الخميس ١٢ أيار (مايو) ٢٠١١
صباحكم أجمل
بقلم زياد الجيوسي

يأسرني سحر جنين

(الخفقة الثانية)

لم تتوقف جنين عن البوح بأسرارها؛ تهمس بأذني وتحدثني، وتضمني بكل حنان.. جدائلها تنسدل على كتفيها.. تروي الحكاية، ولا تتوقف إلا لتنظر في عينيّ، فترى فيهما كيف أن حبها يجتاحني، وخفقات قلبي تزداد وترتفع كدقات طبول إفريقية، فليس من السهل على من يجتاحه العشق أن يخفيه أبداً، فحين كنت أجول جنين كنت أشعر بالتاريخ يرافقني، ويهمس بأذني عن أسرار هذه الحورية الكنعانية التي ترخي شعرها ضفائر من ذهب، وشعرت بأرواح الجدود والجدات تهمس لي: هنا كنا فحافظوا على هذا الوطن، وحافظوا على ذاكرته، كي تروي لأحفادكم الحكاية.

كنت أحاول جهدي أن أخفي المشاعر التي تنتابني وأنا أجول برفقة المضيّفين لي من مركز محمود درويش الثقافي؛ المهندسة المتألقة دينا حمدان مديرة المركز، والشاب الجميل الذي تتدفق من روحه الطيبة كفاح أبو سرور. واصلنا التجوال في البلدة القديمة راوية الحكاية، وكل بيت من هذه البيوت يمتلك من الأسرار التي لو كتبت لشكلت ملحمة تاريخية عن قصة شعب لم يتوقف عن العطاء ولا عن الصمود، قصة نقشت التاريخ بالعرق والدم، ففي كل زاوية كنت أرى صور الشهداء الذين قدموا أرواحهم على مذبح الحرية والحلم بالصباح الأجمل، وفي أزقتها الكثيرة شعرت بالجدران تهمس لي عن تاريخ ضارب الجذور، وعن مدينة حضارية تشكل فيها أول مجلس بلدي في العام 1886م، وللحقيقة فإن المتعة بالتجوال في البلدة القديمة تجعل الإنسان يحلق في فضاء من الجمال، ويتنسم عبق التاريخ، ولا تكف عيناه عن التدقيق في كل أثر، فالنقوش القديمة على الحجارة تروي حكايات، وإن لفت نظري وجود عدد كبير من البيوت القديمة مهملة، وبيوت أخرى تنمو الحشائش والأعشاب بين حجارة جدرانها، وهذه الأعشاب إن لم تقاوم وتجري عملية إزالة لها ستمتد جذورها وتهدم هذه البيوت، إضافة إلى وجود ركام وأوساخ في أكثر من زاوية ومنطقة تحتاج جهود البلدية لإزالتها، وإلا أصبحت مرتعاً للحشرات والزواحف والجرذان، ومعالجة المسائل أولاً بأول يحفظ المنطقة وجماليتها، ولا يترك السلبيات تتراكم كي لا نصرخ بعدها: ما الحل؟

أنهينا الجولة في البلدة القديمة، وكم فرحت بأطفال البلدة وهو يرحبون بنا، أو يطلبون مني أن ألتقط لهم الصور، ثم اتجهنا إلى مبنى (مؤسسة الكمنجاتي) التي ستشهد أمسيتي الأدبية ولقائي مع قرائي وأبناء جنين فيها، والبناية تقع في واجهة البلدة القديمة، وفي الأصل كانت من قصور آل عبد الهادي، وقد أهملت فترة طويلة حتى اشتراها شخص ما وحولها لمكاتب وعيادات قبل أربعين سنة تقريباً، ثم تحولت إلى مكان لتربية الدواجن ومنجرة أخشاب، لتهجر بعدها وتتحول إلى مكان يمتلئ بالنفايات، حتى جرى التفاوض مع مالكها مطولاً واستئجارها لصالح مؤسسة الكمنجاتي، ورممتها (مؤسسة رواق) لتتحول إلى بؤرة مضيئة لتعليم الموسيقى، وفيها قاعة ممتازة للحفلات والأمسيات، وفي داخل المركز سعدت بلقاء الفنان الصديق إياد ستيتي، وهو مدير المركز في جنين، وتجولت برفقته في كل القاعات وشاهدت الطلاب يتدربون، فالمركز بدأ بأربعين طالباً، ليضم الآن مائة وأربعين طالبًا وطالبة من عمر ست سنوات حتى عمر أربع عشرة سنة، وكم فرحت وأنا أستمع للطفل أيهم عايش وهو يقول لنا: هنا وجدت نفسي، مع الموسيقى تغيرت نفسيتي وروحي، وأشعر بالتميز كعازف عود، وأصبحت حياتي أجمل، وأصبح لي أصدقاء أجمل، وأشعر أني الآن أنتمي لوطني وأقاوم المحتل أكثر.

من (الكمنجاتي) اتجهنا إلى ربى جنين، وفي الشارع الرئيس مررنا بشرفة وقف عليها القائد العراقي محمود شيت خطاب في العام 1948 وألقى قصيدة قال في مقاطع منها:

"هذي قبور الخالدين وقد قضوا

شهداء حتى ينقذوا الأوطانا

أجنين إنك قد شهدت جهادنا

وعلمت كيف تساقطت قتلانا

إن الخلود لمن يموت مجاهداً

ليس الخلود لمن يعيش جبانا"

فترحمت مجدداً على أرواح شهداء العراق وشهداء الوطن، لنكمل الطريق إلى التلال والربوات، وقبل أن نبدأ الصعود إلى التلال تجولنا في أحياء المدينة، ولفت نظري أن معظم الشوارع تمتلئ بالحفر وتفتقد الأرصفة وعمليات التشجير، فأين البلدية من هذه الحفر التي تشوه وجه المدينة، وتمس بحياة المواطن والسلامة العامة له؟ ولماذا لا تتم عملية شاملة لصيانة الشوارع والأرصفة وتشجيرها؟ وهل نسي المعنيون أن جنين امتداد لمرج ابن عامر واشتهرت عبر تاريخها بالجمال والخضرة؟ وأن مجرى (عين نينا) كان يشقها حتى يصب في نهر الملح ووادي المقطع الذي كان يصب في حيفا؟ حيث كانت البيارات تملأ المنطقة إضافة إلى أشجار الكينا التاريخية العملاقة.. فرحمة بشوارع جنين وتاريخها ومساحاتها الخضراء التي بدأت تتلاشى يا بلدية جنين، فهذه المدينة أمانة في أعناقكم ستسألون عنها يوم القيامة.

ما أن بدأنا الصعود إلى ربوات جنين حتى بدأت أشعر بروحي تحلق في الجنان، فهناك وعلى تلك المرتفعات حيث الطبيعة الخلابة، لا يمكن للروح إلا أن تحلق في الفضاء، وفي منطقة السويطات توقفنا لألتقط الصور، وحين نزلت من السيارة بدأ سحر جنين يستلبني، فتنشقت الهواء النقي بملء رئتيّ، وحين وصلنا إلى بلدة (تلفيت) حيث بنيت الجامعة الأمريكية، ورأيت الطبيعة بجمالها الخلاب، حتى كان سحر جنين قد بدأ يسري في شراييني مجرى الدم، وهذه البلدة الصغيرة والجميلة، التي تضم بقايا حجارة منحوتة وأنقاضاً لآثار قديمة، تدل على أن هذا الموقع كان له دوره في التاريخ القديم، فوقفت بدهشة الطفل أمام هذا الجمال، وشعرت أن جنين تأتي إليّ وكأنها ريم الفلاة، تفرد شعرها الحريري وترخي جدائلها، فتنعكس الشمس عليه مانحة إياه لون الذهب، وشعرت بطيفي يرافقني كالعادة ويهمس لي: أكيد ستكون جولة رائعة لمسافر مثلك لا يحمل سوى حقيبة حب وعدسة ذكريات.. وماذا عن ذاك القلم؟ أطلق له العنان ليكتب كلّ ما يرى ويسمع، دعه يكتب النّاس ومشاغلهم وأفراحهم وأحزانهم، ودعه يكتب كلّ شيء، ودعه يكتبك حتّى أنت، فالأشياء كما تحسّها أنت، هي أجمل ما قد يمكن أن يكتب.. فشكراً أنّك حملتني معك في حقيبة سفرك إلى ربوع جنين.. فهمست لروح طيفي: ما أجمل وطننا، وما أروع همساته تنساب كالموسيقى! لذا سأبقى عينيكِ في الوطن، وستشاهدين في المرحلة القادمة الكثير مما كتبت ووثقت عدستي.

اتجهنا إلى بلدة (تنين)، والتي لا تقل سحراً بطبيعتها عن (تلفيت)، وهذه البلدات بناها محمود عبد الرحيم إرشيد وشقيقه، فأراضي هذه المنطقة الشاسعة المساحة كانت ملكاً لآل إرشيد منذ زمن قديم، وما زالت مساحات واسعة منها تعود بملكيتها لهم، وأكملنا الطريق إلى بلدة (الزبابدة)، وهذه البلدة تعود في تاريخها إلى العصر البيزنطي، وتدل على ذلك بقايا قطع الفسيفساء التي تعود إلى العصر الروماني، وقد دمرت بالكامل في القرن السابع الميلادي بسبب الحروب الدينية المتكررة، وبقيت طوال الفترة غير مأهولة حتى عادت لها الحياة في القرن السابع عشر الميلادي، من خلال مجموعة قدموا من (طيبة) رام الله، وتملكوا أراضيها من آل جرار. والبلدة عبر تاريخها القديم والآثار المكتشفة فيها، كانت تحمل آثار المرحلة المسيحية وتأثيرها في المنطقة، ويوجد بها الآن أربع كنائس، أقدمها كان (ديراً) ويعود تاريخ بنائها إلى 528 م، وفيها مسجدين قديم وحديث، والحديث تعلوه ثاني أعلى مئذنة في الضفة الغربية. وما أن أطللنا على شارع الكنيسة وهو الشارع الرئيس في البلدة، حتى شعرت برهبة التاريخ، وحين دخلنا نجول البلدة القديمة، ووصلنا إلى كنيسة القديس (جارجيوس) التي بنيت في العام 1874، حتى بدأت أترنم بأبيات شِعر للشاعرة صونيا خضر تقول:

"قليل من الكلام كان يكفي

ليعبر الضوء

قمراً في نصف إغماءة..

وينام في.. سرير البدر."

وما أن أكملت ترنمي بهذه الأبيات حتى ابتسمت، فقد تذكرت أن الشاعرة صونيا التي تسكن رام الله، تعود عائلتها إلى بلدة الزبابدة.

أنهينا التجوال السريع في عبق تاريخ الزبابدة، عائدين من جديد مروراً ببلدتي تنين وتلفيت، وهناك وقفت ألتقط صوراً جديدة للسحر الغامر، حيث تظهر الجبال شرقي نهر الأردن، فشعرت بالحنين لأهلي وأسرتي هناك، وهمست لنفسي: لو أتيح لي لسكنت في صومعة صغيرة هنا، أمتع روحي بروعة الجمال، فمثل هذا السحر كفيل أن يحيلني من كاتب إلى شاعر. وأكملنا الطريق باتجاه مناطق ساحرة أخرى سيكون لها حديث في الخفقة الثالثة القادمة من جنين وخفقات قلب.

أقف إلى النافذة وأنظر نحو السماء وقد انتشرت فيها الغيوم، أحتسي قهوتي وطيفي الذي لا يفارقني، وأتذكر أمسيتي الأدبية ولقائي مع مجموعة رائعة من أهل جنين في الأمس، ورحلتي في أول الأمس، والتي ما زلت أواصل الحديث عنها، وأجهز نفسي لجولة اليوم، وأستمع لشدو فيروز: "رجعتَ في المساء/ كالقمر المهاجر، حقولك السناء/ حصانك البيادر/ أنا نسيت وجهي/ تركته يسافر/ سافرت البحار/ لم تأخذ السفينة/ وأنت كالنهار/ تشرق في المدينة."

(الخفقة الثانية)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى