الثلاثاء ١٧ أيار (مايو) ٢٠١١

حــــــنيــن

اعتاد الناس، في تقييمهم للأشياء، أن يفرقوا بين الزمن الجميل والزمن غير الجميل (حتى لا أقول الرديء) دون أن يدركوا الحدود الفاصلة بينهما لمعرفة كنه الأول وسر الثاني، وإن كانوا يعنون، في الغالب بالنسبة للجميل، ذلك الماضي الذي يمكن وصفه بالأبيض والأسود قبل الهجمة التكنولوجية الشرسة التي، حسب رأيهم، السبب في غرق الجميع في وحلها رغم مناقبها الكثيرة، هم يعنون إذا بالزمن الجميل البساطة في العيش دون تعقيد في كل مناحي الحياة المنسحبة على مجالات شتى.

الحق أن أيا منا حين يوقف لحظة عيشه ليسترجع الماضي عبر ومضات خاطفة سريعة ، نراه غالبا ما يتحسر على ما فات لأن الماضي برأيه هو دائما الأجمل مقارنة مع الآني من يومه، وإذن فكل يوم معيش موسوم بالرداءة - اليوم- يصبح بالضرورة غدا جميلا لأن ما فات دائما يعيد صياغتنا في قوالبَ حسب مقاس اللحظة، و تأسيسا على مصوغاتنا مما نصدره من أحكام قِيمة نبني معالم يوم جديد الذي سيغدو بالضرورة قديما.

في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، في هذا الزمن الجميل حسب التقسيم السابق، كنا نحن - شباب الناظور- نعلن التحدي لإبراز ذواتنا في مدينة منسية، فضاءاتُها موبوءة ومسدودة، عشنا فيها مضطرين حينا، وأبطالا صغارا في أحايين كثيرة، فلا الزمان طوانا ولا الأمكنة حوتنا إلا صحبة معاناة كانت أكبر من أن نتحملها، والناظور يومها ما كانت لتعني لنا أكثر من فضاء واحد يتيم هو شارع محمد الخامس،بل الناظور بما تحوي من بطون كثيرة كانت مختزلة في هذا الشارع لا غير، ولم نكن نطلق الناظور إلا على هذا الشارع، أما بقية البطون فليست منه لدرجة أننا كنا نجيب ببراءة كل من يسألنا عن وجهتنا، ونحن في الناظور، كنا نقول:

«ذاهبون إلى الناظور»، ونحن في الناظور تخيلوا ولم نكن نعني سوى شارع محمد الخامس، ومن يلفظه هذا الشارع فهو خارج الناظور ولا يُعد منه.

والفضاء الجميل حقا الذي كان يطوينا نحن -المراهقين يومها- هو جمعية «الانطلاقة الثقافية»، كبرنا فيها، بل و هناك تشكل وعينا حين فتحنا أعيننا على حقائق كثيرة، أغلبها كان يطرح طرحا غير صحيح البتة فيما له علاقة بالشأن المحلي لمدينتنا.. تعودنا على الاختلاف إلى الجمعية كل مساء لنلعب الشطرنج ونحن نسمع مارسيل خليفة وهو يصدح رفقة أميمة:

أحن إلى قهوة أمي،
وخبز أمي..

وكذلك أحمد قعبور الذي كنا نردد معه:

أناديكم، وأشد على أياديكم،
وأبوس الأرض تحت نعالكم..

وسعيد المغربي الذي كان يشنف أسماعنا بأغانيه الجميلة، ينتقي كلماتها من منهل الواقع حيث القضايا مطروحة بدون ماكياج ولا مساحيق.

هناك في الجمعية بدأنا ندرك ما معنى أن يكون الفنان ملتزما حين يكرس فنه من أجل خدمة المتلقي، فَهمنا أن الفن الأصيل هو الذي يأخذ بأيدينا إلى عالم آخر لكن حقيقي،الوقائع فيه مطروحة بشكل صحيح ولها صلة بالقهر وظلم الإنسان للإنسان، أما ميمون الوليد الذي غنى عن «أدشار إينو» فكانت أغانيه تجعلنا نحس بمدينتنا بشكل أفضل، بشكل أفضل والله.

أغانٍ كثيرة كانت تغسلنا من الداخل وتجعل نفوسنا ترق وتفعل فينا فعل مُزنة في الأرض بعد البرق الخـُلب، صحيح كنا صغارا لكن كنا نعي الظرفية التاريخية التي سيجت هذه الأغاني، شيء ما في دواخلنا كان يتملكنا حين نسمعها.

ويوم نكون على موعد مع عروض يلقيها أساتذة أعزاء مثل عمر الحسني، وعبد الله حرش، وعبد السلام المارسي،ومحمد أقوضاض، ومحمد ميرة...كنا ننخرط في تظاهرة لكن علمية، وكان يوم العرض بالنسبة إلينا كرنفالا حقيقيا، كانت مضامين عروض هذه الأسماء الكبيرة يمدنا بالطاقة ويملأنا بأسا لمواصلة مشوارنا الدراسي..لقد أفادونا وأمتعونا في مدينة منسية، أهلها ضرب عليهم الخناق لأنهم «أوباش».

ثانوية عبد الكريم الخطابي كانت عالمنا المفضل، ولكنها لم تكن كل العالم، كانت هناك جمعية "الانطلاقة الثقافية" التي كنا نعتبرها المدرسة الثانية، تخرج منها أطر تركوا بصماتهم في الشأن المحلي الناظوري، أغلبهم الآن قضاة، محامون،أساتذة،فنانون، رسامون،منشطو برامج،مخرجون، ونجوم في رياضة القدم...(ليبارك الله فيهم جميعا).

إيه يازمن،

تراك تذكرنا حين كنا نتلمس طريقنا، ونحن زغب الحواصل، في ناظور مغلق لا باب خلفي له.
تراك تغفــر لنا شقاوتنا ونحن مراهقون..

تراك تذكرنا كيف كنا؟

لحظة، دعني أقول لك:

فتحنا أعيننا في مدينة يغيب فيها أبسط شروط الحياة الكريمة، وفي أيام الآحاد والعطل إذا لم نلعب كرة القدم، فإننا نظل نحرس باب سينما الريف و«الرويو» لمعرفة فيلم اليوم، ولم يكن سوى فيلم هندي يخدرنا لساعات.

كنا نعشق الأفلام الهندية وكانت هيما مالي، وممتاز، وريكا، وشارميلا تاغور فنانات يشغلن بالنا، يسكن منا القلب والأهداب، بعضنا- وأنا منهم- إذا انتهى الفيلم خرج حالما، وفي البيت يحمل معه وقائع الفيلم،يخرج كراسته فيبدأ في تسجيل عبارات الغرام الأثيرية التي أسمعها البطل لمعشوقته.

أواخر السبعينات و بداية الثمانينات، كنا نرسل شعورنا حسب الموضة، وندعها تندلق على أكتافنا، ولا زلت أتذكر اليوم الذي انخرطنا فيه في ضحك هستيري حين قال أحد أصدقائنا بأنه لا يحب المطر، وحين استفسرناه رد بعفوية :«إنه يفسد تسريحة شعري».

وكأي مراهقين كنا نحرص على هندامنا،وكان شرط سراويلنا الطويلة أن تكون ذات أكمام واسعة تصل أخمص القدمين مع ضرورة تغطيتهما ، نتباهى بها ونسير بها في الأرض مرحا،و كنا نحرص أيضا على أن يكون لسراويلنا من الأرض نصيب وإلا فهي لا تستحق أن تُلبس.

كانت حياتنا عادية لكن حافية، ومع ذلك تمسكنا بها لأنها حياتنا،عشناها بعمق رغم الكفاف ،كنا نعتبرها كما قال ناظم حكمت بيت أبينا لا دار مستأجر.. مارسنا طفولتنا ومراهقتنا «بالخبز الحافي» ومع ذلك لم نكن نعدم وسيلة في الخروج من خندق «اللاشيء»، كتبنا خواطر، وأشعارا، وقصصا، ونظمنا رحلات.. بكلمة: «عرفنا مصيرنا فاقتحمنـاه».

أما أشهر المقاهي التي كانت توسم بأنها مخملية يومئذ فكانت «المنزه» في شارع يوسف بن تاشفين وكذلك مقهى "الدار البيضاء"المركونة وسط الناظور(عفوا في شارع محمد الخامس) ، وإن كنا نحن الشباب يومها نفضل الجلوس في «الكلوب» العلامة الفارقة التي كانت تسم مدينتنا الناظور.

لحظة، من فضلكم.

على ذكر المقاهي هل تتذكرون مشروب «كروش» في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات؟

لست أدري كيف حصل الاتفاق والإجماع على أنه مشروب لا يليق بمتمدنين، فهو وقف على المتخلفين، لذلك لم يكن أحد منا يجرؤ على طلبه، وإلا سيكون مثار سخرية الأصدقاء، يا الله، كم كان مذاقه منعشا، ومع ذلك فقد كنا نتشبه بالمتمدنين ولا نقربه، شخصيا كنت أشربه خلسة،وإذا ارتويت ألقيت بزجاجته جانبا، ثم أفحص نفسي وألعنها قائلا: «أيها المتخلف الصغير»، لكن سؤالا ظل يؤرقني هو ما الفرق بين متخلف يتخفى كما الضمير المستتر، وآخر يتبدى ويشرب كروش على مرأى الجميع؟ ثم هل هذا هو التخلف؟وهل المتمدن هو من يحجم عن شرب كروش؟.. أسئلة كثيرة جفت على لساني وأنا صغير دون إجابة واحدة ترويه.

«كروش» مشروب المتخلفين،

ياه كم كنا مساكين!

كنا نعيش في ناظور مثل مستنقع، الفراغ ينخرنا من الداخل والخارج ،مسؤولونا الكبار جاروا علينا، وكانوا مثالا ليس للسرقة، بل كيف تصح هذه السرقة، (واللصوص ليسوا سواسية ،فلص فنان ليس كمن يسرق كيفما اتفق) ، لقد حول رؤساءُ المجلس البلدي الناظورَ مدرسة للنهب لمن يريد أن يتعلم.. هم ربما كانوا يشربون كروش، وبدل أن يسخروا من المشروب كانوا يسخرون منا في جلساتهم الحميمية في مليلية المحتلة حيث يسكرون بأروع "كانيات" وبأغلى أنواع الويسكي، وحين يرون الحمار غزالا تنم عيونهم وتزداد أفواههم اتساعا، ثم يبدأون في نهش لحم مدينتنا،كانوا يعتبرون أهلها متخلفين، ومدينتهم لا تستحق أية تنمية، وعليه فإن أي مشروع يجب ألا يطال الناظور، بل كل من يتوخى المجد عليه إن ينقل مشروعه إلى فاس، أو الرباط ،أو الدارالبيضاء... كانوا يعتبرون أهل هذه المدن هم المتحضرون، أما أبناء الناظور فمجرد متخلفين وحثالة يعيشون على التهريب.. الأنذال نهبوا خيرات الناظورثم تركوها كمغتصَبة غارقة في دمائها بعد أن تناوب عليها مسؤولون/ ذئاب في هيئة بشر،تنكروا لها في الأيام السود سود الله سعيهم، وقبح الله وجوههم.

السنون مرت بسرعة كما السحاب، واليوم كبرنا وصرنا شيوخا..

كل في طريق،

أصبحنا آباء وأجدادا، حققنا مآربنا، قد لا تكون كلها ولكن بعضا منها،صرنا أطرا تفخر بها عائلاتنــــــا،ومنا من صارفي موقع القرار لكنه تنكر، بصلف،لمدينته وللأصدقاء بطريقة بتنا نراهم بها أقزاما ليس إلا، بعضهم غير جلده،لقد كرسوا سياسة "كبار" المدينة فكانوا امتدادا لسلفهم وخيرَ خلف لهم، لقد ترك الأنذال الأسلاف أثرهم فيهم، تخرجوا من مدرستهم ، علموهم لا كيف يبنون بل كيف يهدمون.

السنوات لم نحس بها، مرت سريعة سريعة..

ومنا من فضل البقاء في الناظور، ومنا من غادر،و منا من مات في أحداث 1984، أو خرج بسببها ولم يعد..ومنا من ظل وفيا لقسمه و مازال يواصل الدرب رفقة شباب الألفية الثالثة لخدمة مدينتهم حاملين في القلوب هـــمّ الإنتصار للناظور ومداواة جراحها من الإرث الثقيل الذي راكمته لعقود..
وفي النهاية...

كلنا في النهاية راحل، وحدها الناظور باقية نرجو أن يعيش أولادنا وحفدتنا في زمنها المهم كما في المثل الصيني.

لحظة رجاء:

هل الناظور اليوم فعلا تتغير؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى