الأربعاء ٤ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

مبارزة

الإهداء: إلى الذي يعمل بصمت كالظل بلا ضجيج أو كلام، إلى صديقي العزيز المهندس حكيم البادي.

يقف المهندس حكيم مذهولاً أمام زوجته المريضة وهي تئن، يسرح شعرها وهو يدمدم: لا تقلقِ يا عزيزتي فكل شيء سيكون على ما يرام، أوعدكِ بذلك ستكونين بخير، أنا متأكد.

تسعل زوجته كريمة بقوة، فيهتز بدنها كله وهي ترتجف من الحمى وتقول بصوتٍ خافت كحفيف أوراق الشجر: لقد عذبتك معي كثيراً يا زوجي العزيز، وأنا قد لا أستحق منك كل هذا الاعتناء والرعاية، يغلق فمها براحة يده ويقول دون تردد، لا تزعجِ نفسك أبداً، إذا لم أفعل هذا لكِ، فلمن إذن؟!، ثمَ يردف متسائلاً وكأنه تذكر ما يريد أن يقوله، ماذا تعنين بكلامك ( أنا لا أستحق منك هذه العناية ) إنكِ بالتأكيد تحتَ وطأة وتأثير الحمى، وسوفَ أعتبر نفسي بأنني لم أسمع ما قلتيه، ويفرك يدها ويقبلها بحنان ورّقه، في هذه اللحظة يرنُ جرس الهاتف، فيحدث صوتاً غير متوقعاً، يعكر الصمت والهدوء الذي كانَ ساكناً، فيفزع حكيم من الصوت، ثم يرفع سماعة الهاتف بعد تردد وكأنه خائف، فيرد من هناك؟.

أنا سعد يا حكيم، ألم تعرفني؟، غير معقول، ثم يشرع مصرحاً وبلهجة واثقة ( أن ماركيز يقول: أن الحياة ليست هي الأيام التي يعيشها المرء، بل التي يتذكرها ويستطيع أن يرويها وكيفَ يرويها ) ويضحك فرحاً، فيردف كيفَ إذن أتصلُ بكَ وأنتَ لا تعرفني؟.

أرجوك، أنا في وضع لا يسمح لي المزاح الآن، قل من أنت وما تريد، وإلا أغلقت الخط.
 أنتظر لحظة من فضلك، حقاً إلا تعرفني؟ ولكن كيفَ هي زوجتك الآن؟ فأنا أراكم جيداً وأسمع صوتكم بوضوح كما أسمع نفسي الآن، هل تصدق؟.

يتلفت حكيم حولَ نفسه مذعوراً، ولا يرى سوى زوجته المستلقية أمامه على السرير، فيرتجف صوته ويقول بلهجة خشنة مسموعة وحذرة، سأغلق الخط يا هذا، قل من تريد ومن أنت ولماذا تتصل؟!.
 أنا، لقد قلت لك قبلَ قليل، ومن الظاهر أنَ ذاكرتك متعبة جداً، ومعَ ذلك سأعيد عليك ما قلته للتو، أنا سعد، وأريد أن أطمئن على حبيبتي كريمة، هل هذا سبب كافي لاتصالي أم لا؟!.
ماذا تقول؟ ردَ عليه حكيم بعصبية وهو في حالة من الحنق فقالَ عن أي حبيبة تسأل؟ لا يوجد هنا سوى زوجتي المريضة!. فيردَ عليه سعد بشكل حازم، وأنا أقصدها يا أبن الذين، وإلا ما كدرتُ حالي وأتنازل كي أتكلم مع شخص مثلك، ثمَ يقهقه دون انقطاع..... هه... هه... هه.....

غلى الدم في عروق حكيم فقالَ صارخاً بحده، من هذا المعتوه الذي تقصده؟ أنتَ مجنون يا هذا؟!.

يقاطعه سعد ضاحكاً كالمنتصر ويقول له ببرود: لا تفقد أعصابك يا عزيزي، فنحنُ متفقون على كل شيء، والموضوع بالنسبة لنا مجرد وقت لا أكثر، فأنا أنتظر فقط أن تستعيد كريمة صحتها لنتزوج، أرجوك بارك لنا حبنا وسوفَ لن أنسى موقفك الشجاع والأبي هذا ما حييت.

يغلق حكيم الخط غاضباً وهو يصكُ على أسنانه بقوة وكأنه يريد تحطيم شيئاً ما بينَ أسنانه، ثمَ يلتفتُ حولَ نفسه كالمجنون ويصرخُ عالياً وكأنه يستغيث: ما هذا، هراء، جنون، أكيد أنه شخص مجنون وإلا كيفَ يجرؤ على التكلم معي هكذا دونَ خوف أو وجل! أعوذُ بالله ثمَ يهتفُ متهالكاً وبصوت مهزوم بعدَ أن أنخفضَ صوته دونَ إرادة وهو يدمدم وكأنه يبكي، أنه وقح وبلا أخلاق، ثمَ يسمع صوت زوجته وهي تناديه وكأنه نساها، بصوت يرتجف ويكاد يكون مخنوقاً، عزيزي حكيم من كانَ على الخط؟ ولماذا أراك عصبياً وقلقاً؟ أرجوك قل لي، فأنا لا أقوى على الحركة أو النهوض، فتسعل لينقطع صوتها المتهالك وكأنها دخلت في حالة غيبوبة، بينما يقتربُ منها زوجها وهو يترنح كالسكران في مشيته، ويقول لا شيء يا عزيزي، أنه شيءٌ ما غريب يحدث، بل مكالمة لم أسمع مثلها من قبل، لا لا شيء، ثمَ يردف أظن أنه قد أخطأ في الرقم، حتى أنه.

يرنُ جرس الهاتف ثانياً، فيتصوره حكيم وكأنه صوت سيارة إسعاف، فيهرع إليه بسرعة مجنونة ويرفع السماعة ويقول بإحساس معدم، نعم، من هناك؟.

أنا سعد، يا عزيزي، هل نسيتني، هكذا سريعاً؟ عجباً، أنصحكَ بأن تعرض حالتك هذه إلى دكتور، فهذا الأمر لا يمكن السكوت عليه أبداً، ثم يشرعُ قائلاً: أنا غريمك، ألم تخبركَ كريمة بذلك؟. آه، أنا أعرفُ السبب، فمرضها المفاجئ أجّلَ كل ترتيباتنا، وجعلَ خططنا كلها تتغير، والدليل أنها لم تفتح معكَ أي موضوع يخص حياتنا المستقبلية، وحبنا الخالد وزواجنا الذي هيئنا لهُ كل شيء ولا ننتظر سوى موافقتك!.

ماذا! يصرخُ حكيم بهِ بعدَ أن فقد أعصابه، وما عادَ يتحمل كلمة أخرى، كمن يحملُ شيئاً ثقيلاً على كتفه وأحدهم يريد أن يحمله المزيد! فيقول حانقاً: موافقتي على ماذا؟! على تزويجكَ زوجتي، مجنون أنت يا هذا؟!.

 أراكَ مضطرباً يا عزيزي، أرجوك لا تتهور، وأحتفظ بتوازنك، فنحن مازلنا بحاجتك، ولا نريد منك شيئاً ذو بال، سوى أن تبارك حبنا يا رجل، ما هذا؟ أني أراه استخفافاً بمشاعرنا، أعوذُ بالله، فيردف، أرجوك تريث وفكر بالأمر ملياً، فيشرحُ له جاداً كالفيلسوف، هل الأجدر بنا أن نتزوج دونَ علمك لتكون هناك فضيحة ليسَ لها حدود كالمطلق، أم أن تقبل الأمر وتستسلم للواقع ولرغباتنا؟ وبعدَ برهة يستمر بالحديث وكأنه يلتقط أنفاسه التي خانته فقالَ مراهناً: أسمع يا حكيم، لدي خيارٌ آخر، قد يكون هو الحل الأفضل لنا جميعاً، يردُ عليه حكيم مستعجلاً بعدَ أن غادرهُ الصبر فقال، وما هو؟ هات، قل لي فنحنُ في زمن لا نسمع الحكمة إلا من أفواه المجانين.

لا يهم يجيبه سعد، قل ما شئت، فأنا لا أبالي ولا أكترث، لكني أطلبك للمبارزة، ومن سيفوز وينتصر هو الذي يستحق كريمة، ما رأيك؟.

رأيي في ماذا؟! أتقاتل معك من أجل الاحتفاظ بزوجتي!. أي فكرة رعناء هذه، ويصرُ على أسنانه كالذئب في حالة الهجوم، ويهتاج فجأة إلى حد الانهيار، فيرد عليه حانقاً، ملتهباً وهو يدمدم، نعم لقد قبلت المبارزة، أين ومتى، سأقطعك بأسناني يا هذا، سألتهمك نياً دونَ مضخ، سأجعلك عبرة للآخرين، هيا أنطق يا جامد، قل متى وأين؟.

 الآن، يرد سعد ببرود وهو ينقر على سماعة الهاتف بأطراف أصابعه وكأنه يدق على دف ويقول حالاً يا عزيزي، فأنا الآن موجود في باحة المدينة وقرب السوق الذي تعرفه، ثم يردف، سأكون هناك بملابس غامقة بلون الحزن، قاتمة كطيف الحرب، كجندي بملابس القتال، وأما أنا فلا أحتاج إلى دليل لأنني أعرفك، فأنتَ غريمي وعدوي!.

يلقي حكيم نظرة مشفقة على زوجته وهو بينَ الشك واليقين، ويقول لها مودعاً، سأكون هنا بجانبك بعدَ قليل يا عزيزتي، سأقتلُ ضفدعاً أرهقنا بنقيقه وأرجع، لم تفهم زوجته شيئاً، ولم تسمع كل ما قاله، وبقيت تسعل بصوت عالي وهي منهكة القوى......

وفي باحة المدينة، وعن بعد يتلفت حكيم حوله كالمجنون وهو يتصبب عرقاً، ويلهث وبالكاد رئته تنطق بالشهيق والزفير، فيرى نسيبه رفعت، بينما يبقى حكيم مذهولاً من المفاجأة فتغرق عيناه بالدموع من الضحك، فتهتزَ أكتافه وكأنهُ يرقص، فيقول مستطرداً...... حمداً لله على السلامة، بالأحضان يا غريمي العزيز، لقد انشغلنا عليك كثيراً، ثم يسألهُ باستعجال وكأنه لم يصدق ما يرى: متى رجعت من جبهة القتال؟ ولماذا فعلت بنا كل هذا؟.

 يقبله نسيبه من خديه بحنان ويتعانقان فيردف ضاحكاً وهو يقول: لقد رجعت للتو، وها أنا في ملابس القتال كما وعدتك، وقد فكرت كثيراً بالمفاجئة التي سأقدمها لكم، ولم أجد أفضل من هذه المزحة ( أقصد المبارزة ) التي جددت فيّ النشاط والحيوية وجعلتني أشعر بأنني ما أزلتُ حياً أرزق! ومن ثم ماذا يعني لو مرضت أختي العزيزة قليلاً، يا رجل، فالصور التي رأيناها هناك، جعلتنا نعيش الموت ونصدق بأنه الحياة!، ثمَ شرعَ يقول باسترسال وكأنه يحكي حلماً،أنكم هنا لا تشعرون بما نشعر، أنظر حولك، ستجد كل شيء طبيعي، أما نحن وهناك نحاول ترويض الرعب لنعيش معه، ونستخف بالخوف كي نتجاهله، تلسعنا نار جهنم ولا نجد ما يخفف عنا حرارتها، يصمت لبرهة ثم يقول، أنكم هنا تنظرون إلى المنتحر وتسخرون منه لضعفه، وتمرون بالشحاذين وتقولون في سركم له الله! عزيزي حكيم أردتُ أن أعيش لحظة فيها متعة، سعادة، لذة، يا رجل أنكم تستيقظون في الصباح وأنتم متعبون، تعساء بلا فرحة كالمهموم، بينما نحن وكما ترى، نرجع من هناك ونطلب من الآخرين إلى المبارزة!.

يدخلون المنزل وهم متأبطين الأذرع، وما أن تسمع كريمة وقع أقدامهم، وتشم رائحة أخيها رفعت، تنسى مرضها فتقفز من سريرها كالقطة وبوجه نوراني ملهم، وهي تصرخ بفرح وبعيون واسعة: أخي حبيبي فتقبله من خده وتلثم يده بشفتيها الدافئة، الساخنة وهي تضمه إلى صدرها وتقول، لقد عادَ لي النشاط مجدداً، لقد مرضت بسببك يا ملعون، فقلقي عليك كانَ يتغذى على أحشائي كالجنين، فلم أعد أقوى على الصبر والانتظار، حمداً لله على سلامتك يا أخي، فتقبله مرة أخرى وهو يترك نفسه بخبث، ليستمتع بدفء المشاعر الصادقة، فيغرق في الأحاسيس الجميلة اللذيذة الفياضة التي يتلقاها من أخته فلا يبدي أي مقاومة
وباستسلام ممتع كمنهزم تحت وطأة العاطفة الأخوية الجياشة، فقالَ متماسكاً: أشعرُ بالجوع يا أختاه وشهيتي مفتوحة إلى الحياة، فينظر إلى حكيم بعيون ساحرة، غامزة يفوح منها الحب وهو يقول أريد أن أعيش هذه اللحظات، أحب أن أستمتع بها بكل ما أملك من جشع وجوع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى