الأحد ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

السر

من يراه يشك في أنه يعرف غاية الحياة، لتبقى الشكوك تلتف حوله كالأفعى، لتهتف بكلمة واحدة، أما أنه عبقري أو مجنون، بينما يتردد صديقه سنان في الحكم عليه، فيعلن له بوضوح وهو يجلس معه في المقهى، أنا لست بنبي كي أتنبئ بما ستقوله، لكنني مستعدٌ الآن أن أدفع الغالي الذي أملكه كي أعرف ما تريده!

يعدل جمال من جلسته، وهو يحتسي القهوة العربية المرة، ببطيء كالعجوز، وهو يدمدم دون انقطاع، ما أريد أن أقوله لك يا صديقي، أن السعادة التي أتمتع بها الآن تجعلني كالطائر الذي لا يريد أن يحطُ على الأرض مرةٌ أخرى!

يقاطعه سنان مستفسراً، لابد من هناك سبب يجعلك متفائلاً وسعيداً إلى هذا الحد!
يردُ عليه مبتسماً، وماذا تعتقد، هل أنا مجنون كي أكون سعيداً بلا سبب، سامحك الله، ويستمر في ثرثرته، فيرتشف القهوة سريعاً هذه المرة! يدفع لسانه بعيداً عن فمه كالثعبان، وكأنه يريد أن يبصق، ليقول لتنزل على رأسي الآن صاعقة إذا كنت أكذب. سأقصُ عليك حادثة، عشت تفاصيلها قبل لحظات، بل قبل أن ألقاك هنا، لكن عليك أن توعدني بأن لا تخبر أحد بتفاصيلها أبداً .

نعم، أوعدك، قل ولا تخاف، فسرك سيموت في بئر عميق القاع، لا تصله يد أطلاقاً .
لا أعلم من أينَ أبدأ، يجيبه بخبث الثعلب، ولكني سأقص عليك الحكاية على الرغم من إني لا أستطيع أن أمسك نفسي من الضحك والسعادة!

أراك لا تملك شيئاً تقوله، أنت تلعب معي بالكلمات أو على أعصابي التي باتت ساخنة وتكاد تحترق، قل ما عندك يا أخي وأعتقني ما هذا أعوذُ بالله .

لا تثور ولا تتهور يا صديقي، فما سأقوله، قد يجعلك تسقط على الأرض مغشياً عليك ولا يستطيع أحد أن يسعفك، لأنك ستموت حتماً من المفاجأة مباشرةً، وأنا أخاف عليك وأنت أعز صديق أعرفه، كما أني أحبك كثيراً وأحترمك وأقدرك وأنت تعلم بكل هذا، ها ... أخبرك بما حصل أم أصمت؟

قلت لك، لم أعد السيطرة على أعصابي، وتوقع بأني سأجهز عليك بأسناني ...
تريث يا عزيزي وأعطني فرصة لكي ألتقط أنفاسي، إلا يكفي ما رأيته قبل لحظات، ما هذا، اللعنة على الشيطان، أنك لا ترحم أحداً أبداً، فما تعودت من طبعك كل هذا اللؤم والجحود!
يجيبه سنان حائراً، لو كنت أعلم بأني سألقاك هكذا رائقاً، لجمدت أعصابي، كي أتحمل ما ألاقيه من ثرثرة على ما يبدو لا نهاية لها!

حسناً ...، حسناً، سأخبرك، ولكن قل لي أولاً، ماذا تفعل أنت إذا صادفك ما صادفني اليوم؟ ها ... أجبني !

أستغفر الله، أجيبك على ماذا؟ هل قلت شيئاً حتى أجيبك عليه، يقول ذلك صارخاً بعد أن فقد توازنه في التحدث، ضرب الطاولة التي أمامه بقبضة يده بقوة، فرقصت فناجين القهوة رعباً!
هدأ من روعك يا صديقي، فنحنُ في مكان عام، والجميع هنا تقريباً يعرفوننا، ماذا سيقولون عنا؟ ها ... جننا أم أننا نتشاجر في توزيع الميراث؟! أسمح لي أن أقول بأنك مندفعٌ جداً، وصبرك يابساً يكسر بسهولة، تحلى يا رجل بالإيمان ولا تكفر، ماذا أقول، أنظر فصاحب المقهى يشاهدنا مستغرباً، تبدو علامات الحيرة واضحة على وجهه، وكأنه يسألنا ما الذي أصابنا، أنظر إليه بإمعان، أنه يقول في سره ، بأننا لم نتربى جيداً، بل فقدنا رشدنا المعهود وأصابنا الخبل! أرجوك كن متزناً، هادئاً ووديعاً، لاحظ يا عزيزي بأن من يراك في هذه اللحظة سيقول بأن هذا الرجل سوف لن يعيشَ طويلاً، أنصت لما سأقوله...، ولكن أوعدني بأن لا تقاطعني عندما أتحدث؟!

يقول له وهو يصر على أسنانه غاضباً والشرر يتطاير من عيونه كعاصفة من الغبار، نعم أوعدك ولكن قص عليّ حكايتك أو السر كما تدعي دفعة واحدة دونَ تردد وبلا لف ودوران!
إذن أسمع ما سأقوله جيداً ولا تقاطعني، ثم يرتشف ما تبقى في الفنجان من قهوة بعد أن أصبحت باردة فيردفُ قائلاً:

جلسَ أحدهم على خشبة المسرح يحتسي الشاي ببطيء شديد مع مجموعة من أصدقائه وهم يتسامرون كالمنافقين، بأمور تافهة جداً، ويستمر الحال بهم هكذا، ثم يضجر المشاهدون مما يرون أمامهم، فليس هناك من ثمة مسرحية أو حوار أو تبادل أدوار ولا شيء على الإطلاق، سوى الملل والضجر الذي أنتابهم من متابعة هذا اللغو الغير مجدي، فبدأ المشاهدين برميهم بقصاصات الورق وهم يشتمونهم ويلعنونهم بالسباب، وتعالت الأصوات شيئاً فشيئاً لتصل حد أن أحدهم رفع أحد الكراسي عليهم وهو يصرخ كفاكم جنون واستهتار بنا هيا أغربوا من وجهنا حالاً وإلا سترون ما لا ترغبون ...!

عندها فقط، نهض أحدهم وعلى ما يبدو كانَ البطل فقال، لماذا كل هذا التذمر، فنحنُ لم نمثل إلا دور واحد مختصر جداً، بل جزء يسير وجانب ضيق من حياتكم التي تحيوها، فأعلموا إذن بأننا لم نمثل سوى حياتكم الروتينية التي تنقصها الحياة أصلاً...، فنهض الجمهور مصفقاً له وقالوا بصوت واحد أنكم جادون في التغيير...

إذن عليك يا صديقي أن تعلم، بأننا نحيا في غالبية الوقت دون هدف واضح، ولا نعلم من أسرار الحياة إلا النزر القليل، حتى إيماننا ومعتقداتنا جاءت إلينا عن طريق السمع وليست الرؤيا أو المعاشرة، وأن حياة الإنسان لا ينقصها الجد يوماً، وما نفعله وما قمنا به إلا حوادث مملة ومعادة لضروب مختلفة ولصور شهدناها مراراً، حتى أننا نكاد نتقيأ لو مارسناها ثانيةً لتكرارها، فقد اجتهدنا بممارستها اجتهاد الموسوسين، عزيزي أن يكون في حياتنا شيء جديد أو حدث يجعلنا نشعر بالسعادة أو الأنعتاق أو التحرر من القيود التي باتت تخنقنا حتى في نومنا.
فسرعان ما نحاول بكل ما أوتينا من قوة أن نجهز عليه ، لماذا؟ إلا يكفينا ما رأيناه منذ ولادتنا وحتى هذه الساعة؟ هل رأيت شيئاً مغايراً أو مختلفاً، مما نحياه دونَ رتابة أو ملل؟ وها أنا أراك تجلس أمامي كالمصعوق تريد ألتهامي نياً، لتعرف الحكاية على الرغم من أني لا أملك ما أقوله، سوى أريد أن أكون للحظة مجنوناً لا أنتمي إلى الواقع الذي نحياه، أصنع اللحظة هذه بنفسي لأعيشها كما أريد ولو لمرة واحدة، هل هذا كثير أو غريب أو مريب يا صديقي ؟ وها أنت قد عرفت الآن سري، فلا تخبر أحداً أرجوك بتفاصيله، كما وعدتني، كي لا تقع عليك اللعنة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى