الاثنين ٣٠ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم أنمار رحمة الله

أوراق متناثرة

-1-

حين دخلت من باب المدرسة تلك المرأة الجاذبة طفلها نية تسجيله الأول، لم يتوقع مدير المدرسة أنها ستكون حبيبته القديمة، أطلق العنان لخيول نظره اللاهثة صوب نهر حسنها طويلا، وبالفعل اكتشف أنها حبيبته التي سحقت كيانه، ومزقت أوراق عمره، وها هو يعيش اللاحياة/ملتصقا بحائط العمر الذي أوقفه على عتبة المسؤوليات والحيرة الطويلة. أنها حبيبته التي تمناها زوجة منذ زمن طويل ولكن.؟ لم يمهله القدر فرصة أخيرة . دخلت عليه وهي تجر طفلا خامسا صغيرا، وفي نيتها تسجيله في مدرسة هذا المدير الذي اعتزل محاولته في الشعر منذ زمن طويل بسببها. كيف حدث ذلك.؟؟ انه السؤال الذي بدأ يسأله لنفسه وهو يطالعها تقترب/ تسلم/ تستفسر منه عن طلبها الحالي، تحكي وهو سارح فيها ناقم عليها تارة، ومشتاق تارة أخرى لضمها ضمة عنيفة . . . عنيفة تساقط أحزان عمره فيها كأوراق الخريف . سافر خياله حينها إلى هناك، إلى الماضي في تلك اللحظة، وذالك الزمان حين سأل نفسه نفس السؤال.

هل هو القدر .؟ أم حظه الذي رماه بلا سؤال في بحر الضياع؟ هل هي النظرة التي أوقعت به في شرك الحب اللزج من دون رحمة.؟ أم الصدفة المخترقة لحم عمره كرصاصة طائشة ومجنونة؟.

أنها المرة الأولى التي تحط فيها طائرة الأحلام في مطار قلبه المهجور، حينها لم يسعه العالم ولم يكتف بنثر أزهار الأماني هنا وهناك، أنها المرة الأولى التي يعشق فيها حين انفجر ينبوعا للحب في يباب عمره الأول. كغيره من الشباب المنكفئين على دراستهم التي كرهها، وتمنى التسريع فيها، تجاذبه رغبة الوصول إلى قلبها، تلك الفتاة التي مابرح يكتب اسمها في كل مكان يجالسه، اسمها ملأ أوراق كتبه /رحلته /الحائط الملتصق بسريره المترنح في غرفته الوحيدة . هي التي دفعته لمغازلة الشعر حينها، فصدع لأمر الخيالات حاملا قربة مشاعره مالئا فيها عذب الكلمات والعواطف. (الشعر) صديقه الأول حينها، أقنعه بالمخاطرة وتحرير أسراب الحمائم العاطفية في سماء الورق.

كتاباته البريئة مسحت آخر نقطة مخاض عاطفي، حينها أخذ على عاتقه جمع هذه القصائد في دفتر رتبه بأناقة، القصائد اجتمعت مرددة نشيد الحب والجمال، كان جمع القصائد شيئا صعبا عليه، لدرجة انه بدأ يخاف على ديوانه الصغير من كل شيء حوله، واضعا إياه تحت مخدته تارة وتارة أخرى، يدسه خائفا بين كتبه المدرسية متسترا على سره الثمين. وفتاته البعيدة لا تعلم شيئا عنه، يغني/يبكي/يكتب/يردد اسمها ليلا /يهلوس/وهي جالسة كحورية على باب جنتها الصعبة المنال. برغم فقرها وحاجتها للمادة، بقيت تلك الفتاة صلبة وعنيدة. والدها الذي غادر وشيكا هذه الدنيا، تاركا أما وطفلة، فتح الباب بعد رحيله للعوز والضياع، والحاجة الملحة دفعت الأم وطفلتها إلى العيش على بيع حب عباد الشمس الأسود. حيث يجتمع أولاد وبنات المنطقة يشترون أكياس الحب، فرحين بهذه البذرات المطبوخة على الزيت، والملفوفة بأكياس ورقية بشكل مخروطي.

الشاعر الشاب يدخل الشارع الموصل لبيتها، يتلصص يمينا وشمالا، خوف أن يراه احدهم، يطالع بشغف طفولي بابها المتهرئ، باكيا من أعماقه على حبيبته التي تختفي خلف ذالك الباب . لم يستطع احتمال الموقف كثيرا، فقرر الذهاب، لولا وصول قافلة من الأطفال إلى باب حبيبته، لشراء بعض أكياس حب عباد الشمس، توقفه برهة، فيستجمع في داخله آخر نقطة من شجاعته، ليرى فتاته علها ترد على طلبات المشترين. تخرج في تلك اللحظة حوريته الساحرة، فاسحة المجال لتنويعة موسيقية يخالطها صوتا ملائكيا رقيق. تخرج عليهم وهي ماسكة بيدها أكياسا من الحب، تفرقها على الأطفال المتنافسين فرحا في الوصول إلى أول كيس، وحبيبها المختفي خلف ستار خجله، غارق إلى رأسه في لوحة رسمتها يد الرب بلا فرشاة.

أنها حبيبتي (يتمتم بينه وبين نفسه ملهوفا عليها /على وجهها/تقبيل يديها/حضنها إلى الأبد . أنها حبيبتي ولكن كيف أصل لها. .؟)سؤال يجول في فضاء مخيلته المشلولة على النصف، ولم يبق إلا المصارحة /الاعتراف.

في اليوم الثاني اقبل مسرعا حاملا ديوانه الصغير، متعطرا بأحاسيسه /مشاعره/لوحاته التي رافقه الليل في رسم اغلبها/ عاد في اليوم الثاني ليعلن أنها ملكه، ولن يفرط في شيء يملكه . اقتحم الشاعر الجريح شارع حبيبته المختفية خلف جدار شائخ، وراح يسير على مهل منتظرا فرصة للفتها لمشاعره وجنونه. إلى أن أتت اللحظة الحاسمة وأقبل صبي يحمل نقوده باتجاه الباب. دق الصبي الباب، فأشرقت فتاته في سماء الموقف كالشمس، فتاته المعنية بالمشاعر والأحاسيس في قلب شاعرها النازف على صليب عشقها، لما انتهى الصبي وأرادت إغلاق بابها، تفاجأت بشبح يقف على بابها، حاملا كتابا صغير، سألها الشاعر على مهل (هل تبيعين حب عباد الشمس. ؟) أجابته ببرود : نعم. !) فاشترى منها كيسا وناولها بهدوء ديوانه الثمين كحياته، متمتما:هذا لك . . مني لك اقبليه وسأمر في ما بعد)ناولها الكتاب واختفى من دون أن يلتفت، تاركا الفتاة على بابها حائرة ترنو إلى الكتاب، وهي تستنشق أوراقه التي فاح منه عطر طيب.

-2 –

حين دخل الشاعر شارع حبيبته، كان واثقا أنها ستكون في انتظاره، وخصوصا انه كتب لها رسالة دسها في وسط ديوانه يحكي لها عنه وعن مشاعره اتجاهها، ومن ضمن ما جاء في رسالته وقت مجيئه الثاني، كي تستقبله، فتخيلها وهي تمشط شعرها /ترتب وجهها/تنثر عطرها على كوردة حمراء . لم يضع في باله فكرة رفضها له، ولم يقتنع أبدا أنها سوف تتجاهله، لسبب زرعه في ارض تصميمه، ألا وهو (من المستحيل أن تقرأ فتات كلماتي البريئة الصادقة ولا تعشقني وتعشقها).

صادف في طريقه طفلا يبكي على حب عباد الشمس المنثور على الأرض، فعاجله الشاعر الشاب كي يساعده على جمعه، فأوقفه شعور غريب ؛غريب جدا حين لفت انتباهه الكيس، أوقف الشاعر الطفل، وأخذ الكيس منه بالقوة، ظلّ الطفل الصغير في حيرة حابسا جيش دموعه خوفا وفزعا. والشاعر منهمك في التحديق بتلك الورقة الملفوفة بشكل تعيس، أنها ورقة تحتضر يائسة، خطت عليها إحدى مقاطع قصيدة له ، لا اصدق . . لا اصدق)ردد كالملدوغ وهو يسير متجها ناحية الباب، أقبلت فتاتان صغيرتان وصبي أخر، يحملون كلهم أكياسا مشابهة، فتشهم جميعا، فوجد قصائده الثمينة قد تبعثرت هنا وهناك بين أيادي الأطفال، ومنها نامت باكية في أحضان المزابل . انه ديوانه /شعره /أحاسيسه/لياليه /هديته الكبرى التي أهداها لفتاته /محبوبته/حلمه الأوحد. فرطت به وتركت شاعرا يطحن مأساته باكيا ويائسا من الوجود اجمع.

هرول الشاعر مفزوعا من دون أن يدير وجهه للباب ولها، فمن المؤكد أنها أهملت حتى رسالته، أو أنها تمزقت في إحدى المجاري الآسنة . هل كان حلما أم كابوسا مخيفا هذا الذي رماه به دهره التعيس، ديوان شعره اغلي ما يملك أهداه لملاكه التي تجاهلته، واستخدمته في لف الحب اللعين، هل أنا رخيص لهذه الدرجة)سؤاله الذي حيره وجعله يبات سهرانا ليلتها إلى الصباح، لم يذق إلا طعم الخيبة، ولم يشرب إلا شراب البؤس والأحزان.

-3 –

أنتبه لنفسه مدير المدرسة في فزع، حين دق صوتها في أذنه كناقوس مخيف( أستاذ . . أستاذ )، وانتبه لطفلها الواضع إبهامه لا شعوريا في فمه، نظر إليها طويلا /حزينا/غاضبا/مكسورا/وهي مستغربة الموقف والنظرات الطويلة، حين داهمت قلبه (المدير)رغبة البكاء والعتاب، رغبة الشكوى في أحضانها، ولكنه الواقع المرير، الذي فرض عليه أن يكون هنا على مقعده الرسمي، وهي على أريكة المدرسة المتواضعة، كأي مراجعة عادية. ناولها استمارة للتسجيل، وطلب منها أن تقرأ الاستمارة وتمليها الآن أو فيما بعد. فضحكت، وهزت رأسها رافضة.

تسمر المدير في مكانه، ناظرا إليها في غضب، ها هي حبيبته تضحك مرة أخرى، عاجلها بحزم قائلا: مابك ِ) فردت عليه خجلى: لا استطيع. !) لا تستطيعين . ؟لماذا. ؟)فأجابته مبتسمة : لأني يا أستاذ لا اعرف القراءة والكتابة منذ صغري.

وقف المدير ببطء محدقا في عينيها، عيناه الغائرتان نثتا على مهل رذاذ دمع حار / خدر اكتسح مساحة عقله الغائم / الأحداث الماضية تلاطمت في جوفه المحترق كبحر هائج / ألحّتْ على روحه رغبة مغادرة الغرفة، وغادرها فعلا حيث اتجه صوب باب المدرسة تاركا خلفه هدير أصوات الطلاب في الصفوف كأنه شلال مجنون، واختفى متجها إلى مكان لم يحدد هويته. تعصف في سماء خياله جملتها الأخيرة كالرعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى