الأحد ٨ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

وداعا... فرانكشتاين

أعدو خلف طيفها المتلاشي، أعدو حافية، محلولة الشعرمنثورة الأثواب أصرخ باكية مخنوقة الصوت : يارا... يارا... يارا...

 ويارا تغيب عند المنعطف فراشة في كف اليد.
 
أهرول من جديد، وهذه المرة تتلقاني قبضات رجولية قاهرة، أنادي أصرخ، أرفس برجلي. و يارا تمضي تحت إيقاع هادئ كملاك يرفرف فوق الأعناق، وهم يغلقون باب سيارة الإسعاف، ويغيم كل شيئ، وأغرق في صفحة البياض الهائل...

 أسأل الضابط الجالس أمامي:

 ــ هل مات؟

 ــ نعم.

أمضي دون وجل، كأن سدادة فمي قد تطايرت، أركز نظري جيدا، أرتب كلامي، أحاول الهدوء، أصمت حتى تهدأ أنفاسي المتلاحقة وأعلن بحياد: ــ أنا القاتلة.

يرفع الضابط رأسه نحوي، مخفيا آثار المفاجأة، يتأملني للحظة، يومئ برأسه أن واصلي.

ــ أنا الفاعلة، أنا قتلته...

ــ لماذا ؟

 منذ سنة رأيته عند باب العمارة، كنت عائدة من العمل ذات مساء شتوي ماطر، رأيته بمعطفه الأسود الطويل وقبعته العريضة، وفي يده مطرية كبيرة، يرتكز عليها في لا مبالاة. كان غريبا إلى حد يسهل تمييزه، وعيناه من الصعوبة نسيان حدتهما؛ عينان خضروان فيهما الكثير من الريبة، هو الغريب تفحصني في ذلك المساء الشتوي الماطر، كأنما همَ بسؤالي ثم تراجع. بدا لوهلة أنه فزاعة متحركة، وأصدقك القول، لقد استعجلت خطاي والتفت خلفي مرارا وأنا أصعد السلالم، وزد على ذلك لبستني قشعريرة خفيفة من رأسي إلى قدمي...

 ــ أعتذر إذ لا أقدر على الاختصار. أنا آتية، أنا أعد كلماتي واحدة واحدة ربما هي آخر الأقوال وآخر شمس تشرق في حياتي. لهذا أرجوك يا سيدي اسمعني فقط، لا تطلب أكثر، إنني اعتذر طبعا عن هدر وقتك الثمين لكنها ظروف العمل كما تعرف. أليس كذلك ؟ دعني أكمل على مهل.

 كلما فكرت بالموت أفكر فيها , في الامتداد الهائل الذي خلفته، في الهوامش الفارغة، أكتب لها بعض الرسائل لتأثيث أمكنة الصمت وزخرفة النسيان؛ أن أكتب لها فلكي أطيل عمرها بين يدي وعمري بين يديها.
هل لديك ابنة ياسيدي ؟ وفي الخامسة من العمر؟ وذات جدائل زاهية ؟ إذن أنت تفهم ما أقول.
 
 حين استأصلت جدائل يارا أيقنت أن الحياة كلها في خطر، صرخت بأعلى صوتي في رجال الشرطة والجيران والأهل وكل الذين هبوا معي للبحث عن بقايا جدائلها. قلت لهم: هناك خطر داهم يتربص بهذه الحياة...

 سقطت نجوم وهب هواء نتن، ويارا حقل ربيع...
 
 كان على يارا أن تقطع الشارع في خط مستقيم إلى الواجهة المقابلة حيث كشك الجرائد لتقتني كما تعودت دوما مجلتها الوردية الصغيرة " فلة " وقطعة شوكولا ثم تعود. هي تحفظ هذا الدرب لكثرة ما كانت تقضم الحلوى وفي ذلك اليوم، كان الإثنين مساء‘ أعني أنها في عطلة طيلة المساء. خرجت يارا كالعادة عبر السلالم ذاتها والطريق المعتادة. كنت لا زلت أراها عبر زجاج النافذة , إلى هذه اللحظة ما زلت أراها، هاهي تسير في خط مستقيم ثم تنعطف إلى اليسار لتتجنب زحمة السيارات. لو أنها لم تنعطف جهة اليسار في ذلك المساء! لكن يارا انعطفت ناحية اليسار. وانتظرت قامتها الصغيرة، مازلت أنتظر تلك القامة، ولم تظهر. اختفت إلى الأبد. أسبوعان ونحن نلهث خلف الوهم ونطارد الأمل السرابي ليل أبيض ونهار بلا لون. قال بعض الأطفال بأن رجلا ذا معطف أسود طويل وقبعة غريبة قد شوهد يحوم حول العمارة. قال بعض الناس أنهم رأوه منذ مدة فقط وأنه غريب ويشبه الفزاعة. كان هو نفسه يا سيدي.

 ثم ماذا بعد؟
 
 وجدناها في قبو العمارة مستلقية وقد فتحت عينيها عن آخرهما بطريقة مروعة لا شك أنك تعرف ما أعني، عيونها مشرعة ترنو نحو أفق سرمدي وفمها المستدير لا يقوى على القول. وجدائلها ترقد بجانبها،أي عذاب كابدته صغيرتي؟ و أي رعب؟. 
 
 يارا... ! مزيدا من الضوء، مزيدا من الهواء مزيدا من رذاذ الحب ودثار اللحظة المنسربة. رحت أرجوها كل ليلة أن تأتي إلي، أن تمسح وجهي بضفائرها كما كانت تفعل كل ليلة. فقط لتمنحني القوة لكي أعيد إليها دماها ومناديلها وضفائرها...
 
 وبعد سنة استجمعت تلك القوة. كنت أهيم على وجهي، أبحث عن الفزاعة عن حفيف المعطف الأسود الطويل، عن ظله القاتم، عن بقايا حذائه الخشن عن رائحته النتنة، صدقني، أرهقني طيفه الزاحف على حياتي، ثلاث سنوات بثوانيها ودقائقها و ساعاتها، في النهار كان يقهقه في وجهي. وفي ـ الليل ــ ويا للعذاب ــ يمسح غرفتي بحفيف معطفه الأسود الثقيل. ويارا تصرخ، تنادي أمها، تتشبث بيديها الغضتين‘ تغرس أصابعها الرقيقة في صدري...
 
 ألهث و تتقطع أنفاسي ويسعفني الضابط بكأس ماء، يفتح النافذة وأغمض عيني كأنما أستشف تفاصيل النهاية؛ السماء الرمادية والريح الغاضبة والبرك المتناثرة وامرأة وحيدة في الشارع تطارد أطيافا تحت المطر.
 
 رفعت رأسي من جديد ركزت نظري كما لو كنت أجري اختبارا شفويا:
واليوم وجدته، أتدري ما معنى وجدته ؟ نعم هناك عند المنعطف. في البداية كنت أقود على مهل ــ كما هي عادتي ــ وحين رأيته ضغطت بقوة ورفعت السرعة إلى حد الجنون. لقد أخذت وقتي، كل الوقت، ما يعادل عمر يارا كاملا، عدد ضحكاتها وصراخها ولعبها، وعندها فقط ضغطت على الدواسة ثم رفعت رجلي بدم بارد أتعرف معنى الدم البارد؟ هكذا اكتسحته كماسحة ثلج أعني الرجل ذا المعطف الأسود الطويل و القبعة الغريبة. مررت على جثته. وأخيرا سحقت عظامه، محوت بؤرة الجنون فيه.
 
 ــ هل حقا مات يا سيدي ؟.

 ــ أنا قتلته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى