السبت ٢٨ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

احتِراقُ «الهَبَاري»

ألسنة اللهب الملتوية، والطويلة، تلعق ظلمة الغسق فتبددها، لاح ذلك من أقصى القرية، واللهب يجري مسرعاً، شلال من الحُمْرة، ورائحة الدخان تملأ المكان.. كل شيء يشتعل؛ القصب، والزلّ، البيوت، والجدران. هلع في كل مكان، الناس يهرولون، رائحة الخوف تعمّ المكان.. النار أسرع مما يتصورون، حتى خيل إليهم كأنهم جميعاً يعيشون كابوساً مرعباً.

وقف مجْحم أمام هذا النهر المعربد من اللهب، سمع صوت حبيبته تستنجد به وتقول: مجحم، «هباري الحرير.. وسط النار». جنّ جنونه، هذه أول هدية يهديها لها، واعتاد أن يشم «الهباري» عندما يرفعها رويدا رويدا ليشم شعرها، ويطوق خاصرتها ضاغطاً بخفة، كأنه يمشي بقدمين حافيتين فوق رمل ناعم، يدغدغه بشهوة. فتاة فارعة الطول، صلبة البنية، لكنها بنعومة الحرير، ذات جدائل شقراء تتدلى على صدرها، فتبدو متقوسة للأمام بفعل صدرها الناهد، الذي يحلم بلمسه، حتى لو اضطر أن يخوض وسط السنة اللهب ويدوس الجمر.

رفع برفق ذؤابتها المتدلية على جبينها، ونظر في قاع عينيها، ونظرتْ إليه ذات النظرة، قرأتْ فيهما قسماً لم يـُفصح عنه صراحة؛ بأنه لن يتخلى عنها ولو دفع حياته ثمناً، حبه لها يتجاوز حدود العقل والمنطق، لأن الحب ليس حقيقاً بمجرد مروره من تحت قنطرة العقل، يجب أن يكون جامحاً، متمرداً، كأحصنة اللهب تلك التي يراها تجري كالريح أمامه. قفز بعفوية القروي كليث هائج يدوس على الجمر، ليرجع من بين اللهب ممسكا بطرف «الهباري»، هاله أن حبيبته تصرخ وتستغيثه، والنار تقترب منها، توقف التفكير في هذه اللحظة وانحصر في جزئية إنقاذها، نسي كل شيء، حتى أنه لم يفكر بالانتقام من مخلف الذي قتل أخاه، عندما مرّ من أمامه مهرولاً وفرصته حانت..

كل شيء يحترق، صوت القصب يطقطق وسط النار، وجذوع الأشجار وأغصانها بدت كأنها أيد تبتهل بالدعاء. قفز إليها وأمسك بخاصرتها، حملها وركض، تضرب برجليها وتقول: «مجحم..
مجحم..احترقنا»، لم يُصغ لها، تنحى بها بعيدا،ً ووضعها على الأرض وأحس بظهره لسع كأنه إبر دبابير، التفت وإذا بسياط النار من الهباري المحترقة تجلد ظهره، لا شعوريا غمس نفسه في النهر، ثم خرج، ليعانقها، والماء يقطر من جسده، أحس أنه لن يفقد حلاوة العسل بمجرد انكسار الجرّة.

حدق في عينيها.. كل ما فيه يفتنها؛ رجولته، شاربه الكثّ، عضلات جسده، نبرة صوته، شعره الكثيف. قال لها بصوت يفيض رجولة وحناناً، كاجتماع الماء والنار قبل لحظات؛ أحبــــك، إنك أعز مخلوق عليّ في هذا الكون، أنت الحبيبة، والأم، والصديقة. سُرتْ بما سمعتْ منه، وأجابتْ بعفوية: ليت القرية احترقت منذ زمن لأعرف مقدار حبك لي، واستعدادك للتضحية من أجلي.. حضنها والدموع تملأ عينيه قائلاً: أحبــك يا سوريـّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى