الجمعة ٢٧ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم أحمد حمادي

لقاءٌ مع الذات

«صعد الجّحيم عابراً حلقه المتشنّج حذرا حتّى استقر داخل جمجمته. لم تستطع بوّابة الأنفاس تبريد فكره، زفراته الخائفة جعلت الهواء الساخن يُتعرّق بجنون» السطر الأول، الصفحة الراّبعة. عنوان الكتاب: قصّة أنفاسي!

إن كان مرّ فوق جسد حياتي عشرون خريفاً فمن الأكيد أنّ عشرين دقيقة قد اقتُطعت منها اليوم بالتراضي: هو الوقت الذي أستغرقه عادة في التهام عدّة صفحات قبل أن أتجشأ من فرط الشراهة المُخجلة، ماذا يحدث! همس منبّهٌ داخل أذني. لم تبارح نظراتي ذلك السطر الشّرك، جعلتُ أقرؤه مرارا وتكرارا، جعلت أُدخل كلماته تباعا إلى قلبي.. كلمةٌ واحدة في كل مرّة! عجزت أن أحشرُه دفعة واحدة و أنتقل إلى ما سواه. أرادت نفسي احتساءه على مهل ككأس حليب يكوي اللّسان الصارخ رفقة كتيبة من الشوكولاطة المُنكّهة. مالذي يجتاحُني؟

ساعة الحائط المُتّسخة انتفضت فقط لتعبث بحواسي فقد رنّت بحماسة زائدة. لحظة! هي لم ترن، بل صاحت كمُطربة فاشلة تُغالي في استنزاف حياة أحبالها الصوتية.استفقت من غفوتي مُرغما. رميت بصري نحو الكتاب وإذا به يسقط على ذلك السطر الـجذّاب. كانت سقطة حاّدّة جعلت حواسي تتهشّم. صدقا، لم أفهم حينها لمَ غلى قلبي حتّى بلغ مرحلة الطهي التّام..لمْ أعِ لماذا تطعنني كلماتُ راوي تلك القصة! ألأنّ حياتي لا تصلح لتكون صفحات مُعبّرة تحويها دفتين عازلتين؟

تأبّطت ذلك الكتاب اللّغز،حملت محفظتي الصغيرة وغادرت المكتبة العامة و وجهتي دروب المدينة أُجرّب وقع نعلي الجديد عليها. كنتُ من هوّاة التصوير الطبيعي، مسحُ ما أمكن من صور المارّة،التدقيق في تفاصيل ملامحهم كانت موهبتي! زوجة أبي،رحمها الله، كانت دوما تنعتُني بالصقر لأنّ حدة نظراتي كانت تجعل ضيوف منزلنا الأثرياء يُعانون من أزمة الثقة في النفس. لا أخفيكم،اعتدت رؤية الزوّار يُعدّلون جلستهم على الأريكة، يمرّرون أكُفّهم على رؤوسهم للتأكد من أنّ تصفيفة شعرهم لاتزال مُناسبة أو تتورّد أوداجهم كمن يرتدي منامة رهيبة وسط احتفال مُخملي يحضره ذوو الأنوف المرتفعة، أقصد الجيوب المنتفخة! لم أكن آبه حينها لتأوهّات خيبة الأمل الصادرة عن زوجة أبي بعد أن تُحكم إغلاق غرفة التعذيب المظلمة تاركة إياّي بجوفها. لقد كانت ترى مستقبلي علامة استفهام كبيرة، أماّ أنا فقد كنت أعلم جيدا ماسأكونه في المستقبل. «سأغدو كاتبا مشهورا تهتز الصفحات لمقدم جيوش كلماته، سأقهر حسّ الوصف بأدبي ولن ينال شرف الإلمام بعزفي سوى ناثر موهوبٌ مثلي!» هذا ما كنت أقوله طيلة السنوات السابقة..آه من خيبة أملي!

مشيت ومشيت،التقطت عيناي أجمل الصّور حتىّ نال منهما التعب أخيرا. حينها فقط، فكّرت في بعضٍ من الشاي المُريح. ولجت مقهى العم (مروان)، كالعادة، وطلبي تلك الطاولة الجانبية المُطلّة على الشارع. كان موقعها استراتيجيا بالنسبة إلي، زاويةٌ ملائمة لاصطياد روّاد المقهى وكذا قاطعي الطريق العام! أرحت جسدي ولكن ليس عدستيْ التصويرعالية التقنية. استرخت كلّ أعضائي لتدعم التركيز الشديد لنوافذ رأسي.

إليكم نفسي على طبق ذهبي مكسو برماد السنون: أحمد هو اسمي،باسقُ الطّول كما توّقعت زوجة والدي الوديعة!! لم تعلم الغيب ولكنّ خالي كان أيضا بطول حائط ملعب كرة القدم.. وراثة! ما يُثير حفيظتي كل ليلة قبل أن أهرع إلى فراشي،إلى منزلي الأعزب هو مقدرتها على تخيّل غدي. عجبا! لا عمل لي أشقّ من يومه خبزا يوقف صرخات أمعاءي، أحلامي تاهت من فرط نومي الخمُول وصحبي اتخذوا لي لقبا التصق بجلدي كالعلقة،اسموني (الفاشل). ماذا أقول! هكذا همست زوجة أبي في أذني قبل أن تواري الثرى مع بضع قطرات من دموع آلام قرحة المعدة.

كانت هناك على المنضدة المجاورة للباب الخارجي سيدة عجوز. لا أدري لمَ شدّني منظرُها دوناً عن جميع الموجودين. كان وجهها قطعة عجين خُبزت بإهمال، لم تُطهى بل تُركت تحت أشعة شمس صيفية مغرورة لتمارس عليها تلك الأصابع الحارقة فن النحت! كانت تضاريس الروافد المائية تصب ضمن البقعة المتعرّجة من فمها. كانت السيدّة المُسنة تمضغُ قطعة لحم مقدد، مرحلة ابتلاعها كانت مُثيرة بالنسبة لعينيَّ فقد كان ضغطُ إرسال الأطعمة نحو المريء يجعل كومة الجلد الفاني تحت خدّيها يتشكل على هيئة قطعة قُماش جافة تنتظر دورها لتُكوى.

تاركا السيّدة المُحبّة لللّحوم، تغيرت زاوية نظري لتقع على مشهد غاية في الروعة. لا أخفيكم، ما بصُرتُ به جعل استرداد مشهد العجوز مجازفة غير محمودة العواقب. كانت تجلس على الطاولة الأخيرة هناك، طفلة. طفلةٌ حسناءُ حملت مشعل البراءة بين أنسام مُحيّاها الزاهي. ويكأنّي كنت قبل هنيهة أنظر إلى ساحة حرب والآن ساد السلام، ويكأنّ الربيع حلّ بعد بشاعة الصقيع الذميم!

لا عليكم من العجوز، كانت الفتاة الصغيرة لوحة جسّدت حياة العنفوان داخل العروق. وجهها كان أبيضا كالثلج، وجنتاها كانتا ورودا تفتّحت فقط لتُدهشني، شعرها الفاحم كان ليلا ساهرا يمدح نور إطلالتها البهية. هل كان ما ذكرتُ أوصاف بياض الثلج ضمن حكايا الزمان! لو كنت فعلت، فلأنّها بياضٌ يغار منه رداءُ الشتاء السابي و يعشق الدّجى قدوم فجره. كانت بإيجاز: أميــرة البراءة وأنا الفارس الخجول أمامها.

لوهلة أخذت أقارن بين المشهدين ونفسي قائلا: «هل للزّمــان يدٌ في تتويج هاته كملكة وإرسال تلك إلى غرف الخدم، هل للزّمان يدٌ في ما آل إليه حالي أم أنا الجاني؟ »كانت طفولتي رعيلا من الآلام والمآسي، لم أتذوّق حنان الأم كي تغدو بشرتي ناعمة كجلد تلك الصغيرة فهل يا ترى ستكونُ نهايتي كومة من الجلد المُقدّد؟

اختفى مشهد العجوز ونقيضتها فجأة بعد أن وضع أحدهم كأس شاي ساخن على طاولتي ثم انصرف كمن يعرف بأن جيبي فقيرٌ لا يقوى على الدفع. ارتشفت قُطيرات من ذلك الأخضر القاني ثم أُعلنت حالة الطوارئ بعدها! لقد فهمت ولأول مرة نداء الإبريق بعد أن يغلي،عرفت منطقهُ وحجم مُعاناته. كان الشاي ساخنا يشوي اللحم، حادا يقطع الأنفاس.

«الأنفاس..» قلت في نفسي، رغم أن حالتي لم تكن تسمح للعقل بأن ينطق.تذكّرت ذلك السطر المُبهر فجأة. كان ينساب في فكري كالضباب. «الجحيم..» قالت نفسي مجددا ثم أضافت: «صعد الجحيم عابرا حلقه المُتشنّج حذرا حتىّ استقر داخل جمجمته». تزامنت هذه الكلمات على نحو ما مع شعوري باحتراق بُلعومي من أثر الشاي المُلتهب. «إنّه فعلا جحيم!» قلت بصوت مسموع ثم جعلت أُدخل الهواء عبر فمّي علّي أُبرّد حلقي. حينها فقط تعالى ذلك الصوت مجددا قائلا: «لم تستطع بوابة الأنفاس تبريد فكره»..إنه الجزء الثاني من ذلك السطر العجيب!

استغرقت عملية النجاة بضعة دقائق،قمت بعدها مُغادرا المقهى وأنا أدعو على صاحبه الذي لم يكن يسقيني الشاي إلاّ مُكرها. لم أكن غاضبا كثيرا، شعورٌ ما بالراحة كان يُخالجني. لقد هُيئ لي بأنّي فهمت ما قصده الكاتب من ذلك السطر الفريد.هل كان يصف حالة رجل استقى شايا لافحا للجلد! تلك الفكرة عزّزت ثقتي المنتفخة كالورم السرطاني، فكرة: أنّي كاتبُ موهوب!

ذرعتُ شوارع المدينة بعدها مُتناسيا تلك الجملة التي يبدو أنّها سيطرت على جنبات يومي هذا. خلُص بي المسير إلى كُرسي الحديقة العامة حيث كانت تعكف شجرة بلوط كبيرة على تظليله، كان مسكني الثاني مذ غادرت مقاعد الدراسة بعد إخفاقات جميلة، أو هكذا وصفتها تلك الحنونة العطوفة.. من اختارها أبي لي أمّاً!!

نحن في أوائل شهور المصيف،الجوّ كان حاراً..حرارته كانت تكفي لجعل التفكير يتّجه مباشرة نحو الشواطئ وزرقة قُطيرات الإنعاش. هامت مُخيلتي كحيوان ضال وسط صحراء هجر حتىّ أيقظني صراخهما. كانا رجلا طويل القامة عريض الكتفين مقابلا لشابة مكتملة الجمال. كانا يصرخان بتوتر. مشهدهما حرّك عدساتي صوبهما. دامت تلك المعركة لفترة عقبتها زفرة متعالية من المرأة ثم انسحاب سريع من أمام الرّجل الذي ظل قابعا يُراقب ابتعادها بعيون دامعة تشّع احمراراً. كان وجهه يتصبّب عرقا وهو ينفث أنفاسه في الهواء.

«زفراته الخائفة جعلت الهواء السّاخن يتعرّق بجنون» الوصلة الأخيرة من ذلك السطر المُحيرّ داهمت تفكيري كسديم حاجب للرؤية.استقمت واقفا وقد ابتسم ثغري كالأبله، «لقد فهمت ُ قصدك،فهمت قصدك أيها الروائي المتعجرف!» صرخت بأعلى صوتي. ثم أكملت في نفسي قائلا: « لقد وصف حالة الغضب، أجل..ينبع الغضب من القلب ثم يصعد كالجحيم عابرا الحلق قاصدا العقل بحذر. قد يحاول المرؤ كبح نيرانه مستعينا بشهيق وزفير بارد لكنّ الفكر يتورّم ويمرض أكثر فأكثر لأنّ الأنفاس تغدوا ساخنة مُلتهبة تجعل المنافذ تتكدّر والعرقُ يتصبّب من الجبين.. لقد كان غاضبا وحزينا في نفس الوقت لذلك دمعت عيناه، هذا ما قصده بالأنفاس الخائفة!»

كانت فرحتي لا توصف فقد حللت تلك الأحجية و تغلّبت على مقدرة ذلك الكاتب في تصوير المشاعر، لا أحد يفهم منطق الموهوبين إلا أمثالهم! رُحت أستخرج كرّاستي لأدوّن وصفا أجمل لحالة ذلك الرّجل الحزين المُنفعل.. حاولت جاهدا رسم أسطر مُعبّرة لكنّي أخفقت،عجزت كما أفعل دوما، ما خطّه الحبر لم يكن سوى عبارات ركيكة لولد في العاشرة من العمر. أحسست بالهزيمة و الاستسلام وتعرّفت أخيرا لمَ أثّر بي ذلك السطر وجعلني أقرؤه عشرات المــّرات. لم الكذب! لقد شعرت بالغيرة من موهبة ذلك الروائي، حسدته لدقة شعوره،غبطته لأنّه جعل فكري يحتار..جعلني أع بأنّي من دون موهبة..جعل كلام زوجة أبي حقيقة منتقمة!! رُحت أنظر إلى بطل المشهد بعيوني الصقرية وهو يرثي حاله وأطبع على كرّاستي خربشات تائهة متألّمة يائسة. كم كانت دهشتي عظيمة حين انتبهت لما خطّه قلمي الفقير على تلك الصفحة. لقد كانت صورة رائعة، لوحة فنية في غاية الدقة لمُحيّى ذلك الرجل. رسمت وبمنتهى البراعة وجها غاضبا حزينا متعرقا بصُر بجحيم فراقه عن زوجته فتعرّقت مشاعره لهول ما أصابه.

بكيت،أجل..سالت دموعي وابتسم فمي. لقد كنت أسعى لدحر عجرفة كاتب مُبدع، لأثبت وجودي، لأبني مستقبلا لم يتوقّعه غيري. حاولت تقليده غير مدرك لموهبتي الخاصة! لم أكن أع بأنّ إحساساً عالياً برسم الأشياء كان يختفي وراء عادة ذميمة في تفرّس وجوه البشر. لقد كانت عيناي تُخزّن الملامح ببراعة وريشتي قادرة على ترجمة منطق السطور إلى خطوط متعرّجة تحُاكي المشاعر.نظرت إلى السّماء أتذكّر كل تلك السنوات الطويلة المليئة بالإنكار، بالادّعاء، بالتورية..ذلك الضياع النفسي اللامتناهي ثم أخفضت رأسي وقد شعرت بالحقيقة الدافقة تتسرّب من جوانحي. بالأمل يغزو تلك المُستعمرات المتطفلة من الأكاذيب..
فتحت ذلك الكتاب على السطر الجميل ونظرت إلى الصورة التي أنتجتها أناملي ورحت أقارن الإيحاء بينهما، كانت تقاسيم وجه الرّجل في الصورة تقول بوضوح تـام عاكسة قصة مستقبلي القادم:

«صعد الجحيم عابرا حلقه المتشنّج حذرا حتّى استقر داخل جمجمته. لم تستطع بوّابة الأنفاس تبريد فكره، زفراته الخائفة جعلت الهواء الساخن يُتعرّق بجنون»


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى