الأربعاء ٨ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

مَريمةُ المحمّدية

لا يسكنُ مُصطفى في شقّةٍ في حائط؛ في إحدى البنايات الآيلة للسقوط بشارع (سُوْسْ) بمدينة المُحمّدية؛ بل يحتضرُ فيه.
وعلى الرغم من أنّه سائرٌ إلى الموتِ بخُطى وئيدة، في جُحره الوجودي؛ إلاّ أنّه كان سعيدا.

ـ وماذا ينقصني لكي لا أكون سعيدا وأحمدَ الله؟... فهذا سريرٌ أفضَل ألف مرّة من أسِرّة السجن، وهذه أشيائي الصغيرة التي تنفي عنّي وحشة الجوع والاعتكاف: مقلاة أطهو فيها ما تُحِبُّه نفسي، وقنينة غاز تكفيني لشهر، وتلفاز صغيرٌ ملوّن... وأكثر من ذلك، فإنّني أملِكُ صديقة تزورني كلّما سمحت لها ظروف العمل وعائلتُها بالقليل من الحُريّة.

لسنة طويلة، كنتُ جارَه. والمَقامُ هنا لا يسمح لي بالتحدّث عن نفسي. فأنا مجرَّدُ راوٍ مُجرَّد، وكلّ ما عشته في حياتي عاديٌّ ورتيب.

غير أنّ مصطفى استدعاني ذات عشية إلى (شقّتِه) لكي نتناول الشايّ ويحكي لي قصّته:

ـ ما ينقصني هو شخصٌ مثلُك ليكتبَ قصّة حياتي... وإيّاك والمظاهر الخادعة! فأنا لستُ فقيرا كما قد يتبادر إلى ذهنك؛ أنا ابنُ عائلة غنيّة، ولي أخٌ ثريّ جدّا، ولطالما عرض عليَّ أن أسكن في إحدى العمارات الراقية التي في مِلكه، وأن يوفّر لي المال واللباس والأكل الفاخر وخادمة... إلاّ أنّني كنتُ أرفض؛ فمن عاش تجربتي لا يمكنُ له أن يسأل العيشة المترفة. بل على العكس من ذلك؛ مثلي لا بُدَّ له أن يعيش (العِقاب) في الدنيا لكي لا يعيشه في الآخرة.

في كلِّ صباح، وفي نفس الساعة التاسعة صباحا (أو العاشرة حسب التوقيت الصيفي)، كنتُ أراهُ يسُدُّ باب (شقّتِه) وفي يده قفّة مصنوعة من القصب، ويعود بعد ساعة، وفيها كلّ ما يحتاج ليومه.

ـ في هذه الليلة ستأتي مريمة صديقتي وسأجعلُك تتعرّف عليها.

كنتُ لأستمِعَ إلى قصّة حياته بصبر لولا أنّه كان يدخّن الحشيش. وأنا لا أطيق دخان هذه النبتة المجنونة.

ـ ما تراني فيه من بؤس ظاهري ليس حياتي الأصلية، فلقد كنتُ مُحاسِباً ماليا في شركة تكرير البترول التي تَعْرِف، وكنتُ متزوِّجا بامرأة جميلة جدّا لكنّها منحدرة من وسط فقير، ولهذا السبب، كانت مُصابة بمرض حبِّ المال والظهور.
لم أتأخّر أبداً على تحقيق مطالبها، وكنتُ ـ عندما أستنفد أجرتي الكبيرة ـ ألجأ إلى أخي الصغير، ومع ذلك لم تكن راضية...
فبدأتُ أمُدُّ يدي إلى أموال الشركة إلى أن اكتُشِف أمري وأخذوني إلى السجن... ولولا معارف أخي، لبقيتُ في السجن خمساً وعشرين سنة.

في غرفتي التي لا تختلف عن (شقّة) مصطفى سوى ببعض الطول والعرض ...في تلك الليلة من سنة 2002 (سنة الطوفان)؛ تحتّمَ عليَّ أن أنقذ شخصاً من خطر الغرق في ظُلمة الكآبة؛ فأغمضتُ عينيَّ وقطعتُ أنفاسي وغُصْتُ في مقامات الموسيقار مُنير البشير الناطقة باسم آلة العود (رضيَ الله عنهما).
كنتُ ليلتَها ذلك الشخص المهدّد بخطر الغرق في الجنون، وكنتُ في نفس الوقت ذلك المُسعِف.
والسماءٌ مَطَرٌ، والأرْضُ وَحَلٌ، والناسُ صُياح...

تقلُّبات قوى الطبيعة لا تعنيني. ما أهتمُّ مِنه هو تقلُّبات النفس البشرية. أمّا ظُلمُ الطبيعة فهو أرحم من ظُلْم الإنسان لأخيه. وأنا أكره الظُلمَ والظلام؛ ولهذا أشعلتُ إحدى عشر شمعة وغُصتُ في أضواء الموسيقى.

في تمام العاشرة، فتحتُ باب غرفتي لجاري مصطفى. وكانت بين يديه مريمة مبلولة وملفوفة في ملاءة.
تجلّتْ لي مريمة في ضوء الشموع والموسيقى مثل أيقونة منتزعة من جدار كنيسة قوطِية؛ إذ كانت صامتة وبريئة.

ـ قبِّلي يدَ الأستاذ! أمَرَ مُصطفى.
ـ حاشا أن تفعلي يا ابنتي. قلتُ.
ومع ذلك، انتزعت يدي منّي وقبّلتها.

كانت ترتجفُ من البلل والبرودة، ولم تكن قد جاوزت الثامنة عشر، وكان مُصطفى يرتجف من عشقِه لها.

عينا مُصطفى حمراوان وذابلتان، وعلى وجهِه آثار خمسين سنة من الوجود المضطرب.ومَرْيمة تشبِه كثيراً فتاةً سأعشقها فيما بعد. (لكنّ المقامَ القصصي لا يسمح لي بحَكْي ما جرى لي في المُستقبل؛ المقامُ لِمريمة المحمّدية).

ـ أقولها لكَ بصراحة لأنّك تكتبُ القصص؛ مريمة هذه ليست جميلة في نظري، وعائلتُها غارقة في البؤس، ومع ذلك فأنا أموتُ فيها.

وأمّا أنا، فلقد رأيتُها في جمالِ وبَهاءِ فأرة صغيرة منفوشة الوبر وهاربة في هذه اللحظة من عيون الكِلاب الضارية ومخالب القطط المتشرِّدة. وأمّا لونُها المعزيُّ فلم يزدني إلاّ شَغفاً بها.
ليلتَها تعشَّيْنا على سمك، وشربنا شاياً، وتحدّثنا في أمر (الطوفان).

وعندما ذهب مصطفي إلى جُحره ليحظر قطعة حشيش، قالت مريمة: أفنيتُ سنتين من عُمري معه ولا يريد أن يتزوّجني. وأضافت: هل أنتَ متزوِّج؟... تزوّجني يا مُصطفى وأنقذني مِمّا أنا فيه... أرجوك.

لم يذهب مصطفى إلى جحره ليُحظر قطعة حشيش، بل كان خلف الباب يتصنّت. فدخل علينا مثل مجنون وصفع الصبيّة صفعة امتزج دويُّها بدوّي الرعد:
ـ إيّاك أن تثق بهذه الشيطانة يا أستاذ، هذه مُجرّد قحْـ ... صغيرة في سنِّها، لكن كبيرة في جرائمها، وهي مصابة بداء السيدا...
ثم جرّها من شعرها إلى (شقّتِه).

ـ وهل تُعاشرها وهي على هذا النحو؟ قلت. فردَّ بمرارة:
ـ يقول المثل المغربي (لَهْلا يْطيِّح حبُّك على حجرة).
هذا المثل يذكّرني بشخصية أسطورية وقع حبُّه على حجر كبير، فصار يحمله على ظهره أينما حلّ وارتحل على الرغم من العذاب والجراح.

أنا الآخر، وقعتُ في (المُستقبل) في حبِّ عنزة، لكنّ المقام السردي لا يسمح لي بحشرها في هذه الحكاية.

في صباح اليوم التالي، أشرقتْ شمسُ، وانحسرَ طوفان، وجفَّ طينٌ، وسُمِع صراخٌ وضربٌ في جحر مصطفى.

ـ هذه المصيبة تتناول حبوب الهلوسة لكي تقتدِر على مُضاجعة أيّا كان، وعندما تجيءُ عندي تتبوّل على الفراش.

ساعتئذ قلتُ له بنبرة قاسية: إذا أردْتَ لصداقتنا أن تستمرَّ، توقّف عن ضرب هذه الفتاة واحترم مأساتَها، أو حرّرها منك.
فبكى وقال: لا أستطيع؛ فهذه الإنسانة الضعيفة مُتجذِّرة في قلبي، وهي عقوبتي وعذابي وسعادتي ...

ثم أحضر طشتاً وشرع يغسل مَلابسَها وهي في مِئْزَرٍ مُتّسخٍ ترتجف من البرد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى