الثلاثاء ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم وديع العبيدي

المنظور الاجتماعي في مجموعة قصص «امرأة سيئة السمعة» لصبيحة شـبّـر

قراءة فى «امرأة سيئة السمعة» صبيحة شبّر- مجموعة قصص قصيرة/ وكالة الصحافة العربية- القاهرة- 2005

تعتمد الكاتبة أسلوب المراوغة المبطنة لاستدراج القارئ عبر منظورها السردي دون أن تسلمه للحظة الأخيرة مفاتيح النص، مثل هذا الاستنتاج قد يصدم البعض ممن اعتمد معطيات النص الخارجية لإصدار حكمه النقدي. وهذا البعض أو الرأي بحدّ ذاته هو أحد ضحايا مراوغة الكاتبة، بالأحرى مراوغة اللغة. فاللغة هنا ليست سوى وسيلة مباشرة للوصول إلى أغراض معينة. وإذا اعتبرنا لغة الكاتبة المبسّطة خطوة باتجاه القارئ العام، نجد ركيزة أخرى تضعها الكاتبة بوعي تام في هذا السبيل، هي المادة السردية أو التيمة. فجميع موضوعات القصص مستقاة من الواقع الشعبي والذي يجعلها تبدو قطعة من حياة الناس.

بعبارة أخرى تسعى هذه القراءة لاستبطان مغاليق النص وتفكيكه لتحقيق قراءة أو قراءات جديدة لا تستسلم لمهاوي القراءة الأولى. ويمثل المنظور الاجتماعي أحد مستويات هذه القراءة. نجد أن القصص اعتمدت شخصية محورية موحّدة قامت بدور الراوي أو الراوية والبطل في آن واحد. أما مواصفات هذه الشخصية فهي: شخصية أنثوية (امرأة)، عمرها في الخمسين، متزوجة ولها زوج وأبناء، أنها تعمل لتقوت نفسها وعيالها. هذه المواصفات تجعل حياتها شبه مثالية وخالية من الإشكالات والمنغصات، فماذا لديها لتقوله إذن؟ هنا ننتقل للمستوى الثاني في مماحكة الشخصية لنجد أنها: تعيش منعزلة عن زوجها وأبناءها (1)، وأنها تقيم في بلد آخر بعيد عن بلدها الأصلي (2). والاستنتاج الذي يحضر للذهن هو الغربة والوحشة، ولذلك تقتات هذه المرأة على الانتظار وحلم اجتماع الشمل، وهي تستحضر مواعيد المناسبات العائلية والتراثية ((حفلة عيد الميلاد – أعياد الربيع)) وتقوم بإعداد مستلزمات كل مناسبة ثم تجلس منتظرة الطارق الأول، وخلال ذلك تعيش مع هواجسها وتداعياتها وبالشكل الذي يدعم لحمة القص. الانطلاق من هذه النقطة للحكم على القصص أو تجميد عملية القراءة واعتبارها مستوفية يمثل الاستسلام لمنطق المراوغة اللغوية للنص. وللالتفاف على ذلك لابدّ من مواصلة القراءة أو دفعها إلى مستويات أبعد، أي أبعد من النص نفسه.

لقد عبّرت الكاتبة عن حذق وذكاء حادّ عندما حصرت بطلتها وقصصها داخل هذه الفئة العمرية لتناسب رؤيتها القصصية. ولاسيما وأنها اختارت ربط جميع القصص بحياة بطلة تكاد تكون واحدة ومكررة في المجموعة. وقد تبدو المرأة الكاتبة أكثر ميلاً من الرجل الكاتب لتحديد عمر أو أعمار بطلاتها، فهي هنا في الخمسينيات، ولدى رشيدة الشارني مثلاً في الثلاثينيات، ولدى سميرة المانع في قصص ((الروح)) متفاوتة وفوق الثلاثين، ولدى الكاتبة الألمانية دوريس دوريه (1955) في الأربعينات في مجموعتها ((سامسارا)) الصادرة عام (1996) وهي بين العشرينات والثلاثينات في مجموعة ((ماذا تريد مني)) الصادرة قبل ذلك. ويمكن القول عموماً أن الفئة العمرية لبطلات كاتبة معينة هي الفئة العمرية التي تجد الكاتبة نفسها فيها أو تحب أن تبدو ((تبقى)) فيها. فكاتبة قصص الأطفال السويدية لندنبيرغ بقيت تعيش شخصية الطفل الصغير (دون الخامسة) التي كتبت له وكانت حجرتها مليئة بلعب الأطفال ودمى الحيوانات حتى وفاتها في التسعين من عمرها. بينما يندر اهتمام الكتاب ((من الرجال)) بتحديد فئة عمرية موحدة لأبطالهم لمقاربة الجوّ النفسي والفكري للقص.

إن التوقف لدى هذه النقطة يمنح مفهوم الانتظار المتكرر ((إليك عني يا همومي – سأعود بعد ساعة – أعياد الربيع – حفلة عيد الميلاد)) بعداً نفسياً وسوسيولوجياً ينقذه من الفهم المجرد أو السطحي للأشياء. الانتظار كقيمة وجودية يكتسب معناه من أمرين، الدافع والمتوقع. أما الانتظار لمجرد الانتظار وبالشكل الذي ربط بانتظار غودو، فليس كافيا لمنحه بعداً فلسفياً أو وجودياً لا يتبناه النصّ. بتعبير آخر أننا بدل الإحالة خارج النص علينا التدرج مع النص نحو الخلف هذه المرّة، لاستكناه جملة الظروف التي رسمت "خارطة المرأة الروحية" [1] في مجموعة ((امرأة سيئة السمعة)). ولنا في هذه المراجعة التراجعية من المبررات والضرورات ما يجعل تجاوزها أو القفز عليها قفزاً على النص نفسه. منها:

العنوان: امرأة سيئة السمعة: وهو عنوان مشحون مليء بالقسوة والاحتجاج الداخلي والاجتماعي في آن. ولم يكن من السهل رفعه بمثابة لافتة في مظاهرة صامتة من غير استهداف أغراض وإشارات حافلة داخل النص. وعلاقة القرابة التي تربطه بعنوان قصصي مشهور ((بيت سيء السمعة)) [2] ليس مبرراً لتجاوزه أو عدم الالتفات لديه، لأنّ وروده هنا ضمن حيثيات الواقع العراقي أو ضمن القاموس السياسي لإرهاب الدولة يمنحه عمقاً يتجاوز البعد الاجتماعي الذي رمى إليه نجيب محفوظ في قصته. وإذا كان غمط النص في القراءة النقدية مما يؤسف له في الثقافة العربية فأن اختزال القراءة في النقد العراقي يقارب خيانة الواقع. إن كل نقطة وفارزة وفراغ في ((نص)) هي جزء من فكر ودم وأعصاب المؤلف التي استلبت ذاكرته ووقته وحياته، والمؤلف هنا – أي مؤلف- ليس حالة نرجسية ذاتية خاصة قدر ما هو إفراز اجتماعي وصورة مرحلة تاريخية تتطلب منا جميعاً مهاصرتها فكراً ونقداً بعد أن هصرتنا واقعا وسلوكاً. أن كل شيء عراقي وما يمت للعراق اليوم يعاني من تلوث البيئة الذي مسخ العراق طيلة أربعة عقود، والنص الأدبي هو الذي يساعد في قياس درجة التلوث ونسبة السموم المترسبة في دماءنا. والهروب أمام النص، أمام الواقع، يعني الاستمرار في معاناة التلوث ونقله نحو المستقبل، بينما يستطيع النص تحرير الذات من درنات المراحل الفاسدة في تاريخنا. وامتياز ((امرأة سيئة السمعة)) انتماءه الجريء والهادئ للأدب الاجتماعي السياسي النابع من إشكالية الجغرافيا السياسية المنحرفة في العراق.

لقد انطلقت القاصة المبدعة صبيحة شبّر في مداخلتها الاجتماعية من (حساسية) مفهوم الشرف في التراث الاجتماعي العراقي؛ وهو الثقب الذي وضع الحكم البعثي الصدامي إصبعه فيه لقلب المزاج الاجتماعي والمجتمع العراقي - عبر جملة من الممارسات المخططة- رأساً على عقب. إن تعلق النظام بهذا الموضوع عبر وسائل عديدة ما يزال طريّـاً ونيئاً في الأدب العراقي ودراسات الواقع العراقي ويحتمل من البحث والتوثيق مئات المجلدات، ولكن المعالجة تقتضي درجة كبيرة من الدقة والموضوعية والابتعاد عن التهريج أو الأيديولوجيا. إن الخطاب السياسي ليس واضحاً خلال المجموعة، وهو مدفوع إلى الخلف بإحكام ودقة جامدة كأرشيف صامت. تناولت الكاتبة قطعة صغيرة منه، كلمات ثلاثة فقط وعلّقتها في واجهة إصدارها القصصي، كأنها تراوغ مخيلة القارئ أو ربما العكس أيضاً. تفعل ما فعله جان بول سارتر عندما رفع كلمات ثلاثة على واجهة كتابه: (عارنا في الجزائر)، كلمات مليئة بالصراخ والاحتجاج والعار أيضاً، لدمغ مرحلة كاملة ونظام عاتٍ وأيديولوجية منحرفة. فهل تستطيع صبيحة شبّر تحقيق ما حققه سارتر في المجتمع العراقي لتنظيف مرحلة كاملة من الخزي منقطع النظير.

المفارقة أو المراوغة الأولى إذن، هي استخدام تعبير اجتماعي ذي مغزى سياسي لوصف مرحلة ((وليس امرأة)) منحرفة كاملة.

2- تغليب المنظور الاجتماعي على المعالجات القصصية في المجموعة رغم ارتباطها أو تدرجها من ظلال سياسية قاتمة.

3- الخطاب السياسي لم يتكشف إلا في القصة التي حمل عنوانها الكتاب، بينما تناثرت ظلال أخرى في أكثر من قصة وبالشكل الذي ينعكس في تشظي العائلة وتشرّدها في المنافي.

4- العنوان الذي وسم الكتاب وتجلى في القصة (ص 25) بربطه بحالة النفي/ الهجرة تحول إلى إطار عام يؤدي إلى عدّة مداخل، ويربط معاناة العراقيين في الخارج بمعاناتهم في الداخل والتي تنبع من بؤرة واحدة.

5- إن مغزى الانتظار ضمن هذا التداعي يتجاوز البعد الاجتماعي للقاء الزوج أو لقاء الأبناء إلى لقاء الوطن.. الوطن كمنظومة ثقافية اجتماعية تعرضت للوأد والمسخ على أيدي العسكر ومسالخ الأيديولوجيا القومية عبر أربعة عقود. فالربط بين مفهوم الانتظار المكرر في المجموعة و((انتظار غودو)) يستند إلى قراءة سياسية لغودو العراقي وليس المفهوم الفلسفي الوجودي الذي اعتمده مسرح العبث لصموئيل بيكيت.

إن الشخصية المحورية لبطلة القصص تصدر عن اضطهاد عائلي مزدوج على أيدي النظام. اضطهاد عائلتها الأصلية وأخوتها، ثم اضطهاد وملاحقة زوجها وإجبارها على تركه، وإجبار بعض أفراد عائلتها من قبل السلطة لمطالبتها بتركه والانفصال عنه تحت ادعاءات مختلفة ومختلقة. وعدم الرضوخ لمطالب السلطة الشوفونية والإصرار على المبدأ الشريف وراء عملية الإسقاط الاجتماعي لمعارضيه بعد العجز عن إسقاطهم سياسياً. ويمثل تدخل السلطة في خلخلة العائلة العراقية لتحقيق مآربه السياسية أحد سياساته العريضة، ومن هنا التداخل والتماهي الاجتماعي السياسي في هذه القصص.

وماذا بعد؟؟!..

إن طرح تيمة بهذا البعد لابدّ أن تستند إلى مغزى، وأرشفة الماضي للعمل على معالجة آثاره، وبالشكل الذي طرحته الكاتبة يتضمن توجهاً نحو المستقبل أكثر من فكرة نبش الماضي وتقليب المواجع والاتهامات. الماضي، أربعة عقود من الانحراف والهدم، لن تنجو من الدراسات الأكاديمية ووثائق الشهود. ولجوء الكاتبة إلى القصة إطاراً للسرد بدل الرواية إشارة عميقة إلى عدم الرغبة في نبش الذاكرة، على غرار الكتابات التي تناولت العهد النازي في ألمانيا. وسؤال الكاتبة من خلال رفع شارة الانتظار في أواخر القصص جميعها تقريباً يتجه للمستقبل، ينقل الإشكالية العراقية من مرحلة العلـّية ((لماذا)) إلى مرحلة المعالجة والبناء ((ماذا بعد)). هل يمكن القول أن سؤالاً مثل هذا ينطوي على ما يكفي من العبث لذكر غودو مرة أخرى، أم أن ثمة أمل حقيقي يمكن وضعه على حافة الجرح العراقي الفاغر لتطييب ذاكرة الجيل الطالع.

ماذا لو... السؤال المحذوف في القصة العراقية

العروج على جغرافيا الذاكرة العراقية وأطلال الماضي ينعت غالباً بالنوستالجيا وعقدة الماضي أو أية صفة أخرى مستقاة من تفكيك الذات العربية؛ ثمة زاوية أخرى بقيت مظلمة في الدراسات الأدبية والأكاديمية، والتي اصطلحنا عليها ((ماذا لو..؟)) القائمة على إعادة دولاب الزمن للخلف واختزال أو إضافة عوامل معينة؛ وفي هذا السبيل، فلو لم يحصل انقلاب 1958 لما سيطر العسكر على الحكم منذئذ؛ ولو لم يفشل مشروع عبد الكريم قاسم لما وصل حزب البعث للسلطة، ولو..... لم يصل صدام حسين للحكم ويستفرد بالسلطات لما....

حصل كل ما حصل ويحصل لنا وللعراق!..

التصفيات الجسدية والفكرية، حملات التهجير، تشويه بنية المجتمع والديمغرافيا العراقية، الحروب المجنونة، حملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفكري، المقابر الجماعية، الحصار الدولي والإقليمي الوحشي ضد الشعب العراقي، إخراج العراق من دائرة القوى السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط والعالم، وقوع العراق والمنطقة تحت الهيمنة الأميركية المباشرة، قوافل المنفيين، الآثار النفسية والاجتماعية لثلاثة عقود من الانحراف الشمولي، تدمير البيئة الطبيعية والزراعية وانتشار التلوث والأوبئة في المياه والهواء والتربة، الولادات المشوهة... ظهور أجيال منفى وأدب منفى.. ترسّم ملامح جديدة في خريطة الذات والثقافة العراقية.. تقتضي الكثير من الجهد والدراسة والعمل الدءوب لبناء متين ومستحكم في وجه التغيرات الطارئة.

في ظل هذه الرؤية يمكن تأويل أو تقديم فهم جديد لجملة من القص العراقي التخيلي أو الذاكراتي الذي يحاكي مقاطع طولية أو عرضية من واقع عراقي ما قبل التلوث. فقصص ((أعياد الربيع، حفلة عيد الميلاد)) في هذه المجموعة وقطاع من قصص مراوغة أخرى من كتاب المنفى تدخل في هذا الباب. خطوة باتجاه سيرورة العادية التي انقطعت مع أواخر السبعينيات. محاولة لتطهير الذات وإعادة الشخصية العراقية إلى صفاءها ونقاءها الأصيل بعيداً عن ترهات الطارئين. هذه المعالجة أو المداخلة تأتي في وقت تحتدم فيه دعوات سيكولوجية منحرفة للدفاع عن البطل القومي أو تعظيم هزائمه وكوارثه مما يمثل إضافة وتنويهاً واجب الذكر!.

البنية السردية لدى صبيحة شبّر..

اختارت القاصة فن القصة القصيرة لموضوعة تصلح لرواية توفرت لها المقومات الفنية والتاريخية وإمكانيات السرد الذاتي. جاءت القصص ((أربعة عشر قصة قصيرة)) في أسلوب السرد الذاتي متفاوتة بين التداعي والمنولوج والصوت الخارجي المتناغم مع الذات كما في صوت المذياع (أنا بانتظارك) في القصة الأولى (ص 7). أو الانتقال إلى الابن (ص 25) أو الآخر في قصة (المطاردة ص 39). أما المؤلفة فتكاد تختفي تماماً خلال المجموعة أو تتخفى داخل البطلة، أو أن البطلة تتقمص المؤلفة وتعبر عما تريده منها. وفي قصة ((وليمة)) التي يقوم فيها ابن بذبح حمامات أبيه العجوز التي يراها مثل أولاده، ليصنع منها وليمة لأصدقائه، تستخدم الراوية صفتي ((أبي/ أخي)) لكل منهما، للاستمرار في وظيفة الراوية دون أن يكون لها دور مباشر في الأحداث. وربما بدت القصص بمجموعها سلسلة أحداث ومواقف تعرضت لها البطلة وعرضتها في صور قصص مقتطفة من بستان الذاكرة، في عملية تداخل عضوي بين السيرة الذاتية والسرد الفني.

المراوغة بين اللغة والنص

وتحتفي القاصة بشكل خاص بالمفارقة أو المراوغة اللغوية لتخفيف الضغط النفسي للقصة. ويظهر ذلك في طريقة اختيار عناوين القصص التي لا ترتبط بالتيمة الرئيسية للقصة وإنما تشير إلى تيمة جانبية، أي أنها لا تصف اللوحة وإنما ما يظهر بجانبها وهي مفارقة لدى مقارنة أو مطابقة العنوان مع النص. ففي القصة الأولى (إليك عني يا همومي) تمثل أغنية أم كلثوم ((أنا بانتظارك)) مفتاحاً سردياً تبني عليها تداعياتها النفسية والذهنية التي تدور حول تيمتين متداخلتين ((الحبّ والانتظار)) وتسخر فيها من فكرة الانتظار وعبثه. والمفارقة الأخرى تظهر دائماً في السطر أو المقطع الأخير بما يشبه البتر/ القطع والكولاج للاحتفاظ بالأمل. وفي قصة (المهجّرة) تتعرض للتهجير القسري الذي طال آلاف العوائل العراقية وبأساليب وطرق وحشية مختلفة. ((عائلتي كانت سعيدة ومتماسكة. لم يرد أحد الفراق. أرغموا على الذهاب إلى أماكن مختلفة. زوجي جاءوا وأخذوه إلى منطقة نائية قال أنه سيعود بعد ساعة وأنه مطالب أن يجيب على بعض الأسئلة. وعدني أنه عائد حتماً وطالت غيبته ((...)) ولدي الأكبر خرج واعداً أياي بالعودة بعد ساعة والساعة تكبر وتتضخم وتتضاعف وتتناسل والرعب يجتاحني ((...)) ابنتي الوحيدة ذهبت لزيارة صديقتها طلبت منها أن لا تخرج ثم تراجعت عن طلبي فهل أقيّد ابنتي؟ طال انتظاري لأوبتها. كلّهم رحلوا وما كانوا يريدون الرحيل.)) ص 14. أما على صعيد الفعل فتستخدم البرد دالة على الهجرة في إشارة للظروف الجوية القاسية أثناء التهجير عبر الحدود مشياً على الأقدام وعدم وجود مخيمات أو ملاجئ إنسانية دولية تحميهم وتحفظ كرامتهم. ومصطلح ((المهجّرة)) في العنوان هو الآخر يحمل دلالة اجتماعية في العرف العام وفي قانون الأحوال الشخصية، عندما ترفض الزوجة طاعة الزوج أو قرار المحكمة الشرعية!. وقد وردت هنا بمضمون سياسي. وفي قصة (أعود بعد ساعة) ص 19 زوج يخرج لقضاء وقت مع أصدقائه واعداً زوجته بالعودة كما يرد في العنوان، ولكنه يتأخر. يذكر أن عبارة العنوان وردت في القصة السابقة لها وبدلالة سياسية هي الأخرى. وتتحدث قصة (امرأة سيئة السمعة) ، عن شخص (يسافر) ويترك مفتاح منزله الخاص لدى أخيه الذي يشي بزوجته ويسمح لجمع من الرجال بدخول المنزل ثم يبلغ السلطات بعلاقة زوجة أخيه بأولئك فتذهب ضحية وشاية. وهذا هو عنوان القصة التالية/ ص 33 وفيها تستلم البطلة اتصالاً هاتفياً من امرأة تقول أنها تعرفها وتعرف منزلها وغرفة نومها وتعرف زوجها الذي تثق به. ويدفع ذلك البطلة لمغادرة المنزل وقيادة السيارة بسرعة عالية حتى يوقفها البوليس. و(المطاردة) التي قد توحي بها القصة السابقة في مشهد السيارة، عنوان قصة تالية يلاحق فيها شخص ظل امرأة معتقداً أنها زوجته ويبدو في هذه القصة كما (امرأة سيئة السمعة) دور الدجل والتواطؤ الاجتماعي في إلحاق الضرر بالغير. أما قصة (البناية) ص 45 فتبقى أسيرة الغموض والتورية. وتتحدث قصة (الانتظار) ص 51 عن امرأة تعاني من حالة النسيان وتنتظر دورها للمعالجة الطبية في قاعة تحفل بالمنتظرين. أما (الطاعون)57 فيرد في جمل تحذيرية منه وشخص يتسلق بناية ليكتب قصائده. وتطغى الرمزية على هذه القصة دون أن تخفى الدلالات. مثل ذلك قصة (ساق للبيع) ص 63 قصة زوج فقد ساقه في الحرب ولا يستطيع تغطية تكاليف العلاج فيضطر لبيع ساقه السليمة لمعالجة ساقه المبتورة بكل ما تحمل من فنطازيا ورمزية.

كما تعكس القصص احتفالاً بالعادات الشعبية والطقوس التراثية التي تعرضت هي الأخرى للمصادرة مثل مجالس العزاء الحسينية (ص 71) أو (أعياد الربيع) ص 85. إن ظلال السياسة المباشرة أو غير المباشرة لها حضور في كل القصص. بعبارة أخرى أن الدافع السياسي هو المحرك الأساس لهذه القصص، حاولت المؤلفة الالتفاف عليه من خلال الآثار الاجتماعية المترتبة على العائلة العراقية جراء ذلك والأسئلة المفتوحة حولها. حاولت المؤلفة في البداية متابعة سياق محدد في تطور الحدث ولكنها انقطعت عنه وتأرجحت بين الخطاب الاجتماعي والسياجتماعي. وتبقى القصص بعد ذلك التقاطات ذكية لجملة مفردات تشكل جوانب المشهد العراقي الإشكالي المفتوح على تأويلات واحتمالات وأسئلة لا تنتهي.


[1تعبير استخدمه الشاعر والناقد حسن النصار في قراءته لصورة المرأة في قصص لطفية الدليمي – راجع: مجلة ضفاف الثقافية ع 5 لسنة 2000/ عدد خاص.

[2نجيب محفوظ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى