الجمعة ٢٧ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

الظِّل

مقدّمة لا ضرورة سردية لها، هدفها تقريب المتلقّي من الظروف التي نشأت فيها هذه الأقصوصة:
في مدخل قاعة الأساتذة، وجد (المُصطفون الخمسة) أنفسَهم مجتمعين تلقائياً، فراحواْ يناقشون الوضع الأمني في البلدان العربية ودور وزارات الداخلية المشهود له بالفعّالية المطلقة...

تحت شمسٍ ربيعية هادئة، وفي فَيْءِ أشجار العرعار المُعفّرة بأريج السعتر البرّي؛ صدحت أهازيج نساء الأطلس المتوسط متبوعةً بإيقاع الطبول الذكورية.

المناسبة تتطلّبُ الاحتفال بابن البلدة موحى الذي تخرّج للتوّ من معهد الشرطة بمدينة القنيطرة. وهو بين المحتفلين مثل عريسٍ جالسٍ على (عمّارية) ببزّته المخزنية الخزّية. وأخوه حَمّو بجانبه لا يبطل النظر إليه بإعجاب.

حمّو رجلٌ في ربيعيه العشرين، متزوّج وله ولدان، ويعملُ مزارعاً، وهو سعيدٌ ومرِح ولا يعرف معنىً لليأس أو الهمّ.

بعد انتهاء الاحتفال، طرح حمّو هذا السؤال:
 ما معنى المخزن يا أخي؟ فأجابه أخوه موحى:
 المخزن معناه الجيش والشرطة والقوات المساعدة، والوزراء، والنظام، والملك، والمحافظة على الأمن...
 الأمن؟... ما معنى الأمن يا أخي؟... قل لي... أنت تفهم معنى الأمن؟
 طبعاً أفهمه؛ الأمن هو أن تنام بخير وتفيق بخير، وألاّ تخاف من اللصوص ومن أولاد الحرام...
 قل لي يا أخي؛ من هم أولاد الحرام؟... هل هم أولئك الذين لا أب لهم؟
 أولاد الحرام هم أولئك الذين يعملون في الظلام بهدف تخريب البلاد وقلب النظام.
 هل هم كثيرون؟... هل أنت تعرفهم؟..
 أنا لا أعرفهم ولكن الدولة تعرف، وإذا لم تكن تعرف، فهي -تتبعهم ليلا ونهارا، وتتبع آثارهم، حتى إذا ما عثرت عليهم تلقي القبض عليهم وترميهم في الحبس.
ـ ولكنّنا كثيرون يا أخي؛ ولقد سمعتُ في المذياع بأن عددنا يزيد على الثلاثين مليونا؛ فكيف للدولة أن تتبعنا واحدا واحدا؟
 اسمع يا أخي الصغير؛ أريد أن أنام، وأريدك أن تعلم أن وراء كل واحد منّا ظلٌّ يلتصق به ويخبر أجهزة الدولة بكل ما يقوم به من أعمال...
 هل هذا يعني أنّ لي ظِلّا يراقبني، وأنّ لك ظِلاّ يراقبك؟... كيف يُعقلُ هذا؟
 اسمع ! ما تفعل في نهاية صلاتك؟ ألستَ تقوم بالتحية ذات اليمين وذات الشمال؟ على من تُسلّم إذن؟ ألستَ تسلّم على الملاك الذي يسجّل لك الأعمال الطيِّبة، وعلى الملاك الذي يسجّل عليك الأعمال السيئة؟... مثل هكذا يعمل الظِّل غير أنّه ليس ملاكا.

ونام الأخ الأكبر، وبقي الأخ الأصغر في كنف ضوء شمعة ينظر إلى أخيه الذي يعرف الكثير، ويعرف أنّ (لكلّ واحدٍ منّا ظِلٌّ يُدوّن أعماله وينقلها إلى الدولة) وسأل نفسَه:(كيف هو شكلُ الظِّل؟) فقام من مقامِه إلى قريبٍ من حائط الغرفة، غير أنّه لم يرَ له أيَّ ظِلّ.
 أخي... أخي... أنا لا ظِلَّ لي... هذه مصيبة. قال لأخيه النائم. لكنّ هذا الأخير نهره قائلا:(دعني أنام!)

عاود الكرّة، فلاحَ على الحائط ظلٌّ يشبهه، لكنّه كان ظِلاًّ ماسكاً بمحراث خشبي عتيق. هو ثابت والظِّلُّ يشتغل.
 أخي... أخي... مصيبة... أنا واقفٌ وظِلّي يعمل. قال لأخيه النائم.(دعني أنام!)

فتجلّت البزّة المخزنية من صميم الظلام كأيقونة دينية غاوية؛ ولمّا تزيَّى بها؛ ظهر على الحائط ظْلٌّ مخزنيٌّ يلوِّح له بقلع الرداء المخزني، ويُشير إليه بالرجوع إلى المحراث.

عندئذ بدأت متاعبُه؛ فعلى الرغم من أنّه لبس الجلباب، وتلحّف بلِحاف، وتعرّى كُلّياً؛ إلاّ أن الظِلَّ المخزني هو من كان يظهر على الحائط.

وفي صباح اليوم الموالي، ظهر الظِّلُ على أرضية الحقول، وعلى جسد الأبقار، وفي دِلاء الماء، وفي مرآة الآبار... ولقد ظهر له ظِلُّ اللباس المخزني حتى على حائط منبر الصلاة، بل رآه مُجسّدا عندا قام بالتحية اليمنى، ورآه متجبِّرا عند تحيته اليُسرى، كما رآه يندس بينه وبين زوجته ذات الثمانية عشرة ربيعا، كما رآه يستبقه إلى السوق، ويفتح له باب الحمّام عندما يريد الاغتسال؛ وفي الأيّام الأخيرة، رآه يقدّم له الطعام، ويفرش له سجّادة الصلاة، ويملي عليه الآيات التي ينبغي له قراءتُها عند وخارج كلّ صلاة...

ويوما بعد يوم، رآه الناسُ يتحدّث مع الظلال، ورأوه بدأ يهمل أسرته ومهنته التي طالما أحبّها، وسمعوه يقول للخواء:(ارحل عنّي أيّها الظِّل الكريه!) فما عاد يعيش. وعندما تحدّث إليه أخوه الأكبر عن طبيب نفساني يعالج مثل (هذه الحالات)، قال له:(أنت سبب كلّ شيء... قبل أن ترتدي كساء المخزن كنّا بخير...)

وعندما أمر أخوه مجموعة من الرجال لكي يوثقوه ويذهبوا به إلى الطبيب؛ استخرج من جنبه سكينا وطعنه...

آنذاك قال لمن حوله:(الحمد لله، لقد عاد لي ظِلّي... أنا بمحراث... وكيفما أعمل يعمل).

مهداة إلى المُصطفين؛ مصطفى العباس، مصطفى بيغراسن، مصطفى أصبان، مصطفى أكناو، ومصطفى يسيني، وكلهم أساتذة بثانوية بدر بنسركاو/ أكادير المغرب


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى