الجمعة ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

البحث عن مثلّث القُطرُب

في العشرين من شهر أغسطس سنة 1969، شاركتُ في إحدى الحروب التي يعلنُها (فقهاء) الدين على العِلم الوضعي فيخرجون منها منهزمين.

كنتُ طفلا في الثانية عشر، وبالرغم من حداثة سِنّي، حملتُ سلاحَ المعرفة العلمية، وصوّبتُه ضدَّ سيدي محمد المَصْلوحي الذي كان يُحفِّظـُنا القرآن ويُحدِّثُنا عن (علوم) العبادات:
 نعم يا سيِّدي، لقد وصل الأمريكان إلى القمر ووضعوا عليه أرجُلَهم، ودقّوا فيه عَلَمهم وصارواْ بذلك أسياد العَلْم.
 هذا كذب، افتراء، هرطقة، شِرْك بالله تبارك وتعالى. قال الفقيه. ولم يعرف أنّه بتزمُّتِه وبمحدودية تفكيره سقط في شَرَكِ التخلّف.
 لا يا أستاذ؛ لقد شاهدنا ذلك في التلفزيون... لقد رأينا (نيل آرمسترونغ) ينزل من المركبة الفضائية ويضع قدميه على القمر...
 هذا لا يُمكن، إنّها مُجرّد خدعة... سينما... والآن عودوا لألواحكم واحفظوا سُورَكُم.

وكعادتي في طرح الأسئلة الصعبة على أساتذتي قلتُ له:
 سيِّدي؛ هل سمعتَ بمثلث بيرمودا؟
 عن أيّ مثلث تتكلّم أيُّها الولد الأحمق؟ هل هو المثلث الهندسي أم ماذا؟ أعرف أنّك تقرأ تلك الكُتب الكافرة.
 كتُبٌ كافرة؟ كيف ذلك يا مُعلِّم؟
 الكُتُبُ الكافرة هي تلك التي إذا قرأناها، يتملّكُنا الشيطانُ، ونفقد احترامَنا لفقهاء الدين.
 أنا أحترمُك يا مُعلّم، ولكنّني قرأتُ في مجلّة اشتريتُها من (جامع الفنا)، أنَّ في عرض المحيط الأطلسي مجالا بحريا بين جُزر بيرمودا وفلوريدا وبورتو ريكو، تختفي فيه السفن والطائرات تحت تأثير مغناطيس ضخم في قعر المحيط، أو بسبب تدخُّل أُناس فضائيين، أو بسبب تقلص شيءٍ يُسمّى الزمكان.
 (الله يُزَمْكـِنْ امَّكْ وَبّاكْ وَطاسيلتك) قال الفقيه بغضب؛ ثم أمرني بكتابة ثلاثة ألف من (ويلٌ للمشركين)، وإلاّ سيعتقلني في بيته إلى يوم الغد.

عند بُلوغي (ويلاً للمُشركين) رقم 1972 سألتُه:
 هل تعلمُ يا أستاذ أنَّ هناك مثلّثا آخر يُدعى ( المثلث الذهبي)؟
فشدَّ على رأسه وقال:
 طيّب! أخبرني عنهُ أيُّها الولدُ العبقريّ.
 إنّه مثلث جغرافي بآسيا وهو يتكوّن من بلد اللاووس وبيرمانيا و التايلاند...
 ولماذا سمَّوهُ بالمثلث الذهبي؟ قل لي أيُّها الطفل المتبحّر في علم المُثلثات.
 لأنَّ أغلب سُكان هذه البلدان يجْنون الذهب من زراعة الأفيون...

آنذاك أخرج المُعلِّم سوطَه وشرع يضربني ويقول:
 اخرجْ عنّي أيُّها العفِن، ولا تعُد أبدا..
فقلتُ له وأنا أرتدي حذائي على عتبة (الكُتّاب):
 هناك مثلّثٌ آخر يُسمّى بالمثلث المَجَرِّي، وهو يتكوّن من (درب التبانة) وبعض الثقب السوداء، و...
لحظتئذٍ، خرج المعلّمُ عن عقله، وراح يرجمُني بكلِّ ما تصادفه يداه ويصرخ:
 (الله يثقب لمَّكْ الضْلوع)! اغربْ عن وجهي! وإذا عُدتَ إلى دروسي سوف أفتي بقتلِك... هيهْ!

كانتْ هذه عادةُ أبي؛ أن يزُجَّ بنا صيفَ كلِّ سنة في التعليم القرآني على أيادي (فقهاء) ضنّاً منه أنّنا سنتعلّم أشياءً تنفعُنا وتجعلُ منّا أشخاصاً صالِحين.

بعد ثلاث سنوات، كان من نصيبِنا أستاذٌ عظيمٌ في مادّة اللغة العربية بثانوية ابن عبّاد بمراكش. اسمُه سيدي محمد المَسْفيوي، يرتدي ثلاثة جلابيب (مغربية) طوال السنة، ونظّارات طبّية شبيهة بقعور كؤوس (حياتي) والتي يُحِبُّ المغاربةُ البُسطاء شُرب الشاي فيها...

كنتُ على حافة جرف مُطِلٍّ على المُحيط أتأمّلُ عظمة البحر، وأتساءل عن خباياه اللُّجِّية... أجل! أُصِبتُ بداء الفلسفة وأنا صغير... وأنا لا أذكُر من نقل إليَّ (فيروس الفلسفة)... ولستُ أدري هل الفلسفةُ نعمة أم نِقمة (؟)... رُبّما أصابتني الفلسفة في إحدى (الحلْقات) بجامع الفنا سنة 1968 بالضبط، عندما كنتُ أجلِسُ لساعاتٍ طِوال أستمعُ إلى شخصٍ يُسمّونه ب (الأحمق) لأنّه كان يقف على رِجْلٍ واحدة، ويرسم العديد من المثلثات على أرضية الساحة، ويكتبُ العديد من المعادلات الرياضية، وعندما تتقدّم إليه امرأة لكي يكشف لها (الطالع) أو رجل؛ كان يسبُّها ويقول لها: هل قالوا لك أنّني الله؟

وكان ـ في نهاية عرضه ـ يجمعُ القطعَ النقدية التي يُلقيها له المتفرِّجون، ويُعطيها لأحدهم.

أذكر أنّ (الأحمق) كان قد تحدّتَ لنا عن مثلث بيرمودا، وعن إصرار الأمريكان على بلوغ القمر، وعن سباق الغزو الفضائي بينهم والروسيين... ولم يكن يتحدّث ـ أبداً ـ عن القرآن.

وذات (حلْقة) أعطاني جميع القِطع النقدية التي ألقى بها المتفرّجون، وقال لي: أنتَ طفلٌ واعد... اشتر بهذه كُتُباً.

كنتُ على حافّة الجرف، فإذا بيدٍ تدفعني لأسقُطَ في مُحيط اللغة العربية.

هذا هو إحساسي عندما قال لنا أستاذُنا المسّيوي: الجَدُّ والدُ الأبِ، والجِدُّ ضِدُّ العِبِ، والجُدُّ عند العربِ، البئرُ ذاتُ الخرابِ.
وأضاف: السَّلامُ لفضُ المُبتدي، والسِّلامُ كصخر جلمدِ، والسُّلامُ عِرقٌ في اليد...

كان درساً رائعاً في اللغة. وبما أنّني مُبتلى بالمثلثات، انتظرتُ الأستاذ خارج المؤسسة التعليمية لكي أسأله:
ـ أين أجدُ المثلّثات التي تحدّثتَ لنا عنها يا أستاذ؟
فداسَ على دوّاسة درّاجته النارية وقال لي وهو يبتعد: ابحث عن مثلّث القُطرُب.

في التسعينيات من القرن الماضي، حاولتْ عصابةٌ من عبدة المال الاستيلاء على ساحة جامع الفنا لأجل تحويلها إلى عقارات وقتل روحها التاريخية. ولولا ثلة من المثقفين المراكشيين ومساندة الأديب الإسباني خْوان غويتوسولو الذي رفض جائزة الديكتاتور مْعَمَّرْ القَدّافي، لماتَ كَلامُنا وزادتْ كِلامُنا وصارتْ مدينتُنا كُلاماً حارقة.

في اليوم الموالي، أخبرتنا الإدارة بأن أستاذنا سيدي مْحَمَّدْ المسّيوي مات في حادثة سير.

اليُتمُ هو ما شعرتُ به. ومن تمَّ بدأتْ رحلتي في البحث عن (مثلث القـُطْرُب). فلم يسعفني لا أستاذُ علوم التاريخ والجغرافيا، ولا مدرّسُ الرياضيات، ولا الفيزياء والكيمياء... غير أنّ أحد الطلبة بثانوية بن يوسف العتيقة أخبرني بأنَّه كِتاب؛ فقلتُ لوالدي: لقد أمرنا أستاذُ اللغة العربية بإحضار كِتاب يُسمّى (مثلث القطرب). فأردفني درّاجته النارية، ورحنا نسأل جميع المكتبات بمراكش؛ وكان جواب الكُتبيين هو هو (ليس لهذا الكتاب وجود). ولم يكتفِ والدي بمراكش، إذ أرسل إلى أخيه في الدار البيضاء؛ وكان منه نفس الجواب؛ وإلى صديق له في الرباط، فكان منه نفسُ الجواب.

وبعد ثلاث سنوات، وأنا في (دار الطالب) (التي لم تعُد للأسف)، صادفتُ في قاموس تعريفَ (القطرب):
ـ القطرب: لصٌّ خبيث، وقرد ذو ذيل طويل وقِوام رشيق، ودُويبة تُضيء ليلا، و كلبٌ صغير، ومرض من أمراض الدِّماغ، ونباتٌ شائك، ذئبٌ أملط.

وبعد ثلاث سنوات أُخر، وأنا طالبٌ في كلّية العلوم بالرباط؛ رافقتُ صديقةً اسمُها (أ.ع) إلى درس (كتابة الهمزة) بكلّية الآداب. وفي نهايته سألتُ الأستاذ عن (مثلّث القطرب) فقال: سمعتُ ب (القطرب) لكنّني لم أصادف الكتاب؛ وهو أبو علي محمد بن المستنير الميرزا النحوي الملقّب بالقطرب لأنّه لا يظهر للناس إلاّ ليلا، وقد أخذ العلم عن سيبويْه وعن جماعة من العلماء البصريين في اللغة المثلثة.

وبعد ثلاثين سنة من هذه المغامرة الناقصة، قرّرتُ أن أألّف هذا الكتاب المفقود، وشرعتُ في تأليفه فعلا: الرَّشا غزالٌ، والرِّشا حِبالٌ، والرُّشا حاكمٌ دجّالٌ...

إلى أنْ انخرطتُ في الإنترنيت ونقرتُ على مُحرّك البحث (غوغل)، فخرج لي (مثلث القطرب) قصيدةً لغوية مُثلثية آيةً في الجمال. فمزّقتُ ما كتبتُ... وأنا أشعر بنفسي كقشّة على ساحل محيط اللغة العربية...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى