الأحد ٢٢ أيار (مايو) ٢٠١١

لُغْزٌ في الجِمَاع

محمد إِفرخاس

تُعْتَبَرُ الألغاز من أقدم الفنون والأشكال الأدبية التراثية التي كان العلماء والشعراء والأُدباء يَصُوغُونَهَا نَثْراً وشِعْراً، والتي تَنمُّ على ذكاء وعبقرية العرب، وبراعة تعبيرهِم وسِرِّ لغتهم العربية، لغةِ الضاد الماتِعَة. وهي وسيلة لِشَحْذِ الأذْهَان وترسيخ المعاني والأفكار في عقول الطَّلَبَةِ النُّبَهَاء، واسْتِثَارَةِ رُوحِ الغَوَامِضِ والأَحَاجِي للتَّنافُسِ والمفاضَلَةِ بين النَّوابِغِ الفُضلاء، وتقْوِيَةِ مداركِ العقلِ والتَّفْكِير عند الأَذْكِيَاء.

وتختلف هذه الألغاز باختلاف البيئة والمكان والزمان الذي وُلِدَتْ فيه وَنشأَتْ، كما تتضمَّن موضوعاتٍ تُعبِّرُ عن المناخ الفكري لمجال نشأتها، وعن التَّخَصُّصِ الفَنِّيِّ الذي سِيقَتْ من أَجْلِهِ.
وإذا كان علماء اللغة العربية يلغزون ألغازا نحوية تتضمن إشكالات مقصودة لأغراضٍ بديعةٍ وأسرارٍ لطيفةٍ تَخْدُمُ أُمَّ اللُّغات، فإن الفقهاء يعمدون إلى إخفاء وجه الحكم في بعض المسائل الفقهية العويصة لاختبار المُتَخَصِّصِ فيها لِيَتَمَكَّنَ من اكتسابِ الملَكَة الفقهيَّة الاجتهادية، وقِسْ على ذلك ألغاز الفنون الأُخرى المبثوثة في ثنايا الأوعية المعرفية.

وقد حَدَّدَ العلامة "حاجي خليفة " (ت 1067 هـ) المقصود بالألغاز، فقال: ( هي علم تُعْرَفُ منه دلالةُ الألفاظ على المراد، دلالةً خفية في الغاية، لكن بحيث لا تنبو عنها الأذهان السليمة بل تستحسنها وتنشرح إليها).

واللغز في اللغة: التَّعْمِيَةُ في الكلام، أو هو الكلام الملبِس. قال الجوهري:-هو بضم اللام وفتح الغين-، والجمع ألغاز مثل رطب وأرطاب.

وجاء في: شرح عيون البصائر، لأحمد بن محمد الحموي 2/272: الألغاز جمع لغز-بفتح اللام-وهو مَيْلُك بالشيء عن وجهه، وقيل: الطريق المنحرفة، سمي به لانحرافه عن نمط ظاهر الكلام.

ولَغَزَ في «مقاييس اللغة» اللام والغين والزاء: أصل يدل على الْتِوَاء في شيء وميل. يقولون: اللُّغز: ميلُك بالشَّيء عن وَجههِ. و يقال ألغز في كلامه إذا عمى مراده، أضمره على خلاف ما أظهره.

وفي «لسان العرب» اللُّغْزُ واللُّغَزُ واللَّغَزُ: ما أُلْغِزَ من كلام فَشُبِّه معناه، مثل قول الشاعر أنشده الفراء:

ولما رأَيتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ * وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ، جاشَتْ له نَفْسي
أراد بالنسر الشيب، شَبَّهَهُ به لبياضه، وشبَّه الشباب بابن دَأْيَةَ، وهو الغراب الأسود، لأن شعر الشباب أسود... واللُّغَزَ الكلام المُلَبَّس.

وقد أَلْغَزَ في كلامه يُلْغِزُ إِلغازاً إذا ورَّى فيه وعَرَّضَ ليَخْفَى، والجمع ألغاز مثل رُطَب وأرطاب.. واللُّغْزُ واللَّغْزُ واللُّغَزُ واللُّغَيْزَى والإلْغازُ، كله: حفرة يحفرها اليَرْبُوع في جُحْرِه تحت الأرض، وقيل: هو جُحْر الضَّبِّ والفأر واليَرْبُوع بين القاصِعاءِ والنَّافِقاءِ، سمي بذلك لأن هذه الدواب تحفره مستقيماً إلى أسفل، ثم تعدل عن يمينه وشماله عُروضاً تعترضها تُعَمِّيهِ ليخفَى مكانُه بذلك الإِلغاز، والجمع أَلغازٌ، وهو الأصل في اللَّغَزِ.

واللُّغَيْزَى واللُّغَيْزاءُ والأُلْغوزَة: كاللَّغَزِ. يقال: أَلْغَزَ اليَرْبُوع إلغازاً فيحفر في جانب منه طريقاً ويحفر في الجانب الآخر طريقاً، وكذلك في الجانب الثالث والرابع، فإِذا طلبه البَدَوِيُّ بعصاه من جانب، نَفَقَ من الجانب الآخر.. وقيل: اللُّغَزُ الحَفْرُ الملتوي.

وفي حديث عمر، رضي الله عنه: أنه مرَّ بعلقمة بن القَعْواء يبايع أعرابيّاً يُلْغِزُ له في اليمين، ويرى الأعرابي أنه قد حلف له، ويَرَى علقمة أنه لم يحلف، فقال له عمر: ما هذه اليمين اللُّغَيْزاءُ اللغيزاء، ممدود: من اللُّغَز، وهي جِحَرَةُ اليربوع تكون ذات جهتين يدخل من جهة ويخرج من أخرى، فاستعير لمعاريض الكلام ومَلاحته.

قال صاحب المنظومة الرحبية في مقدمة منظومته:

فهاك فيه القول عن إيجاز
مبرأ عن وصمة الألغاز
وقال الشنشوري شارح متن الرحبية
يعيب الألغاز:
إن الألغاز عيب يجتَنَبْ
فاتْرُكَنَهَا والتزمْ حسن الأدب
إن من أقبحها قولهم
عاجز أعمى ترقى فانقلب

ويقول نازك الملائكة:

دعني في صمتي في إحساسي المكبوت
لا تسأل عن ألغاز غموضي وسكوتي
دعني في لغزي لا تبحث عن أغواري
اقنع من فهم أحاسيسي بالأسرار

تمهيد:

لقد أجاز العلماء استعمال الألغاز بِشَرْطِ بيانِهَا، واستدلُّوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، ثم قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة فاستحييتُ، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة".

قال الأحوذي في التحفة (8/167 – 168): وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال.

أمّا نَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلَّم عن الأُغْلُوطات –وهي صِعَابُ المسائِلِ- فقد حَمَلَهَا العلماء –كابْنِ حَجَر- على ما لا نَفْعَ فيه، أو تَعْجِيزِ الناس وتَخْجِيلِهِمْ.
ولَمَّا أنْ كنتُ أُطالِعُ مخطوطاً لأبي العبَّاس البَلْغِيثِي، ( 1282 - 1348 هـ) ( 1865 - 1929 م)، الموسوم ب:( تَشْنِيفُ الأَسْمَاع، بأسْمَاءِ الجِمَاعِ، ومَا يُلَائِمُهُ مِنْ مُسْتَلذِّ السَّمَاع )، أَلْفَيْتُ لُغْزاً ماتِعاً عبارة عن مُساجَلة بين أَدِيبَيْنِ عَالِمَيْنِ، أَحْبَبْتُ أن يَطَّلِعَ عليه الباحِثُون من بابِ التَّرْفِيهِ والتَّسْلِية والثَّقافة العلميَّةِ.

ومِمَّا جاء في مخطوط: تشنيف الأسماع (ج2: ورقة 52-53).

أن الشيخ أحمد البلغيثي أجاب عن لغز للعلاَّمة الأديب سيدي محمد بن عبد الرحمن الديسي الضرير.

قال: ألقاه عليَّ –أيْ اللغز- بزاوية أبي القاسم بالهامل من أعمال الجزائر بعض تلامذته، وهو يخَاطِبُ به بعض أحِبَّتِه من علماء الزاوية المذكورة، اسمه المختار.

نَصُّ اللُّغز المنظوم:

إلى السيد الشهم الهمام أخي اللُّطْفِ
ومن هو محتار مع العلم والظّرْف
فديتُكَ ما شيءٌ عزيزٌ مُحَبَّبٌ
ويُشْرَى ببذْلِ الروح ما دام في الظرف
وإنْ فارقَ الظَّرف المُعَدَّ لحملِه
أمينٌ وقبلُ كان قد شعَّ بالألف
قريبٌ شديدُ البُعد عنك ينالُه
سِوَاكَ من الأجلاف والمعشر الغُلْفِ
وفيه حياةُ الصًّبِّ بل وحياتُنا
وسُمٌّ وترياقٌ ويَقتُلُ أوْ يُشْفِي
وليس بخَمْرِ الدَّنِّ وهْو سَمِيُّها
ومُشْبِهُها فِعْلا وإنْ فاقَ في الرَّشْفِ
وما مَسَّهُ عَصْرٌ ولكنْ لمُعْصِرٍ
يُضافُ فَحَقِّقْ يا أخا الفضل بالكشف
ويوجد عند الروم والرِّيمِ والمَهَا
وفي الشاة والأسماك والسِّيدِ والخشف
وأسماؤُه شتَّى وأشرفُها الذي
لِرَاءٍ بَدَا والغيرُ أسمجُ مِنْ أُفِّ
فَدُونَكَهُ لُغْزاً بَدِيعاً مُهَذَّبا
مُرَصَّفَة أبياتُه أحسنَ الرَّصْفِ

ودُمْ منعما وَاسْلم كريما ممتَّعاً * بِكُلِّ الذي تهوى على أحسنِ الوصْفِ
قال الشيخ أحمد البلغيثي: وأعجبني من الإنشاء والتلحين، وسارعتُ إلى الجواب عنه في الحين:

جواب اللُّغزِ منظوماً:

لكَ الله مِنْ حَبْرٍ أديبٍ أخي ظَرْفِ
حَبَانَا بِلُغْزٍ فائقٍ مُحْكَمِ الرَّصْفِ
يُذكِّرُنا في صَبْوَةٍ بالذي له
صَبَا مَنْ له شَوْقٌ إلى الَحَسَنِ الوصفِ
 
فمَا هُوَ مَا لكنْ على الماءِ قد سَمَا
بظَرْفِ اللّما يا حُسْنَ ذلكَ مِن ظَرْفِ
وفي قلب مَنْ يَهْوَى حرارةُ بُعْدِه
على أنه من بَرْدِه للجَوَى يَشْفِي
وقد يُفْتَدَى بالرُّوح إنْ عَزَّ نَيْلُهُ
وإنْ كانَ عندَ الكُلِّ يُلْفَى بلا عُنْفِ
وحَضَّ رسول الله بالنُّصْحِ جابراً
عليه بقول قد دعاه إلى الرَّشْفِ
على أحَدِ الوَجهيْنِ في لُطْفِ قولِه
فيا حَبَّذَا قولٌ تَرَاسَلَ في اللُّطْفِ
وباللام في قول الرسول ابتداؤُه
وإنْ كثُرَتْ أسماؤُه لأَخِي الوصفِ
وأجداه في قلب الشَّجِيِّ حلاوةً
إذا ناوَلَتْهُ الخَوْدُ في حالةِ الكَشْفِ
فَللَّهِ ما أَحْلاَهُ منها بصادِقٍ
من القول من خيرِ الأنامِ بِلاَ ضَعْفِ
على القلب منه واللسان عذوبة
وفيه من اللَّذَّاتِ للنفس ما يَكْفِي

هذا هو نَصُّ لغز الجماع كما سُطِّرَ في المخطوط المذكور أعلاه، بَثَتْهُ تقويةً لمهارات الإبداع والتفكير والتحليل وتنميةً للعقل والمخ لِلْإِنْبَاهِ والانْتِبَاه، وليس لِلْإِثَارةِ كما تَقَوَّلَتْهُ بعضُ الأَفْوَاه، والحمد لله الذي يَمْنَحُنا العَوْنَ في كلِّ ما نَلْقَاه، وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد نبيِّنَا الأَوَّاه.

محمد إِفرخاس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى