفعل الأمر لا تثبت فيه الهمزة، بل يستعاض عنها بالضمة (اُقتلْ)، أو في مطلع قصيدة (زاد الغريب) حيث يقول ( أُنشرْ قصائدك الحزينهْ)، أثبتت همزة فعل الأمر.

ختامًا نقول: شاعرنا متألق ومبدع، ويغوص في خضم الإبداع بلا تهيب، وقد كان في مجموعته مخلقًا في فضاءات من الشاعرية العذبة، وملتزمًا بالطريق الأصيل، رغم خروجه، لكنه خروج زاد من العذوبة ولم يهدم، بل أضاف لبنة في جدار الأصالة، ولا نملك إلا أن نحيي شاعرنا، شفيق حبيب، ونتمنى أن يطول نزف يراعه دهورًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى