الأربعاء ٨ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

في معنى النكبة وتجلياتها

في المشهد الثقافي الفلسطيني

أطلق الفلسطينيون بعد يوم الخامس عشر من أيار 1948م، ـ أي قبل ثلاثة وستين عاماً ـ على ما ألم بهم تسمية «النكبة»، وكما يذكر ـ الكاتب الفلسطيني حسن خضر ـ «لا توجد في التاريخ العربي ما عدا «نكبة البرامكة» في العهد العباسي حادثة حملت هذا الاسم. حتى الهزيمة الأندلسية نفسها لم تختزل في هذا التعبير. من نافلة القول، بطبيعة الحال، التذكير بفساد الدلالة بين النكبتين البرمكية والفلسطينية، الأولى تخص عائلة أو طائفة من الناس وتدور في حقل الكينونة الاجتماعية، بينما تخص الثانية شعباً بأكمله، وتدور في حقل الكينونة القومية».

والنكبة هي الذروة لعصر الاستعمار الأوروبي الكلاسيكي الذي انحسر في القارات الخمس بعد الحرب العالمية الثانية، وهي أيضاً، الكارثة الكبرى التي حلت بالشعب الفلسطيني وكذلك هي اللحظة العنيفة التي خلقت قطيعة لا يمكن جسرها بين الماضي والحاضر. وأنهت الحياة الطبيعية على المستويين الاجتماعي والفردي، فغيرت حياة شعب بأسره إلى أبعد الحدود. ففي المقام الأول دفعت بالفلسطينيين إلى الشتات، حيث تحوّل ما بين (77 ـ 83) بالمائة من الفلسطينيين القاطنين في الجزء الذي أصبح يعرف باطلاً باسم (إسرائيل) بعد حرب 1948م (78 بالمائة من مساحة فلسطين الانتدابية) إلى لاجئين.

لذلك تُشكّل النكبة في نظر الفلسطينيين فقدان الوطن، انهيار المجتمع، فشل الطموحات القومية، وبداية عملية متسارعة تهدد بتدمير ثقافتهم. وهذا ما منح نكبة الشعب الفلسطيني خصوصيتها وتفردها عن غيرها من الأحداث الجسام التي بليت بها الأمة العربية في فترات الاستعمار أوائل القرن العشرين، ذلك أن جوهرها كان قائماً على ترحيل شعب وجلب شعب آخر ليحل محله.

ولعل في البحث عن الدلالات اللغوية للكلمة ما يشي بسر نجاحها في اختزال الحادثة الفلسطينية، فالنكبة، بالمعنى اللغوي، فعل من أفعال الطبيعة العاتية وغير المتوقعة، أي كل ما لا تملك الإرادة الفردية أو الجماعية إمكانية الحيلولة دون وقوعه، لذلك، كانت العرب تصف الريح العاتية بالنكباء، وليس في القراءات المختلفة لمشروع الاستيطان اليهودي، أو حرب عام 1948م، ما يدل على حتمية النتيجة النهائية، أو ما يمنحها حصانة الحادثة الطبيعية.
النضال بالكلمة المقاتلة

النكبة من منظور مثقف فلسطيني هو المتوكل طه ليست إلا «اقتلاع شعب وطرده من أرضه بالقوة، وهي أيضاً إحلال شعب مكان آخر. إن هذه الكلمات على مباشرتها وبساطتها وإمكانية فهمها، هي ببساطة أيضاً جريمة إنسانية بكامل المعاني والمفاهيم والمعايير. ولأن النكبة حدثت أو وقعت في التاريخ، أي يمكن رصدها و توثيقها، أو لأنها حدثت دون ضجيج، أو لأنها حدثت ثم تَم استيعابها من العالم، أو لأنها حدثت دون أن تتحول إلى حدث فريد في التاريخ، او لأن العالم الغربي الاستعماري نظر إلى ما حدث باعتباره جزءاً من العقيدة والسلوك الأبيض الاستعماري، فإن النكبة بهذا المعنى، تحولت بقدرة قادر إلى قضية إنسانية وفرّغت من معانيها الكارثية والأخلاقية، تحولت النكبة في عرف المستعمِرـ على أنواعه ـ إلى مشكلة جوعى وعراة.. »، و «النكبة تعني وقف التطور الطبيعي للشعب الفلسطيني ومن ثم تشويهه وتشريده، وتحويله من شعب كان يمكن أن يفعل المعجزات على أرضه، إلى شعب من المُلاحقين والجوعى والمشبوهين في منافيهم القريبة والبعيدة، تحول الشعب الفلسطيني في معظمه إلى أفراد بلا هويات وبلا روابط، تحولوا فجأةً إلى لاجئين». والنكبة أيضاً، «هي (إسرائيل) التي قامت على أرضنا، ومعها كل ذلك الإرث الاستعماري الأبيض، لا يمكن للصهيونية أن تنكر كونها إرثاً استعمارياً أبيض، الصهيونية التي تحاول الادّعاء أنها ثورة على الاستعمار والكراهية والفوبيا والتمييز وعُقَد المرض والتوهّم». والنكبة في وجهها الآخر «هي النضال، هي حركة التحرر الوطني، وهي الَقَدر الذي يتحمّله أبناء الشعب الفلسطيني في أن يقاتلوا الاحتلال وأن يطردوه وأن يعيدوا الأمور إلى نصابها. إن صراعاً وصل عامه المئة هذه الأيام يعني أن الاحتلال ليس مجرد تغيير سلطات، وإنما هو الموت الزؤام».

ولقد شرع الفلسطينيون في استخدام النكبة كمرجعية مؤقتة يؤرخون بها للأحداث، إذ يمكنهم القول إن هذا الحدث، مثلاً، وقع قبل عامين من النكبة، أو بعد عام على وقوعها. حتى التصنيفات الديموغرافية أصبحت مرتبطة بها. فالجيل الذي شهد حرب العام 1948م يسمى جيل النكبة، ومن ولودوا بعدها يُشار إليهم كجيل ما بعد النكبة.

واقتلاع الفلسطينيين بهذا المعنى ثبَّت لديهم حالة من المحلية الجديدة، ولهذا فإن النكبة تشكل، ضمن إطار الخطاب الجماعي الفلسطيني، قفزة بلاغية أكثر منها بداية أو نهاية بحد ذاتها. فالهوية التي بدت واضحة المعالم قبل عام 1948م، وكان يتم صقلها والتعبير عنها عبر المثقفين من أعيان المدن، انتهت مع انتهاء المدن، فاقتلاع ما يزيد على الأربعمائة تجمع سكاني فلسطيني أدى إلى فقدان الصبغة المحلية القديمة واستبدالها بنوع جديد من الانتماء هو الانتماء إلى اللجوء كتجربة فلسطينية خاصة ومتميزة.

ومنذ ظهور بوادر الجشع الصهيوني للاستيلاء على الأرض الفلسطينية في نهايات القرن التاسع عشر، أخذ الشعور بالخطر يقلق بال الفلسطينيين – أصحاب الأرض، الأمر الذي أدى إلى تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية وتبلور وعي وطني تلازم مع ظهور ثلة من المثقفين ـ مطلع عشرينات القرن الماضي ـ أخذوا على عاتقهم النضال بالكلمة لتعزيز روح الصمود وصيانة الهوية الوطنية من خطر الاندثار.

وقد تمكن الشعراء والأدباء والصحفيون والمثقفون والمهتمون بكل مجالات الثقافة من تثبيت هذه الهوية محلياً وعربياً وعالمياً، واستجابوا لنداء المرحلة ولمشاعر عزلتها ظروف الاحتلال الذي صار واقعاً على الأرض بفعل عوامل لا تتصل بالفلسطينيين، ومن أبرز ممثلي ذلك الجيل كان وإبراهيم طوقان وخليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي وإبراهيم الدباغ وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وحسن البحيري ومحمد حسن علاء الدين والشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود والشاعرة فدوى طوقان، الذين لم يتوانوا عن التصدي للمشروع الاستيطاني الاحلالي الصهيوني.

يقول الكرمي الذي نظم مطولته التي قالها لدى مصرع الشيخ فرحان السعدي الذي حكمت عليه سلطات الانتداب بالإعدام رغم تجاوزه السبعين من عمره. وقد أرادها أبو سلمى تأريخًا لجهاد فلسطين العربية منذ اليوم الذي استشهد فيه عز الدين القسام إلى نهاية الثورة، يقول:

انْشُر على لهب القصيد
شكْوى العبيد إلى العبيد
شَكْوى يردّدها الزمـا ن غداَ إلى الأبد الأبيدِ
***
قوموا انْظروا «فرحان» فو
ق جبينه أثر السجود
يَمْشي إلى حَبْل الشهـا
دة صائمًا مشي الأسود
سبعون عاماً في سبيـ
ـل الله والحق التليدِ
إحياء ذاكرة الشعب والوطن

إثر نكبة الـ48 شهدت الثقافة الفلسطينية ميلاد شعراء وكتاب جدد فكتب جبرا إبراهم جبرا رواياته عن المنفيين ومعاناتهم، ومع قصائد عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وهارون هاشم رشيد الباكية على فردوس مفقود، وقصص سميرة عزام الشجية عن بؤس اللاجئين ومهانتهم، تعززت الفكرة الفردوسية، عن فلسطين.

وكما يحدث في كل ظاهرة أدبية، كانت الأخيلة والأفكار التي سيدخل بها الفلسطينيون عقد السبعينات قد ولدت قبل تحولها أو الاعتراف بها كظاهرة سائدة بوقت طويل. ففي قصائد معين بسيسو في الخمسينات، القصائد التي تمنح الفقراء والعمال قيمة يستمدونها من ذاتهم، وترفع الالتزام الفردي إلى مرتبة المطهر الوجودي، وتحول النضال الوطني إلى طريق مؤكد للخلاص الجمعي، جرى توليد كل ما سيصبح سائداً في فترة لاحقة.

ويعد الروائي والقاص الشهيد غسان كنفاني، بما امتاز به من موهبة حقيقية، ونزعة تجريبية عالية، أكثر الفلسطينيين مهارة في إضفاء نوع من المهابة على أدب المخيم، وتوظيف روايات ناقصة ومتسرعة أغلب الأحيان، في محاولات أدبية ألحقت ضرراً بمقلديه، لكنها لم تتمكن من عرقلة ميله الدائم إلى التجريب. ولا يمكن اعتبار صورة حيفا في «عائد إلى حيفا» محاولة لاسترجاع المكان أو تخييله، بل مجرد خلفية لفكرة مجردة عن الانتماء.

وفي الوطن المحتل والشتات مثل: محمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وعز الدين المناصرة، ومحمد حسيب القاضي وغيرهم، ليغنوا أشعاراً لم تلهب مشاعر من اكتوى بنار الاحتلال فحسب، بل لامست شغاف الملايين من التواقين للحرية في العالم، وكان وقع هذه القصائد أشد تأثيراً حين غناها كل من مارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وسميح شقير وسواهم، فرددها الكثيرون...

وحفظها المثقفون والعامة على حد سواء.

وقد تأثرت الكتابة الأدبية الفلسطينية بهذا الوضع المأساوي، فأخذ المبدع الفلسطيني يربط بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية في عمله الإبداعي، لذا غيبت الروايات التي تناولت النكبة موضوعة الرمز، فالمعطى الواقعي لا يتقبل الرمزية في الإبداع، حيث كان المبدع مشحوناً بالصور والدلالات والتفاصيل والمآسي والمذابح، فكان لابد من إفراغ تلك الشحونات فنياً وإبداعياً، وحل محل غياب الرمز تعبير قوي ومباشر عن النكبة وتداعياتها. وبذلك استطاع الروائي الفلسطيني أن يخلق لغة ووسائل للتعبير، تحمل بصمته أو رؤيته الفردية والجماعية في آن، فهو لم يكتب الرواية من الخارج تصويراً أو تعبيراً أو تخيلاً، إنما كتب من الداخل من قلب المعاناة ومن العيش على أرض الواقع أو من خلال الاكتواء بنارها.

وقد أخذ الروائيون الفلسطينيون يعكفون على رسم خريطة أرضهم بالأحداث والرجال، وملامح الطبيعة الثابتة حتى الشجرة والتل والنبع والتربة الحمراء، ما بين أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وما حولهما، ولم تهمل الروايات بقعة واحدة أو مدينة مهما كان حجمها أو أهميتها، وذلك في محاولة منهم للوقوف في وجه الممارسات الصهيونية التي تسعى لفرض سياسة التجهيل، وقطع جذور الإنسان الفلسطيني بأرضه، والعمل على تثبيت ملامح الأرض والمكان حتى تبقى حية في الذاكرة.

ونتيجة لتغير أحوال الفلسطينيين بعد أن أصبحوا لاجئين يسكنون الخيام والمخيمات التي أقامتها لهم وكالة الغوث (الاونروا) في أماكن لجوئهم، بعد أن كانوا أصحاب بيوت وأراضي، وتميزت حياتهم بالقسوة والبؤس الذي لا مثيل لهما إطلاقا. كان من الطبيعي أن تنعكس هذه الحياة القاسية للاجئين على الكتاب الفلسطينيين وخصوصا أن أغلبهم عاش في المخيمات واكتوى ببؤس الخيام، فنجد صدى واسعا لها في الرواية، سواء بصورة مباشرة تصف حياة البؤس والشقاء وما يعانيه اللاجئون في حياتهم، أو معالجة بعض المشاكل والقضايا الاجتماعية التي ترتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية للاجئين سواء في المخيمات أو خارجها.
وبلغة الأرقام كتب الروائي الفلسطيني منذ النكبة وحتى هذا العام ما يزيد عن (630) رواية، تناول في نحو 80% منها النكبة وتداعياتها.

من جهة أخرى أفرز الشعب الفلسطيني، متأثراً بمحنته وقسوة مصيره إبداعاً شعبياً يضاهي الإبداع الأدبي الفصيح، فعن الوجع والغربة والقهر والتضحية... وعن التراب الخصب والحناء عنت المرأة في الأعراس وضربت أقدام الرجال ساحة الدبكة، فكانت الدلعونا والميجانا والعتابا التي تتبع مواويل فياضة بالأحاسيس تفجر انتفاضة داخلية وتحولها إلى رقصات شعبية تحافظ على الهوية الفلسطينية وتبعث فيها روحاً متجددة لا تنضب.

ورغم مرور ثلاثة وستين عاماً على نكبة فلسطين، لا تزال ندب الفراق والحنين تثقل الروح والذكريات، ونجد صدى ذلك واضحاً في تجليات الثقافة الفلسطينية، تلك الثقافة التي تشكلت ونمت في أجواء الاحتلال، احتلال الأرض واضطهاد إنسانية أصحابها فشحنت نفوس المضطهدين بالتصميم والتحدي وغذت في نفوسهم التوق إلى الحرية، وحافظت على الشخصية الوطنية من خلال صيانة تراثها وتقاليدها.

وإنني أتفق مع الأستاذ المتوكل طه في قوله أن «فرادة الشعب الفلسطيني تكمن في قدرته على تحويل الخيمة من خيمة لجوء إلى خيمة ثوار، وتحويل المنفى ليس إلى مكان للنجاح أو النجاة بل إلى مكان للاستعداد والاحتشاد، وتحويل المأساة إلى حكاية لم تكتمل ولم تكتب نهايتها، وتحويل الهزيمة إلى مشارف الطريق المؤدية إلى النصر، وتحول الشعب الفلسطيني شاهداً ــ بعد أن كان شهيداً ــ على استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني التوسعي و الاحتلالي والإحلالي أيضاً».

في المشهد الثقافي الفلسطيني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى