الأحد ٢٢ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم غزالة الزهراء

أحلى أيام العمر

مدينتي الخجولة تستكين لمشيئة القدر، الذكريات الصاخبة الملونة كقوس قزح تعلو الأرصفة، وهدير السنين، الزمن المشاغب يثرثر بلا حساب، يغازل نشوة الصبا، وأحلام الشباب .
مدينتي العذراء تنفض عن كاهلها غبار الأزمنة الرعناء، تتحدى عفونة الصمت في قوة خارقة ليس لها مثيل، تحكي لي أروع قصة انغمست في أقدس معانيها إلى حد النخاع.

الشوارع الحلزونية تسرد الحكاية الجميلة من غير فوضى، ولا رتابة، ولا ملل وأنا ابن الخمسة عشر ربيعا يسكرني الشوق إلى حد الغرق، أحن إلى أيامي الحلوة، الزاهية الرافلة في ثوب التفاؤل و التي أضناها التوجع، ورجع الصدى.
ـــ ابني العزيز الصغير، ماذا تريد أن أشتري لك ليوم العيد ؟
هتفت و صوتي الطفولي الجامح تغلفه أصداف ولآلئ : أريد حذاء لماعا.
ضممتني إلى صدرك الذي يموج بالدفء و الحب، و أمطرت جبيني العاجي قبلات.
ـــ و ماذا تشتري لأمي الغالية ؟
قهقهت عاليا حتى اهتزت كتفاك ، قلت و يداك الخشنتان تعبثان بشعري الفاحم: يا صغيري ألا تكف من شقاوتك أبدا؟

جاءت أمي من الغرفة المجاورة حين ترامى إليها حوارنا الشيق الساخن، قلت لها و الابتسامة المشعة كالنور تبتلع وجهي المستدير: أمي، قولي له أن يشتري لك ثوبا.
ضحكت ضحكة خفيفة تنم عن طيبة قلبها، و نبل مشاعرها .
كان التفاؤل يغمر فؤادك كالشلال العاتي، و الحب العميق الصافي يفيض من لسانك وديانا.
واجهتنا و أنت تغسلنا بدفء نظراتك: أنتما أعز ما أملك في هذه الدنيا.
أحسست لحظتها بنشوة عارمة تطلق تغاريدها عبر أجواء ذاتي، هتفت و الغبطة تتملكني: تحيا أبي، تحيا أبي
لقد كنت محور سعادتي، و رونق أيامي، كنت بهاء غدي، و تاريخ عمري.
فاجأتنا حين أضحى الأمل يتبرعم و يزهر: سأسافر عما قريب.
ـــ إلى أين؟ نطقت أمي في صوت مأساوي يتهاوى إلى قاع الدمار.
ـــ لا تندهشي، سأسافر، و أعود، لن أنساكما، أيعقل أن أنسى ابني و زوجتي ؟
نطقت كغريق يلفظ آخر أنفاسه: أرجوك، تراجع عن قرارك هذا.
ـــ و لماذا؟
ـــ الغربة موحشة، قاتلة، ستلتهمك، أكيد ستلتهمك.
ـــ يا عزيزتي، لا تكوني سببا في تدمير أحلى أمل عشته منذ سنوات لقد قررت أن أسافر، يجب أن أسافر.
ـــ وما الداعي إلى ذلك؟
ـــ لأجمع من هناك مالا وفيرا، و أعود به إليكما.
ـــ لا أريد المال، أنا في غنى عنه.
نطقت وقد انبثق من عينيك غضب أرعن: يستحيل أن ترفضي المال، يستحيل.
ـــ أريد راحة البال و.....
قاطعتها وقد ازداد صوتك حدة: كفي من هذا الهذر، لن أتراجع عما خططت له منذ سنين. أهذا واضح؟
غاصت والدتي في برك معفنة من اليأس، وغابت في منعطفات الصمت القاتل.

الزمن المشاغب يسخر، يقهقه، و المدينة الحالمة تسجل أسماء المغتربين الذين رحلوا عن ديارهم وفي أيديهم حقائب المآسي ، وملفات التمرد، فالأرض الحانية تناديهم بأعلى صوتها: عودوا يا أبنائي لأحضنكم بقوة، لأمنحكم عطائي الغزير، عودوا ولا تصبوا علي جم ظلمكم، عودوا لأن نفحات الخير أجنة تتمطى بداخلي، لن ابخل عليكم أبدا مادمتم أبنائي، ولكن شمروا على سواعدكم، أخدموني بقلب نابض، وضمير حي، وسوف ترون كم أمطر عليكم من خيرات لا حصر لها.

هنا في جوف المدينة الشمس ساطعة، مولودة بين ذراعي السماء، ترسل الدفء الذي نلمسه في غمرة البرد، ونتدفأ، ونغرق في الدفء.
هنا في جوف المدينة اعتدت أن أهرع إليك، أتحسس يدك المشققة التي تفوح منها رائحة وطني الحبيب، و أهمس في أذنك برقة و حنو: أحبك، أحبك ياأبي.
كانت قدماك تطرقان الشارع الترابي الذي يشعرك بقوة وجودك، وبانتمائك إليه، ولكنك غبت كما يغيب الحلم الشارد.
لماذا ابتعدت كما يبتعد الزورق عن محيطه الصاخب، وآثرت وحشة الغربة بعيدا عن أرضك الأم؟
قلبي التائه ينبض لكل فجر جديد، لكل مساء حالم، لكل دقيقة تمر، عيناي المعشبتان تكتحلان بأشواق العودة، والحنين الأزلي يحرك في صمتا آسرا، شوقا لا يهدأ، و انتظارا لا يذوب.
أترقب عودتك الحبيبة مع ترنيمة العصافير الساحرة، مع إطلالة كل فجر يشق طريقه إلى عيني، أترقبك عسى أن تغسل عن جفني مرارة القلق، وتجتث من أعماقي المتعبة غصن الانتظار.
عد إلي معبأ حنينا و حنانا، عد وفي عينيك تزغرد فرحة اللقاء، وعلى شفتيك يفرخ الأمل و يتناسل، عد لتتعانق نظراتنا الولهى، ويختلط شوقنا الجارف فيتحول إلى همسة، و بسمة، و قهقهة، وعناق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى