الأربعاء ١١ أيار (مايو) ٢٠١١

رحيل قبل الأوان

ياسر علاونه

نقرأ، ثم نقرأ، ثم نفكر، ونسافر في الخيال إلى حيث نشاء، نتأمل ونطيل التأمل وفي النهاية نتذكر ونتحدث ونكتب عن من يتركون أثراً في حياتنا لا رائحة، عن الذين يرحلون أو نقرر الرحيل عنهم قبل الأوان احتراماً وحباً ليس أكثر من ذاك، فعدة أسباب للرحيل باكراً تجعلك هناك لا هنا، تضعك أمام الأسئلة الصعبة التي لا تريد الإجابة عنها ليس خوفا ولكن ربما لا تريد.

دائماً بالحديث مع الذات وأنا شارد الذهن حراً متحرراً من كل القيود بأنواعها ألبس عباءة الحالم والخيالي والمثالي المتجرد من كل شيء حتى من نفسه، تاركاً مشاغل الحياة وهمومها، أتساءل هل علينا الرحيل قبل الأوان دوماً، لا أخفي بأنني أحبذ الرحيل قبل أوانه لأنه هناك ثمة قناعة لدي تقول أن على الإنسان أن يغادر باكراً وهو في قمة العطاء، الأمل، الجمال، لا اليأس، وهناك الملايين مثلي يفضلون الرحيل قبل الأوان، وهناك الآخرين الذين ينتظرون الرحيل في الأوان-أنا إذا عكسهم سيكون خياري الرحيل قبل الأوان كلما استطعت إلى ذلك سبيلا- هكذا دوماً أحبذ.

أربع سنوات مرت على اللقاء مع صديقي صدقي في عمان، وقتها أصر على أن نتناول الغداء في إحدى المطاعم، وتبادلنا أطراف الحديث المطول حول الأهل والأصدقاء والشأن العام، لم يخل سكنه المتواضع في الهاشمي الشمالي من بعض الكتب والروايات، كعهدي به شغوف بالثقافة والأدب، رحلت عنه قبل الأوان ورجعت إلى الوطن، وعندما عاد، قضينا وقتاً في الهرولة معا في شوارع رام الله، وكان الحديث يدور حول الرحيل قبل الأوان وجمالية ذلك مع الاختلاف متى نقرر ذلك ومتى يكون ممكنا.

في الصباح إذا سأصحو قبل الأوان فرحا بنهار جميل سأقف على شرفة المنزل لأرى الغمام ينقشع ويتجلى النهار بكل جماله، وسأنظر إلى السماء بارتفاعها وارفع يداي نحوها مفعما بالأمل والغد الجميل، أنا لا أعيش في الماضي حتى لا أصير تمثالاً من الصخر، ربما حتى لا يموت الحلم، وأموت معه.

غادرت صديقتي رام الله في مركبة الفضاء نحو السماء لتكون محطتها الأخيرة ألمانيا، لم تقل شيئاً سوى كلمات قليلة غادرت بكل أناقة وجمال تاركة أثراً وذكريات جميلة لا يمكن أن تنسى من الذاكرة والقلب والروح، غادرت وتركت أثراً لا رائحة، فالرائحة ستزول حتما مع مرور الزمن، هل اختارت الرحيل باكرا قبل الأوان؟ ولماذا؟ لماذا غادرت قبل الأوان تاركة كل هذا الأثر الجميل؟ هل كان قررها الرحيل باكرا لكي تبقي أثرا لا رائحة؟ هل يفعل كل الحالمين ذلك؟ يقررون الرحيل قبل الأوان احتراما وحباً؟!.

قبل أيام قليلة، غادر صديق لي من الأرض إلى السماء في اللقاء الأخير، لم يقل لي أنه يريد الرحيل قبل الأوان، لم يبعث لي حتى رسالة نصية، لم يكتب وصيته أو حتى نصه الأخير، لم يقل لي ماذا اكتب عنه، لم يخطر بباله حتى أن يودعني، لم يقل لي عن أي لون لضريحه يفضل أو يريد، رحل تاركاً حلما جميلا خلفه، هكذا دوماً يغادر الأعزاء دونما استأذن ويرحلون عنا قبل الأوان رحيلهم الأبدي.

هل كان علي أن أرحل قبل الأوان؟!! بعد الحديث المطول مع صديقتي التي حاولت البائسات الشريرات أن يرسمن لها صورة مشوهة عني كما يفعل الاستعمار في الأرض المحتلة، من تشويه للواقع وجغرافية المكان وثقافة الشعب، ولكن في النهاية الحقيقة تنتصر ويقاوم الشعب الاستعمار وتنكشف صورته البشعة، طبعا مثلما يفعل المحتل في الأرض ستحاول الشريرات خلق وزرع صورة غير جميلة عني؟!!! لن اكترث بذلك، ما يجعلك بنصك تخاطب الآخر وتثير الأسئلة التي ربما لا تنتهي، لماذا يفعل الآخرون ما يفعله الاستعمار والمحتل؟! لماذا يتدخلون لرسم صورة عن الآخرين؟! أليس نحن قادرين أن نكون صورة وانطباعا عن الآخر؟ لماذا لا يترك الأشرار لنا معرفة الآخر؟! ألا يعرف الأشرار والبائسات الشريرات أننا لسنا بحاجة إلى فضولهن في كثير من الأحيان؟! الآخر هو أنا وأنت والآخرين جميعاً، في كثير من الأحيان أرفض وأصاب في حالة هستيرية عندما يقدم لي شرحا عن الآخرين أو الأخريات، وأردد لا علاقة لي بالشأن الخاص مطلقاً، لدي القدرة لمعرفتهم بدون فضولكم.

على الآخرين – أعني الأشرار والشريرات- أن يعرفوا بأن هناك عقولا لنا نستطيع التفكير بها لا أن يحاولوا زرع أفكارهم الاستعمارية فينا، إنني لا أحبذ أن يعرفني الآخر عن طريق حديث الآخرين وانطباعاتهم، ولا أحبذ أن يكون لدى الآخرين أفكارهم المسبقة عني سواء سلباً أو إيجاباً، صديقتي التي تقول بأنها لم تكون فكرة عني من الأشرار والبائسات الشريرات –الاستعماريات- يبدو كما هي متأثرة بأفكارهن، وفي النقاش الدائر يطفو ذلك مثلما يطفو الزيت فوق الماء، وأقول مهما حاول الاستعمار زرع أفكاره سيفشل، وهل خطر ببال صديقتي أن الشريرات من الممكن أنهن حاولن زرع وغرس أفكارهن المسمومة في؟!! ومحاولة التدخل لتكوين صورتهن الاستعمارية عنها؟!!

هل كان علي أن أبحث عن نصف مكان آخر؟!، وأصمت، وأضحك على عبثهن وخيبة أملهن، وأسير نحو الغد بكل خطى واثقة، وأكرر، هل كان مطلوباً مني أغادر قبل الأوان مثل حلم جميل في منتصف النوم، ربما لو التقينا في مكان وزمان آخر لما كان هذا السؤال.

ياسر علاونه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى