الخميس ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

الشامة

كانتْ عشيَّةً محمومة تلك التي قضاها صديقي ومُعاشري (حميد) مع عشيقتِه الجديدة (حياة).

يحكى أنّه استابحها إلى أبعد الحدود، وذلك ليس لأنّها بجمال المطربة اللعوبة (نانسي)، بل بسبب وضعِها الاجتماعي المُفارق لوضعِه: فهي من عائلة ميسورة، وزوجُها مسؤولٌ بنكيٌ كبير، ولها سيارةٌ يابانية رُباعية الدفع ، وانخراطٌ غير مشروط في شبكة الهاتف والإنترنيت، وحقيبةُ يَدٍ مليئة بمواد التجميل والصيانة وبطاقات الائتمان والأوراق النقدية الزرقاء؛ في حين لا يملكُ صديقُنا سوى بعض الكفاف، ودرّاجة عادية ثلاثية الدفع، وهاتفاً محمولا من النوع الذي تنساه فيأتيك به (المحسنون)، وحقيبة ظهر مليئة بالأوراق التي تستعمل في نهاية السنة لتعبئة بذور عبّاد الشمس المحمّصة، وقطعاً نقدية صفراء على الدوام.

ـ (الشاتْ) عبر الإنترنيت نعمة ونقمة. قال حميد.
وهو مدرّسُ فلسفة ومُطلّق وله طفلة تعيش الآن مع والدتها.
ـ طلّقتُها لأنّها دميمة. يقول حميد.
ـ أنا لا أراها كذلك، فهي ككُلّ النساء تملكُ نصيبَها من الجمال. قلتُ.
ـ بل هي دميمة، وأنا لا أحبُّك أن تُطيِّبَ خاطري بكلام المُواساة.
ـ ولماذا تزوّجتَها إذن؟ قُلتُ بغضب.
ـ كُنتُ ماركسياً كما تعلم... كنتُ أومنُ بالجمال الباطني وجمال الوظيفة. قال.
ـ وهل هناك أجمل من هذا الجمال؟ قُلتُ، فردَّ وهو يتمايلُ من الخيال:
ـ ليس هناك أجمل من الجمال المرئي... الملموس... الجمال الجسدي الذي ترتاح له الجوارح... امرأةٌ بجبهةٍ عرضُها البحرُ الأبيضُ المتوسط، ولها من الشعر ما يدفئني في الليالي الباردة، وأنفٌ مُستقيمٌ بأرنبة نافرة قليلا، وخدّان أسيلان ينحفران كلّما ابتسمتْ، وشفتان شهيّتان يتَّسِعُ انطِباقُهُما لِتِسْع وعشرين قُبلة، ونهدان يرتعِشان لرفرفة فراشة، وسُرّة ضامرة بيد أنّها عامرة بالأسرار، وقدٌّ تحسِدُه عليه ملكاتُ النّحل، و...
ـ كفى! صرختُ.

ولأجل إقناعي بوجهة نظره المتأخِّرة في (مسألة الجمال) رجع بي إلى مجال الأدب (تخصُّصي) وقال:
ـ هل سبق لك أن درستَ أو سَمِعْتَ قصيدةَ غزل في امرأة لها شارب؟ في إشارةٍ إلى (عائشة) طليقتِه.

بالأمس شدَّ على رأسِه وبكى في حضني:
ـ لقد تسبّبْتُ في تشتيت أسرة كانت تعيشُ بسلام... أنا مجرم. قال؛ وفي الغد اختفى.

ترك كلّ ما يملك في غرفتِه واختفى. وبعد أيّام، تناسلتِ الأقاويلُ عنه؛ فمن يقول إنّه تزوّج نصرانية وهاجر إلى بلجيكا (بدليل طلبه رخصة مغادرة التراب الوطني)، ومن يقول إنّه تصعَّدَ أحد جبال الأطلس الكبير (حسب شهادة أحد معارفه الذي رآه في قرية أوريكا الجبلية)، ومن يقول إنّه ترك مِهنة التعليم واشتغل (مُطرباً) في أحد الكاباريهات بمدينة الدار البيضاء، ومن يقول إنّه يتنقّلُ عبر الأسواق الشعبية الأسبوعية يبيع الأعشاب الطِّبِّية، ومن يقول إنّه رآه في ساحة (جامع الفنا) بمراكش، في حلقة يحكي قصص الإليادة والأوديسة و(جلجامش)، وقصة سيِّدِنا (يوسف) مع (زليخة) زوجة عزيز مصر، وقصة (جان بول سارتر) مع (سيمون دي بوفوار)، وقصة (شهريار) مع زوجته الخائنة...بلْ يُحكى أنّه حكى حتّى قصة المرحوم (حامد ناصر أبو زيد) المصري عندما اتُّهِمَ بالكفر والإلحاد وحاولوا تطليقَه من زوجته...

آنذاك وجبَ عليَّ السفرُ إلى مُرّاكش لاقتناعي بإمكانية هذه الرواية الأخيرة، وفي (الساحة) أُخبرتُ بأنَّ شخصاً مُلتحياً مُتّسِخاً وحافياً حكى للناس ليلا وشهْراً حكايات تدور حول موضوع الخيانة الزوجية والوفاء، ولكنّه اختفى.

فعدْتُ إلى غرفته أفتِّشُ في أوراقه وحقائبه وفي دروسه وملابسِه، فلم أجد ما يمكِّنُني من حلِّ لُغْزه.

ـ كلُّ ما أعرف هو أنّه كان مُحبَطاً. قلتُ للمدير، فردَّ:
ـ لقد عوّضناه وأخفينا أمرَه عن المسؤولين شهراً وزيادة، واليوم، أراني مُجبراً على إخبار السلطات...

(التخلّي عن أداء المهمّة) معناه التشطيب عليك من الوظيفة العمومية وانقطاع الأجرة وهلمَّ جرّا من المشاكل.
لم تكُن لديَّ حيلةٌ أنا الآخر. الحقيقةُ هي أنّني صرتُ مهتمّاً بما جرى لِمُعاشِري أكثر من اهتمامي بما سيتعرّضُ له من عقوبات إدارية.

وأنا في حيرة من أمري، رنَّ هاتفي المحمول. كانت طفلتي التي اضطرّتني ظروف العمل إلى الابتعاد عنها. قالت:
ـ لماذا لم ترُدَّ على رسائلي الأخيرة على حاسوبِك (كومبيوتر) الشخصي؟

حاسوبي الشخصي؟ أذكر أنني لم أستخدمه لأكثر من ثلاثة أشهر، وكان (حميد) هو من يستخدمه. قطعتُ الخطّ على طفلتي وجريْتُ إليه: كلُّ شيء هنا تقريبا؛ تعارفهما، تبادلهما أرقام هواتفهما المحمولة، طلبُه لها بأن ترسم على وجنتِها شامة ولحظة إظهارها له عبر الكاميراـ ويب، وما تبع ذلك من (كلام العشق المحرّم وأفعالِه).

ركّبتُ الرقم، فإذا بامرأة على الخط:
ـ (حياة) تموتُ الآن في مستشفى الأمراض العقلية... من أنت؟
ـ أنا أحد زملائها عندما كانتْ تعملُ مساعدة مدير في شركة تصنيع الملابس الجاهزة.
ـ وأنا والدتُها.
ـ هل يمكن لي أن أزوركم؟
ـ ليس لدينا مانع يا ولدي.
تحكي الوالدة (واسمها الحاجّة غيثة):
ـ كانت ابنتي تعيشُ بخير مع زوجها وابنتِها (ليلى) المريضة بداء الربو، وذات عشية خرجتْ للقاء إحدى صديقاتها، وتركتْها في عُهْدة خادمتِها الصغيرة التي لم تعرف كيف تعالجها من نوبة الاختناق، فماتت المسكينة...

لم أتفوّه بكلمة، فشدّت الحاجّة أنفاسَها لحظة ثم استرسلتْ تقول:
ـ عندما عادت (حياة) وعلمت بما جرى، لم تدرف دمعة على ابنتِها، وإنّما جرت إلى المرآة، وشرعت تنظر إلى شامة على خدّها وتتحسسه، ثم بدأت تصرخ وتقول:(أرى الشامة تتمدّد وتنتشر... أرى وجهي يسْوَدّ) . وما كان وجهُها أسودَ. واستمرت تصرخ وتصرخ وهي تطلي وجهها بمختلف الأصباغ... المسكينة ابنتي؛ لا نعرف لحدِّ الآن ما جرى لها.

ـ وأيُّ نِعمة تراها في الإنترنيت؟ كنتُ قلتُ له.
ـ هي نعمة استكشاف الآراء والكتب والبلدان والأخبار والتواصل مع الأحباب. قال.
ـ هل لديك أحباب يا (حميد)؟ قلتُ.
ـ أنا لستُ وحشاً ـ قال ـ أنا أحبُّ طفلتي، ومهنتي؛ ولكنّني مهووسٌ بالجمال...
ـ وماذا تحبُّ آخر؟ قلتُ.
ـ أحبُّ العدالة.
هاتان الكلمتان آخر ما قالهُما الفقيد قبل أن يختفي.

واليوم أقول له من هذا المنبر القصصي، وبعد مُضِيِّ عشرين سنة:
ـ عُدْ إلى وطنِك وابنتِك، فـ (حياة) شُفيتْ وعادت لزوجها وأنجبتْ منه ثلاث بنات في جمال القمر، وطفلتُك (آية) مُطلّة على الزواج وترقبُ أن يحظُرَه والدُها المحبوب، والعديد من تلاميذك لا زالوا يذكرون تفانيك في العمل وعطفَك عليهم، وكُلاّ منهم صار مسؤولا على فريقٍ وأسرة، وأنا ما زلتُ أحبّك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى