الأحد ٨ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

قصة سنغالية مغربية

شاب مغربي يتعرف على روح الدعابة عند شباب سنغالي يدرس بالمغرب، ويغرق في حب الجميلة أبيباتو...

الحرارة البشرية كانت مرتفعة إلى حدّها الأقصى في تلك الليلة من ليالي غشت في مراكش. والناس كالنمل الذي فاض من جحره بُعيدَ المطر، خرجواْ للتنسُّم بنسيم جبال الأطلس المتقلّبة المزاج. وأنا الآخر، كنملة كاد يجفِّفُ دمَها قيضُ النهار، خرجتُ لأشتريَ مشروبا بارداً لعلّني بها أتدفأ من صقيع الوحدة.

كنتُ أدرس بجامعة (القاضي عياض) في شعبة الأدب، وأقطنُ غرفة لا بأس بها في سطح عمارة متوسطة بحيّ جيليز. وكنتُ ـ كلّما استبدّت بي البرودةُ الوجودية – ألجأ إلى مطعم مجاور يصنع (حريرة صفراء رائعة بالكثير من الحمص والفول وعُصيّات العجائن..). كانت الحريرةُ الحامضةُ مثل أمّ تملأني دفئاً وحناناَ... الحريرةُ الرمضانية في غير رمضان، دفءٌ ومحبّة؛ لكن مشروب (بودراع البنفسجي) كان بمثابة (الرحمة) لشخص مثلي وحيد ومن دون عائلة...

وماذا بعد دراسة الأدب؟... عمل؟ زوجة؟ أطفال؟ لا أدب؟ شيخوخة مبكّرة؟ موت؟...

مسلسل حياتي شاهدته آلاف المرات، وفي كلّ مرّة كنتُ أطِلُّ من سطحي إلى النمل البشري وأقول له:[سوف لن أحبّك أيتها المرأة المنتظرة لأنك ستكونين الجرّافة التي ستجرفني إلى الهاوية]...

نسيتُ أن أقدّم لك نفسي؛ اسمي (جمال)، وأنا أنحدر من مدينة (القلعة) ، ولستُ أدري كيف أعطوني هذا الاسم ونحن من (العروبية) والمفروض أن أسمّى (العربي)، (الميلودي)، (اخْليفة)، أو (الجيلالي)... وليس لي من عائلة سوى جدّي رحمه الله.

في دكان البقالة الذي يبيع الموادّ الغذائية والمشروبات وأشياء أخرى لا علاقة لها بأمور التغذية، صادفتُ السيد (أمادو) السِنِغالي الجنسية، وهو شخصٌ مرحٌ ذو بشرة في بريق ولون ثمار الزيتون السوداء، وأسنان منظّمة وناصعة البياض.

أمادو، أعرفه نظرياً لأنني كنتُ أراه خارجاً من / داخلا إلى البيت الذي يكتريه هو ومجموعة من السنغاليين والسنغاليات. وكنتُ أحببتُه إنسانياً بسبب إنسانيته وخدمته لِبَني وطنه ولبني وطني من الأطفال والشيوخ والنساء.

ابتسم لي وقال بفرنسيتة الإفريقية وبمرحه المعهود:[السيد جمال... كيف حالك؟] وأضاف بشيءٍ من المكر الجميل:[أَما زلتَ تهيمُ بِ (أبيباتو)؟]

تأمّلته. تفرّستُه... فبان لي أنه لا يعني إهانتي. بل اعتبرتُ ما قال نوعاً من التعبير عن صداقة خفيّة نشأتْ في قلبه اتجاهي.

(أبيباتو) في العشرين، ولونُ بشرتها في لون الزيتون الذي نعتصرُ منه في بلدتي، ذلك الزيت المنذور للتعتيق، وبتقاسيم امرأة بيضاء من بلدتي، وبِقدِّ شهيِّ يضاهي قدَّ عارضات الأزياء.
ـ أين هي الآن؟
ـ هي في البيت. قال (أمادو).

ومن مكره الجميل، دعاني إلى العشاء عندهم:[هل سبق لك أن أكلتَ الكُسْكُس السِنغالي بالأرز؟...]
هل كنتُ لأتركَ مناسبةَ الخروج من وحدتي وكآبتي؟... هل كنتُ لأخسر لحظة التعرف على جيران أفارقة؟... هل كنتُ لأفوّتَ فرصة مؤاكلة (أبيباتو) الزنجية ذات الجمال الملائكي؟...

في الساعة التاسعة ليلا، طرقتُ البابَ وفي يدي كيسُ فاكهة ومشروبا، وفي جيبي هديّة افتراضية لها.
فُتِحَ البابُ، فظهرتْ (فاديما) التي كنتُ أعرفها فتاةً (أو امرأة) متقلِّبة المزاج؛ إذ كنتُ أبصرتها تكيل الشتائم ل(أمادو) ثم تستعطفه بابتسامة صادقة للدخول إلى البيت...
 أهلاً بك سيِّد (جمال)... ننتظرك. قالت.

البيتُ أرضي، ببهو ضيِّق، لكن بفناءٍ واسع وثلاث غرف؛ واحدة للذكور وأخرى للإناث، وثالثة للاحتفالات، وما من طابق علوي سوى السماء.

في الفناء فرشوا بساطاً ووضعوا مائدة مستديرة ووسائد. ومن الغرفة الثانية، خرج (أمادو) ماسكا بقنينة شراب و(أبدالا) في لباس أبيض وسبحة.

ضحك الماكر (أمادو) وقال:[إنّها هناك في المطبخ] ثم صرخ:[أبيباتو! ... هناك شخصٌ يريد أن يراك]، فاكتسحتْ وجهي سخونةٌ وحُمرة، وخرجتْ (أبيباتو) من المطبخ وقد اعتلى وجهها الزيتوني خجلٌ بنفسجي. ولقد كانت – والله – آيةً في الجمال بلونها الناعم، وبحروف وجهها الكاليغرافية، وبشعرها الراسْطافاري.
مددتُ يدي لها في خجل واحترام، فأمسكتْها لِوَقت، وقالت:[مرحباً بجارنا (جمال)!].

أن تنطق اسمي... أن يخرج اسمي من بين شفتيْها التينيتين؛ هذا ما أجّج عشقي لها. فقلت:[أنا سعيدٌ بالتعرّف عليك... أقصد؛ عليكم]. وأخرجتُ من جيبي تلك الهدية، فما إن رأوها حتى هتفوا:[افتحيها الآن!..] وهي تبتسم وتمانع، ثم جرتْ إلى الغرفة الأولى، لتعود وبين يديْها (كلسون) نسائي أحمر:
 هذه أحمق هدية جاءتني من أحمق الناس.

حاولتُ أن أقول بأنّ الهدية ليست الهدية، لكنّ السنغاليين والسنغاليات ما أعطوني فرصة، إذ كانواْ غارقين في الضحك.

فقال العفريتُ (أمادو):[الليلة ستنعقد قِران جارنا وصديقنا (جمال) بأختنا الجميلة الطيِّبة (أبيباتو)؛ ورفيقنا الفقيه (أبْدالا) هو من سيُحرّر عقد الزواج]. وراحواْ يتمرّغون من الضحك، وأنا بينهم مندهشٌ من سلوك تلك الفتاة التي كنتُ أعتبرها ملاكا. فدخل السيد (بصير) طويلا أسودَ وفي يدِه بضعة لوحات زيتية. فبادرهُ (أمادو) بلغة الوولوف... وسرعان ما أرسل إلى السماء ضحكة عالية؛ وأنا بينهم مثل قزم بين مَردَة.
فها هما (باباكير) و(كاريماتو) يخرجان من الغرفة الثالثة، وينخرطان في الضحك الجماعي... هنا، شرع جسدي ينِزُّ عرقاً باردا. ونظرتُ إلى (أبيباتو)، فرأيتُها تتصاغر في عمق الزمان:كانتْ... تكون... لم تكنْ...
هممتُ بالانصراف، فلا مكان لي بين أناسٍ كنتُ أحترمهم وأرغبُ في التعرّف على ثقافتهم، وربّما مصاهرتهم؛ فإذا بالملاك الماكر (أبيباتو) يستبقيني، وقالت لأهلِها بالفرنسية:[ كفى!] فتوقّف سيلُ الضحك مباشرةً. ثم تقدّمتْ منّي وقبّلتْ خدّي الأيمن ثم الأيسر، وقالت:[أشكرك على الهدية...] وأخرجتْ من سترتِها الجلدية الهدية الحقيقية، عقداً من خرز اللؤلؤ الأبيض كان لوالدتي (رحمها الله).

فصاح الجميع:[أوووهـْ !.. ما ألْطفَ هدية السيد (جمال) !]، فصدح آذان صلاة العشاء، وخمد لهَبُ المُداعبة فجأة.

كان الكسكسُ السنغالي جاهزاً، لكن، كان علينا أن ننتظر (أبْدالا) الذي ذهب إلى المسجد. وفي هذه الأثناء، شدّتني (أبيباتو) من يدي وجرّتني إلى الغرفة إيّاها. وأنا غير مصدِّق لما يجري، قالت:[هل أنتَ خجول؟... لقد انتظرتُ زمناً لأجل أن تُبادرني] فما حاولتُ السيطرة على قلبي وعقلي إذ جذبتُها إليّ وضَمَمْتُها صدراً لصدر، واتّكأتُ عليها بقُبلة مطوّلة...

كنتُ في تلك القُبلة السنغالية – المغربية أذوبُ مثل قطعة سُكَّر على نار قديمة. وكانت (أبيباتو) تذوبُ في مثل قطعة شُكولاطة تحث شمسٍ جديدة.

فقالت: [لماذا تأخّرت؟]؛ وقلتُ:[هل أنتِ تلك الحبيبة المفترضة]...

عند خروجنا من الغرفة الثالثة؛ صفّقواْ لنا وأحاطواْ بنا، وانهالواْ علينا بالقُبُلات... عندها عرفتُ بأنّني سأتزوّج (أبيباتو).

وخرج (بصير) بلوحة رسمها للتّو، وفيها شخصان عاريان؛ امرأة سوداء ورجل أبيض كانا يشبهاننا بقدر مّا.

وقال (أبْدالا):[مبروك لكما].

وقالت (فاديما) ل(أمادو):[وأنت... ألا تعرف معنى للحب؟]...

وجاءت قصعة الكُسكس السِنغالي بالأرُز والخضراوات والدجاج غارقاً في مرق الحب واللذة والأخوّة...
(أمادو) كان يدرس الطيران العسكري، و(أبْدالا) القانون الفرنسي، و(باباكير) العلوم السياسية، و(فاديما) العلوم الفندقية، و(كاريماتو) اللسانيات، و(أبيباتو)؛ حبيبتي كانت تدرس في معهدٍ حرّ شؤون الضيافة الجوية... وكلٌّ طار إلى جهة... إلاّ أنا؛ بقيتُ ملتصقاً بأرض النخيل والوحدة والكآبة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى