السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

في «قلة أدب» القذافي والنفاق الثقافي

قرأت منذ أيام قليلة مقالاً للزميل الصحفي كمال قبيسي، يتحدث فيه عن سرقة العقيد معمر القذافي لأبيات من قصيدة لشاعرنا الفلسطيني الكبير هارون هاشم الرشيد، وينسبها لنفسه. ومما جاء في مقال القبيسي: كما استنسخ العقيد معمر القذافي عبارات وأفكاراً بالعشرات، كتبها وأنتجها سواه فضمها إلى «الكتاب الأخضر»، موحياً بأنها من نتاج أفكاره؛ كذلك قام القذافي ليل الثلاثاء (22/3/2011) باستسراق أبيات من قصيدة نظمها شاعر فلسطيني، فبدت بوضوح وكأنه ناظمها حين أنهى بها الكلمة التي ألقاها بجمهور من «مؤيديه» عند باب العزيزية، وبثها التلفزيون الليبي. الكلمة كانت قصيرة للقذافي، وأنهاها بعبارات مختصرة بدت كما في الإعلانات المبوبة: «أيها الشعب الليبي العظيم، إنك تعيش الآن ساعات مجيدة. هذه هي العزة، هذه هي الساعات المجيدة التي نحياها نحن الآن، كل الشعوب معنا. نحن نقود الثورة العالمية ضد الإمبريالية، ضد الطغيان. وأنا أقول لكم أنا لا أخاف من العواصف وهي تجتاح المدى. ولا من الطيايير (الطائرات) التي ترمي دماراً أسوداً. أنا صامد بيتي هنا في خيمتي في المنتدى. أنا صاحب الحق اليقين وصانع منه الفدى.. أنا هنا أنا هنا أنا هنا».

ولو لم ترد عبارة «وأنا أقول» في كلمته لكان يمكن تفسير اعتماده على تلك الأبيات بأنه نوع من الاستخدام المسموح لأفكار شعرية شائعة، أما وقد لفظها فإن من سمعها قد يكون ظن بأنها من تأليفه ونتاج أفكاره، وهي في الحقيقة أبيات من قصيدة «صرخة شاعر» للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، المولود في 1927 بغزة، والقصيدة جميلة بلحنها الثوري الخاص، يقول مطلعها:

«أنا لن أعيش مشرداً أنا لن أظل مقيداً ... أنا لي غد وغداً سأزحف ثائراً متمرداً
أنا لن أخاف من العواصف وهي تجتاح المدى ... ومن الأعاصير التي ترمي دماراً أسوداً
ومن القنابل والمدافع والخناجر والمدى ... أنا صاحب الحق الكبير وصانع منه الفدى
أنا نازح داري هناك وكرمتي والمنتدى ... صرخات شعبي لن تضيع ولن تموت مع الصدى».

سرقة القذافي التي كشف عنها القبيسي ثابتة، ولا تحتاج إلى أدلة إضافية للوقوف على مدى صفاقة العقيد وقلة أدبه، أوليست السرقة قلة أدب؟ ثم ألا يُعدَّ اغتصاب أبيات من قصيدة لشاعر مناضل من وزن الرشيد، ووضعها في غير مكانها، قلة أدب بل ووقاحة قل نظيرها؟
«قلة أدب» القذافي هذه، وما سبقها من «قلة أدب» ساهم الكثير من الأدباء والنقاد العرب، وبعضهم من الأسماء المعروفة، في الترويج لها عبر حملة تضليل مكشوفة، وطويلة الأمد، وذلك بطرح القذافي أديباً مرموقاً، عبر الاحتفاء بمجموعته القصصية اليتيمة ذات العنوان الطويل، الغريب العجيب «القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء» التي أصدرها عام 1993.

هذه المجموعة التي احتفت بها «اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام» في مدينة سرت الليبية في تشرين الأول (أُكتوبر) 2009، بحضور وفود من اتحادات الكتاب العربية، بعد انتهاءِ مؤتمرٍ للاتحاد، والتي توجت بإصدار كتاب من ثلاثة مجلدّات ضخمة بعنوان: «دراسات وأبحاث في أدب معمر القذافي»، ضمت زهاء مئة بحث أو دراسة كتبها مئة باحث وكاتب من العالم العربي، كانت قد ألقيت في ثمانية مؤتمرات وندوات عقدت حول «أدب القذافي» في ليبيا ومصر، وقد وطبعت المجلدّات الثلاثة طبعات عدّة.

من هذه المجلدّات نقتطف بعضاً من شهادات لأدباء وكتاب عرب، شاركوا بالخديعة، منهم د. سمير سرحان الذي وصف القذافي بأنه (كاتب كبير)، وشبهّه السيناريست سمير الجمل بالكاتب (مارك توين)! واليكم بعضاً من هذه الشهادات:

«حملت قصص القذافي استشرافات عميقة ذات دلالات واضحة وبيّنة... ».

عز الدين ميهوبي – الجزائر

«نصـوص القذافي عارية، خالية من التزويق والتنميق لأنها تريد أن تصل الى القارئ مباشرة وبلا وسيط».

إدريس الخوري – المغرب

«ليس ثمة غضاضة من الاعتراف بأنني لم أكن متحمساً لمطالعة مجموعة "القرية القرية" على الرغم من فرط تقديري لصاحبها معمّر القذافي وسرعان ما حسمت بالقول بأن ثائراً ومناضلاً وقائداً كبيراً مثله هو من تُراد له هذه الأعمال».

فؤاد قنديل ـ مصر

«ينتمي كتاب القذافي الى فن القصة، سرداً يعتمل في خطابه من خلال تحفيز جمالي أو تأليفي يختزن الخبرة البشرية في قصة فنية».

عبدالله أبو هيف – سورية

«.. الكاتب ليس كاتباً عادياً، وبالوقت عينه ليس كاتبا محترفا، انه مبدع لنص نقف الآن داخله وعلى هوامشه، نـقراءه، ونستنطقه، نجادله،.... هو مبدع النص الذي نحن بصدد نقده ومناقشته، وبالوقت عينه، انه القائد السياسي والأيديولوجي... إن سيرة الكاتب، وهي سيرة قائد ثورة، وهي بالوقت عينه سيرة مفكر أنتج نظرية ما زال العالم ينشغل بها ،إنما هي سيرة مليئة بالأحداث والمفاجئات، إنها سيرة معاناة».

وجيه عمر مطر ـ فلسطين

«كانت دهشتي كبيرة وأنا أطالع مجموعة الأديب معمر القذافي القصصية، من عمق الطرح الفكري وتصوير المعاناة الخاصة والعامة، وطول باع الكاتب في ميدان الكتابة والمعالجة السياسية والأدبية».

ياسين الأيوبي - لبنان

«في قصص القذافي التحام بالنبض اليومي للناس».

عبدالرحمن مجيد الربيعي - العراق

إن كل ما سبق ليس إلا النذر القليل من آراء ثلة من الكتاب والأدباء والنقاد من الذين باعوا ضمائرهم وذائقتهم الأدبية بحفنة دولارات، وساهموا في تعظيم «الأنا» لدى القذافي، باعتباره «أَديباً وكاتباً عالمياً مبدعاً»، والحارس الأمين للثقافة العربية باعتبارِها «الجمرةَ الوحيدةَ المتوهجةَ في الأُمة العربية»، حسب تعبير القذافي نفسه.

ولكن ما هو رأي الأدباء والكتاب العرب الذين لم تغرهم دولارات العقيد وهداياه الباهظة الثمن، والتي كانت تشترى من دماء وأموال أبناء الشعب الليبي المنهوبة؟. الجواب يأتي على لسان القاص والروائي الأردني يحيى القيسي الذي كتب عن المجموعة القصصية المذكورة أعلاه، يقول القيسي: «قد يقول قائل إن أحداً من الأدباء الليبيين كتبها له، ولكني أشك بالأمر لسببين أولهما ركاكة أسلوبها، وفقر أفكارها، وضعف لغتها، وثانيهما أن طبيعته الديكتاتورية تأبى أن يشاركه أحد بها، ولكني أميل إلى أنه كاتبها مع تحريرها من قبل كاتب آخر، لأنها تشبه مقالات بائسة أو خطب نارية مشتتة، وعلى أية حال فإن قراءة لها مجدداً في هذه الأيام تظهر الكثير من جوانب شخصية هذا الطاغية وتناقضاته وخوفه من الجماهير، وطبيعة توجهاته التي قادت به إلى الإغلاق على شعبه على مدار أربعة عقود ومنعهم من تعلم اللغات وكرة القدم وكل تجليات الحرية بمعناها الإنساني البسيط، وصولاً إلى قمعهم بمذابح مبيته هذه الأيام، إضافة إلى الفقر والمعاناة في بلد نفطي بامتياز، وغني بطريقة تجعل من ليبيا سويسرا العرب لو قيض لها القائد السوي ذي النظرة الحضارية والأفق الإنساني..! ».

جدير بالذكر أنه في الوقت الذي كان فيه الكتاب العرب يتسابقون لخيمة القذافي ومضافاته، رفض الكاتب الإسباني «خوان غويتسولو» جائزة القذافي، التي قبل بها المثقف المصري البارز ووزير الثقافة السابق جابر عصفور، وقد بين «غويتسولو» أَنَّ موقفه يعودُ «لأَسبابٍ سياسيةٍ وأَخلاقية، وينسجمُ مع عدمِ تردُّدِه في انتقادِه الأَنظمة السلطوية، ويتماهى مع مناهضتِه الأَنظمة الاستبدادية».

قريباً سيرحل القذافي، طريداً شريداً، وستبقى دراسات «المديح والثناء والإطراء»، التي كتبها الأدباء والنقاد العرب، عن أدب العقيد القذافي، طمعاً بحفنة دولارات حصلوا عليها من «مثلهم الأعلى» في قلة الأدب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى