الخميس ٥ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم محمد متبولي

عن الحضارة «7» انسان الأربع ياءات

بداية قبل ان استرسل فى الموضوع احب ان اوضح ان هذ المقال هو مقدمة لمجموعة من المقالات التالية التى ستتحدث بتفصيل أكثرعن المواضيع الاساسية التى سنتناولها هنا، وهو ما قد يجعل بعض الافكار تبدو مبتسرة نوعا ما، الا أننى كنت حائرا بين أمرين الاول ان أضمن تلك المقدمة مع أحد المقالات وهو ما كان سيؤدى لطول المقال وملل القارئ، والثانى هو ان أفرد لها ذلك المقال راجيا من القارئ الكريم ألا يصدر حكمه قبل ان أنهى مجموعة المقالات المتعلقة باعادة بناء التصورات والتى تأتى تلك فى مقدمتها، لذلك لزم التنويه فى البدء.

عندما نفكر فى انشاء حضارة جديدة أو على الاقل نتحول من مستهلكين للحضارة الى منتجين لها، علينا ان نجيب على بعض الاسئلة التى قد يكون فى مقدمتها، ما هى الوحدة الاساسية التى ستنشئ ذلك التحول الحضارى؟، وما هى طبيعة تلك الوحدة؟، وما هى الاسباب التى منعتها من اجراء ذلك التحول وكيف يمكن ازالتها؟، باختصار شديد اننا بحاجة لتعريف هذه الوحدة بشكل يسمح لنا بتحديد اسباب عدم قدرتها على انتاج الحضارة، ويمنحنا الفرصة لتغيير مسارها بما يضمن ان تنتج تقدما حضاريا بارزا فيما بعد، ورغم قلة كلمات تلك الاسئلة الا ان طرحها يعنى اننا سنبدأ رحلة طويلة نحاول من خلالها ايجاد مسار ما، يمكن من خلاله تلمس طريق الاجابة.

فلو حاولنا تحديد الوحدة الاساسية لبناء أى تقدم حضارى ستكون الاجابة ببساطة هى الانسان نفسه، ولكن أى انسان نتحدث عنه، اننا بحاجة لانسان يحوى بداخله مشاكل مجتمعه وألامه وأحلامه، وفى الوقت نفسه هو على اتصال بجميع فئات المجتمع وطبقاته ولديه القدرة على التأثير فيهم وايضا التأثر بهم، وبطبيعة الحال سيكون الانسان المنتمى لما أصطلح على تسميته الطبقة المتوسطة هو الاكثر تحقيقا لذلك النموذج، فشيخ المسجد، وكاهن الكنيسة، والمهندس والمدرس وغيرهم عادة ما ينتمون الى هذه الطبقة، وهم بطبيعة وظائفهم يحققون اتصالا ما بالطبقات الاعلى والادنى فى المجتمع، كحال المدرس مثلا فهو يعلم أبناء علية القوم او ابناء الفقراء، وقد يعلم ابناء الاغنياء التواضع او يتأثر ببذخ الحياة لديهم، و ربما يعلم ابناء البسطاء التفكير العلمى او يتأثر ببعض الخرافات التى يعتقد فيها بعض اباءهم، وفى الوقت نفسه فقد يكون بعض ابناء هذه الطبقة اما صاعدا من طبقة أقل او هابطا من أخرى أعلى، ويعنى ذلك ببساطة ان ابناء هذه الطبقة هم ما يمكن تسميتهم بعقل المجتمع، ذلك العقل الذى يتأثر بى ويؤثر فى كافة الشرائح الاخرى، وهو نفسه العقل الذى يحمل أفكار الجمود والتطرف او رياح التغيير والتسامح.

الا ان هناك مفارقة أساسية يواجهها نسبة ليست بالقليلة من ابناء هذه الطبقة، فعادة ما يبدأ الانسان المنتمى لهذه الطبقة حياته بعد رحلة كفاح طويلة وشاقة للاباء من أجل اعداده للحياة متسلحا بقدر معقول من التعليم والقيم، ولديه حلم ان يحقق لنفسه ولأسرته المستقبلية ما لم يستطع ان يحققه له أبويه اللذان اصبحا بدورهما يطمحان فى ان يكلل الابناء جهودهم بان يكونوا مصدر فخر لهم، الا ان ذلك الانسان يواجه الكثير من العقبات والمشاق والظروف الاجتماعية الصعبة بدءا من رحلة الحصول على عمل مرورا بمرحلة تأسيس الاسرة وصولا لمرحلة توفير الاحتياجات الاساسية لهذه الاسرة وما يصاحب ذلك من ظلم اجتماعى وعدم تطبيق للعدالة، وهو ما يجعله يتخلى عن أحلامه حلما تلو الاخر حتى يفقد أية قدرة على الابداع ويصبح هدفه الأسمى هو البقاء حيا، واذا ما أعتبرنا ان أحد اهداف هذه السطور تعريف ذلك الانسان فسنقول، انه انسان ليس بسيط فى قدراته ولكنه بسيط فى احلامه، تتمحور أغلب اماله حول فكرة تحقيق حياة كريمة ومعقولة له ولأسرته، لا يحلم بان يصبح ملك ملوك العالم ولا ان يمتلك القصور لكن يحلم بالاربع ياءات، يعمل، يسكن، يتزوج، ويربى الاولاد فى ظل حياة كريمة، الا انه يفاجأ بان ذلك الحلم الذى كان يعتقد انه حقه الطبيعى وانه وسيلته ليبدأ رحلة التقدم والارتقاء، هو أشبه بالمستحيل وانه اصبح غاية كبرى ربما يمضى حياته بأسرها دون ان يحققها، ليجد نفسه فى نهاية المطاف حائرا بين ثلاثة عوالم مختلفة عالمه المفقود الذى طالما حلم به ولم يحققه، والعالم كما يراه من وجهة نظره ملئ بالظلم والفساد، والعالم كما يراه الاخرون بالنسبة له، فهو احيانا ظالم واحيانا مظلوم واحيانا أخرى كلاهما فى نفس الوقت، ويستتبع ذلك تولد صراع نفسى هائل بداخله يجعله أمام أحد اختيارين الاول هو ان يجمع حقائبه ويغادر ذلك الوطن حتى لو كلفه الامر حياته او البقاء خلف أسواره فى حياة شبيهة بحياة القيد او السجن، وبطبيعة الحال يتبنى ذلك الانسان اذا ما قرر البقاء مجموعة من النظريات التى تجعل الحياة لديه متقبلة.

يأتى فى مقدمة تلك النظريات كيفية تحقيقه لحياة الرفاهية التى حرم منها والغير متوقع بالنسبة له ان يحققها على أرض الواقع اذا ما أستمر بالتمسك بالقيم التى نشأ عليها، هنا يظهر لديه الطريق الاخر، طريق الوصول لحياة الرفاهية لكن فى جنة الآخرة، فتتحول نظرة ذلك الانسان لعبادة الله من انها تعبير عن عمق ايمانه بوجوده وشكره على منحه آملا ان يتوج ذلك الايمان برضا الله عنه وادخاله الجنة او ملكوت السماء، الى وسيلة يتمكن بها ذلك الانسان من دخول جنة السماء عوضا عن عدم قدرته على الحياة فى جنة الارض التى لا يملكها، ويستتبع ذلك محاولة هذا الانسان العثور على ما يشبه الكتالوج الذى يضمن له تحقيق هذا الهدف متمثلا فى اقتفاء أثر السابقين دون النظر لمدى ملاءمة ذلك مع الزمان والمكان من عدمه، او اراحة نفسه من ذلك العبء عن طريق السير خلف أحد رجال الدين الذى يعده بهدايته للطريق القويم، وربما يتحول الدين لدى البعض الى وسيلة لحيازة احدى وسائل القوة وتحقيق الطموح فى القيادة والسيطرة، بعد ان فشلوا فى تحقيق ذلك عن طريق المال والسياسة اللذان صارا حكرا على فئة بعينها، وقد يصل الامر بالبعض الى حد حمل السلاح ومواجهة المجتمع ككل او مواجهة المخالف له فى العقيدة انطلاقا من منطق امتلاك الحقيقه، وعلى النقيض قد يقرر ذلك الانسان تحقيق جنته الارضية بطريق غير مشروع او عن طريق ممارسة الفساد، الا ان ذلك القدر من التعاليم الدينية والاخلاقية التى تلقاها يشعل وخز الضمير لديه، فيصبح الدين بالنسبة له وسيلة للتطهر من أثامه، ويؤدى ما سبق الى تحول عبادة الله من عباده قلبية اساسها الايمان وممارسة الشعائر فيها هى تعبير عن مدى حب هذا الانسان لربه عن طريق الانصياع لأوامره والابتعاد عن نواهيه، الى عبادة تهتم بالمظهر على حساب الجوهرفتتشتت فى القضايا الفرعية هاملة القضايا الكلية، وعلينا هنا التماس العذر لذلك الانسان فقد جرد من كل شئ عدا الدين، الذى أصبح هو الشئ الوحيد الذى يحتمى به ويواجه الاخرين بموجبه، ولا يمنع ما سبق من وجود معتدلين الا ان أصواتهم تبدو فى كثير من الاحيان خافته خاصة عندما تؤيد السلطة القائمة احيانا فكرة عدم التدخل فى الامر حتى لا تثير حفيظة البعض عليها، او تجد ان ذلك يصب فى صالحها حتى يلتهى الناس عن مشاكلهم الحقيقية، وحتى لا يحمل ما قلنا ما لا يحتمل فان الهدف مما سبق وما سيليه فى المقالات القادمة ان شاء الله، هو التفريق بين ايمان ايجابى يدفع الانسان للتقدم وايمان سلبى يدفعه للتأخر والجمود، او بالأحرى بين ايمان قائم على التوكل وآخر قائم على التواكل.

ثم يتبنى ذلك الانسان مجموعة من الافكار التى تساعده على تقبل حالة الضعف والاستكانه التى يمر بها، منها تقديسه لبعض الاشخاص او الافكار التى لا يمكن تخطيئها او توجيه النقد اليها، واقناع نفسه بان حاله أفضل من غيره، وانه غير قادر على احداث تغيير، وكثيرا ما تطرح أفكار ان الفارق الزمنى بينه وبين الانسان فى الدول المتقدمه أكبر من ان يتخطاه، وان الافضل له ان يستفيد من تقدم الاخرين عن ان يضيع وقته فى محاولات تحديث ان باءت بالفشل فلن تتحملها ظروفه الاقتصادية الصعبة، الا ان كرامته كثيرا ما تضغط عليه فيقرر ان يتغنى بامجاد اسلافه وربما يضخم او يقبل تضخيم بعض الانجازات الصغيرة، وما الى ذلك من أفكار تساعده على تقبل الجمود، والغريب ان نظرة ذلك الانسان للمجتمع تبدو متناقضة، فمن ناحية هو يتمسك الى حد الاستماته بعادات وتقاليد ذلك المجتمع دون النظر الى ان من بينها ما أصبح غير ملاءم للزمان او معيق للتقدم، مدفوعا فى ذلك بشعوره الداخلى بعدم قدرته على انتاج عادات وتقاليد أكثر مواكبة للعصر تدعم تقدمه وان ما صنعه أسلافه من أمجاد وأنتجوه من قيم لا يمكن له ان يصل لمثيله، وربما لكى يحقق لنفسه سلاما نفسيا أكبرا يتصيد الجوانب السلبية فى قيم المجتمعات الاكثر تقدما، قانعا نفسه مثلا بان مزيدا من التقدم سيصحبه مزيدا من الانحلال متناسيا القيم السلبية التى تجلبها له حالة الجمود التى يعانى منها وما يترتب عليها من الانحرافات الناتجة عن ازدياد معدلات الفقر وغياب العدالة الاجتماعية وزيادة الاعتماد على الآخر، وربما يعد ذلك التمسك بقيم مجتمعه محاولة منه لمواجهة حملات طمس الهوية التى تنقض عليه من كل حدب وصوب وبطبيعة الحال نحن لا نعيب عليه الدفاع عن هويته لكننا نطلب منه تنقيح هذه الهوية من الشوائب، وعلى الجانب الاخر هو لا يستطيع اخفاء حقده ونقمته على ذلك المجتمع الذى شاهد الظلم الواقع عليه دون ان يفعل من أجله شيئا، بصرف النظر عن ان غالبية اعضاء ذلك المجتمع من امثاله وانه هو نفسه لم يواجه ذلك الظلم، ونعتقد هنا ان لنا الحق فى ان نوجه له اتهام بأنه ربما يعفى نفسه ضمنيا من مسئولية ما يحدث له ولمجتمعه من واقع مبدأ انه لا يستطيع وحده تغيير الكون.

وأخيرا ينظر ذلك الانسان للعالم من حوله نظرة لا تتسم بالواقعية، فالعالم الخارجى اما اصدقاء واخوة أشقاء طيلة الوقت او اعداء طيلة الوقت متناسيا فكرة علاقات المصالح والقوة التى تحكم العالم، والاكثر من ذلك انه فى كثير من الاحوال يرسم صورة غير حقيقية عن أعداءه فكما لو كان الانتصار عليهم او تحجيم نفوذهم بالنسبة له مستحيل، وربما يعتقد انهم يتحكمون فى العالم من أجل تضييق الخناق عليه واعاقة أية مساع ايجابية له، ليس ذلك فحسب بل ربما ايضا يعتبر اية محاوله للخروج عن المألوف او أية طروح لتحقيق التقدم هى محاولة من هؤلاء الاعداء للسيطرة عليه وان عليه التصدى لها بكل حسم، ثم يتعامل مع المجتمعات الارقى منه بطريقة أشبه بطريقة تعامل العبد مع سيده دون ان يضع فى اعتباره احتمال ان يصبح مثلهم او يتقدم عنهم، ويسوق المبررات التى تؤكد له انه مر بظروف صعبة منعته من اللحاق بالمجتمعات التى كانت مثله فى ظروفها وسبقته فى النمو والتحضر، ويحاول ان يثبت لنفسه انه لديه قدر من التقدم عن طريق احتقاره للمجتمعات الاكثر تخلفا عن مجتمعه، وفى نهاية المطاف يتبنى نظرية مفادها ان هناك ظروف عديده تقوضه ومؤامرة كبرى تحاك ضده يؤديان فى نهاية المطاف الى حرمانه من التقدم وهو ما يجعله يتقبل تأخره وجموده بسعادة.

وهكذا يضع ذلك الانسان القيود على عقله قيدا بعد قيد حتى يتقبل فى النهاية بصدر رحب حالة الجمود والاستكانه والظلم التى يواجهها، ثم يقوم بعد ذلك بحكم اتصاله بكافة شرائح المجتمع الاخرى بنشر تلك الافكار بينهم، ومن الطبيعى ان تكون استجاباتهم لذلك مختلفة الا انها فى أغلب الاحوال تتحقق بقدر ما، ولا ننكر هنا دور بعض الانظمة فى تغذية حالة الجمود تلك استنادا الى نظرية ان حكم شعب بسيط بلا طموح يلهث خلف لقمة العيش، هو أسهل كثيرا من حكم شعب طامح ربما تطيح أحلامه بحكام لا يتسع أفقهم لتقبل ذلك الطموح او مواكبته كما حدث مؤخرا فى بعض الدول العربية، وقد يفهم من ذلك اننا نرغب فى هدم كل ما هو قديم بلا استثناء الا ان الحقيقة ليست كذلك، فهدفنا هو ان نساهم ولو بشكل بسيط مع ذلك الانسان فى ان يعيد بناء أفكاره وتصوراته بشكل يسمح له باستعادة فكرة الايمان بالله كمصدر للمعرفة والاخلاق فى العالم وان عبادته هى فى الاصل ايمانا قلبيا يؤيده مظهر وليس مظهر بلا جوهر، وان تحقيقه للجنة الارضية هو أقصر الطرق لوصوله لجنة السماء وليس العكس، ثم يستعيد ثقته بنفسه وقدرته على التقدم والتغيير اللذان هما جزءا من طبيعته، وان يوقن ذلك الانسان ان المجتمع كائن حى نتفاعل معه ويتفاعل معنا نجدده ويجدد فينا طبقا لمستجدات كل عصر، وأخيرا ان العالم لا يتسم بالثبات وانه تحكمه مجموعة من القواعد والأسس التى حرمنا تراجعنا وتخلفنا ان نساهم فى تشكيلها، وهو ما يوجب علينا السير فى طريقين متوازيين أولهما ان نتبع تلك القواعد بقدر ما يحقق مصالحنا ولا يضر بنا، وثانيهما ان نقدم طرحنا الخاص لتلك القواعد بالشكل الذى يتناسب مع ما نعتقد ثم التأثير الايجابى فى العالم بالشكل الذى يسمح لنا بتغيير تلك القواعد حسب ما نرى، وبطبيعة الحال ستحتاج عملية اعادة بناء التصورات تلك الى مجموعة من المحفزات التى تجعل منها عملية متقبلة وتتم بشكل تلقائى دون ان تفرض على ذلك الانسان قسرا، وهو ما يترتب عليه عملية أكبر قد تشمل اعادة صياغة مؤسسات الدولة والمجتمع بالشكل الذى يخدم ذلك الهدف.

وقد يقول البعض ان الثورات التى قامت مؤخرا فى المنطقة العربية تنفى قدرا كبيرا مما سبق، الا أننى أقول ان هناك الكثير من الشعوب ربما تكون مازالت بعيده عن فكرة الثورة وعلينا ان نساعدها فى تشخيص أوجاعها وايجاد حلول لها، وربما ايضا يحالف الحظ بعض الشعوب وتجد سبيلها للاصلاح بعيدا عن طريق الثورة، والاهم من كل ذلك ان الثورة فى نهاية المطاف أشبه بالصدمات الكهربائية للمريض ربما تعيده للحياه لكن لابد له بعد ذلك من اجراء الجراحات وتناول الادوية اللازمة لتستمر به الحياة ويستعيد صحته، وهو ما حاولنا ونحاول ان نقدمه، متمنين ان يشاركنا فى ذلك كل من يتابع ما نكتب اما بالنقد او بانتاج مواضيع او أفكار ذات سياق متصل او حتى اظهار لنا ما خفى عنا من جوانب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى